القذافي يُمهِّـد لتوريث الحُـكم لسيف الإسلام بالتخلّـي له عن الملفات الداخلية
لم يمْـضِ أسبوع واحد على إعلان العقيد معمر القذافي (69 عاما) في اجتماع كبير في سَـبْـها، عن رغبته في وضع نجلِـه سيف الإسلام على رأس النظام السياسي في ليبيا، حتى استكملت الهيئات المُكوّنة لـ "الحكم الجماهيري" مُبايِـعة الأخير على رأس السلطتيْـن، التنفيذية والتشريعية.
ولا تدُل هذه العَـجلة على الرّغبة في السيطرة على الوضع وقطع الطريق أمام أي اعتراضات فحسب، بل كذلك على أن العملية كانت مُرتّـبة سلَـفا، وليست من وحْـي اللحظة، كما أن الإفراج عن 88 عُـنصرا من السجناء السلفيِّـين، غالبيَـتهم من “الجماعة الليبية المقاتلة”، بعد استكمال تسلّـم سيف الإسلام منصِـبه الرفيع الجديد، شكّـل خطوة مشابـهة للخطوات التي يُدشّـن بها أي رئيس دولة جديد عهده، بعد الإعلان عن فوزه أو بعد مُـباشرة مهامِّـه.
لم يُـنتخب سيف الإسلام (37 عاما) لأعلى منصب تنفيذي في الدولة في استفتاء شعبي أو انتخابات عامة، وإنما سلَـك نهْـج والِـده من خلال انقلاب أبيض أربَـك الدوائر المُـناهضة لهذه الخُـطوة في “اللِّـجان الثورية”، فلم تتجاسَـر على مُـعارضة رغبة القذافي الأب، وهو مرجعها الأعلى، الذي سيبقى في كل الحالات “قائدا للثورة”.
وما من شكٍّ في أن هذه النّـقلة الكُـبرى لم تُفاجِـئ أعضاء “القيادات الشعبية”، التي كانت تعلَـم أن تسمِـية سيف الإسلام في أعلى هَـرم السّـلطة، هي مسألة وقت. ولوحظ أن اثنين على الأقل من الحاضرين في اجتماع طرابلس، الذي صادق على المبايعة، وهما خليفة شبيعان وعبد السلام بن سعيد، ركّـزا مداخلتيْـهما على تاريخية التّـحضير للخلافة، مؤكِّـدين أن “القائد ظلّ يُـمهِّـد لهذه اللحظة منذ عام 1995”.
وأظهر شبيعان في استعراضه لتلك المحطّـات، أن القذافي أرسى مفهُـوما مُحدّدا لـ “المنسق العام” (الذي سيتولاّه سيف الإسلام)، اعتبارا من تلك السنة مانحاً إِيَـاه دَورا واسِـعا، إذ عرّفه على أنه “هو الذي يحرِّك القيادة الشعبية كلها في الجماهيرية، والقيادة الشعبية تُـحرِّك المؤتمرات كلّـها والمؤتمرات تُـحرّك اللجان الشعبية كلها”.
وبحسب معمر القذافي في خطاب ألقاه في السنة الموالية (30 أبريل 1996)، فإن “القيادة الشعبية” ينبغي أن تحلّ محَـلّ مجلس قيادة الثورة، الذي اندثَـر منذ أواخر السبعينات، ويمكن العودة إلى خِـطاب آخر ألقاه القذافي قبل أكثر من عشر سنوات، وتحديدا في الثالث من مارس 1998 ومنح فيه “القيادة الشعبية” سُـلطات مُـطلَـقة تُخوِّل لها مراقبة كل اللِّـجان والهيئات والهياكِـل السياسية في البلاد، فهي “ليست مِـهنية ولا محرِّضة، مثل اللجان الثورية، ولا تُـمارس السلطة، مثل المؤتمرات الشعبية، ولا تنفِّـذ القرارات، مثل اللجان الشعبية، وإنما هي فوق كلّ هذه الأشياء”.
وكان الزعيم الليبي أكثر وضوحا في 2 مارس 2000، عندما أكّـد أنه “ليس هناك أعلى من القيادة الشعبية، فهي ترسِّـخ سلطة الشعب وهي المِـظلّـة فوق أمانة مؤتمر الشعب العام (البرلمان) واللجنة الشعبية العامة (الحكومة) والأمن، وكلّـهم لديهم عِـلم ٌبذلك”، مشيرا إلى أن “المُـنسِّـق العام، يُـصبِـح بمثابة رئيس دولة في يوم ما”، وهذا ما تحقّـق بموافقة “القيادات الشعبية” في 17 أكتوبر 2009 على تسمية سيف الإسلام منسِّـقا عاما لها.
والظاهر، أنه لم تُسجِّـل اعتراضات على تلك الخطوة بعد استصدار مُـوافَـقة من “القيادات الشعبية” في مختلف المدن، وخاصة المناطق الثلاث التي كانت تؤلِّـف “المملكة الليبية المتحدة”، قبل دمجها في ظل النظام الجمهوري، وهي طرابلس وبنغازي وسَـبها، إذ أقرّ المنسقون العامون لـ “القيادات الشعبية” تلك التسمية، لتُـصبِـح نهائية.
وتتكوّن هذه القيادات من وُجهاء القبائِـل والمناطق، الذين يُـعدّون، نظريا، أصحاب أعلى سُـلطة تنفيذية في ليبيا، لكن من غير المُـستبعد أن تتوسّـع حملة المُـبايَـعة في الفترة المُـقبلة، إذ أكّـد المشاركون في الاجتماع الذي ضمّ أمَـناء المؤتمرات الشعبية الأساسية واللجان الشعبية للقطاعات وللنقابات العامة ومنسِّـقي فرق العمل الثوري والفعاليات النسائية وأمينَـيْ مجلس الشباب الليبي والمنظمة الوطنية للشباب الليبي في طرابلس، التزامهم بما ورَد في هذا اللِّـقاء، ودعَـوا المؤتمرات الشعبية والنّـقابات والقِـطاعات والقِـوى الثورية والفعاليات الشبابية والنسائية، إلى عقد جلسات نِـقاش وحوار حول هذا الطّـرح، بُـغية الوصول إلى الآلية المُـناسبة لتطبيقه.
فتوى قانونية
والظاهر، أن المقصود ليس فقط توسيع حملة المُـبايعة، وإنما إيجاد فتوى قانونية لتعريف المنصِـب الذي سيتولاّه سيف الإسلام من دون اقتباس من الأنظمة الديمقراطية “التقليدية”.
وفي هذا السياق، أوضح الدكتور أحمد الأطرش، الأستاذ في قسم العلوم السياسية في جامعة الفاتح لـ swissinfo.ch، أن مُـصطلح “القيادات الشعبية” في ليبيا، ظل يعني حتى اليوم وُجهاء العشائِـر والقيادات الاجتماعية المحلية، التي يُراد لها أن تلعَـب دور المجتمع المدني، والتي تُـفْـض الخلافات فقط، مثل شيخ القبيلة، إلا أن المفهوم لم يكتَـس طابَـعا سياسيا، فلم نَـرَ لها دورا فعّـالا في مُـستوى التنمية أو ترسيخ ركائِـز الدولة، سواءٌ في السياسة الداخلية أو الخارجية”.
وأضاف “لم أقرأ اللّـوائح الداخلية لهذه القيادات، لكن إعطاءها دورا سياسيا اليوم، قد يُحدِث الْـتِـباسات ومشاكِـل من نوع التّـساؤل الذي سمِـعناه في السابق عن طبيعة المنصِـب الذي يتولاّه سيف الإسلام في الدولة”. وشدّد على ضرورة وضْـع الناس في الصورة، لمعرفة ما إذا كانت هذه الهياكِـل مُخوّلة، قانونيا وتشريعيا، للقيام بالدّور الذي وقع عليه الاختيار للقيام به، وحثّ من هذا المُـنطلق على تطوير اللّـوائح المُنظّـمة لعمل تلك القيادات و”عرض التعديلات على المؤتمرات الشعبية لمناقشتها وإقرارها، لأن ما تردّد هو أن لدى هذه القيادات صلاحيات تفُـوق صلاحيات اللّـجنة الشعبية العامة (الحكومة)، وحتى مؤتمر الشعب العام (البرلمان)”.
وربما كان الدكتور الأطرش يُـشير إلى إعلان “القيادات الشعبية الاجتماعية” في كلٍّ من طرابلس وبنغازي وسَـبها عن قرارها بتوسيع صلاحياتها، لتشمل الإشراف على أمانة مؤتمر الشعب العام واللجنة الشعبية العامة وكافة الأجهزة الأمنية في ليبيا.
وبسبب اضطرابِ مفهُـوم القيادة، التي سيتولاّها سيف الإسلام، أتَـت بعض تعليقات المثقّـفين متحفِّـظة، على غِـرار الكاتب الصحفي عبد الرحمان الشاطر، الذي تمنّـى على الخليفة المعيَّـن أن يُجري تقويما شامِـلا لمداخلاته السابقة والتعرّف على إيجابياتها وسلبياتها، “فتولّـي منصب فوق البرلمان والحكومة، معناه ضرورة توخّـي الحذَر. فقد تغلط الحكومة وتُقاضى، أما إذا أخطأ من يُـشرف عليها، فكيف يمكن مقاضاته؟”، وأضاف “الحِـسّ الديمقراطي عنده رفيع ورغبَـته في الإصلاح جامِـحة، لكن بالنسبة لاتِّـخاذ القرارات، فليرفع شعار: وأمْـرُهم شُـورى بينهم”.
أما الإعلامي محمد لطيوش، مدير موقع “المنارة” الإلكتروني المقيم في بريطاني، فاعتبر أن هذه الخطوة “متوقّـعة. فقد صرّح سيف الإسلام في أكثر من مناسبة بأن ما يقوم به من خطوات (مشروع ليبيا الغد) وتحرّكات في الداخل والخارج، يأتي بالتّـنسيق مع والده. وأتصوّر أن النظام الليبي قام بمُـراجعات في السنوات الماضية، بخصوص النظرية في شقِّـها الاقتصادي، كالبيت لساكِـنه والموقِـف من التجارة، وحان الوقت لمُـراجعتها في شقّـها السياسي، خاصة بعد أن اعترفت القيادة السياسية بفشلها في أكثر من مناسبة وعزوف الناس، وعَـدم ثِـقتها في التجربة السياسية التي ظلّـت أكثر من ثلاثة عقود”.
وحذر المحلِّـل السياسي الليبي المُـقيم في سويسرا صلاح الشلوي، من أن ليبيا تقترِب بهذه الخُـطوة من مفصل هامّ على المسار العام لتجربتها السياسية، صيغة غير مسبوقة من قبل، مُـتمثلة في وجود قيادتيْـن أو مستوييْـن قيادييْـن في الدولة في نفس الوقت، القيادة المحلية والقيادة الخارجية. فوجود قيادتيْـن وخروج إحداهما من تحت عَـباءة الأخرى، أمر يدعو فِـعلا إلى التوقّـف وطرح حزمة من التساؤلات من خلال المعرفة والتّـجربة السياسية الليبية نفسها، على حد قوله.
ومن تلك التساؤلات: ما هي طبيعة وحدود ومجال وظيفة القيادة الجديدة؟ وما هي الشروط والمقدِّمات اللاّزمة لنجاح هذه الصيغة؟ وماذا لو أخفَـقت القيادة الجديدة في مهامِّـها؟ هل ستبقى وتستمِـر بدون رقيب أو حسيب، أم أنها غير مسؤولة أمام الشعب ولديها حصانة دستورية، مثل الحصانة التي احتفظ بها الملِـك عليه رحمة الله لنفسه، كحق دستوري وِفق دستور المملكة الليبية السابق، ممّـا حال دُون أي إمكانية لمحاسبتِـه على أيٍّ من أعماله أو أعمال رجال بلاطه، ما وفّـر لهم الغطاء السياسي الكافي لأعمالهم ومُـمارساتهم أمام البرلمان؟
الحرس القديم
أما الصحفي مفتاح بلعيد، فحذر من ردّة فعل الحرس القديم، وخاصة “مكتب الاتصال باللِّـجان الثورية”، الذي اعتبره “وكْـرا للحرس القديم ينضوي تحت مظلّـته كل النفعيين من رموز الدولة الليبية، والذين هم بدورهم سيُـدافعون عن مصالِـحهم الشخصية بطُـرقهم التي يعرفُـها كل أبناء الشعب الليبي”.
أكثر من ذلك، حذّرت هالة المصراتي، الإعلامية الليبية المُـقيمة في مصر، من احتمال اندِلاع فِـتنة ما لم تتّـضح الفوارِق في الصلاحيات بين القائد معمر القذافي ونجْـله. فالأهم في رأيها، أنه “لابد من المُـجاهرة بحقيقة مَـن (هو) القائد وبطلب رسمي، حتى لا تحدُث فِـتنة مستقبلية حول من يتولّـى شأن القيادة في ظلِّ غياب دستور أو نِـظام يوضِّـح آليات انتقال السلطة أو القيادة .
وذهبت بعض التّـعاليق على تسمِـية سيف الإسلام في المنصِـب الجديد إلى حدّ مطالبتِـه بتشكيل “حكومة ائتلاف وطني في المرحلة القادمة، تُمثَّـل فيها جميع الفصائل السياسية في ليبيا، سواء في الخارج أو الداخل”.
المُـهم، أن الزعيم معمر القذافي قرّر في هذه المرحلة نقْـل إدارة الملفّـات الداخلية لنجْـله، واحتفظ لنفسه بالسياسة الخارجية، طِـبقا لِـما جاء في مُـداخلة الشيخ محمد العريبي، منسِّـق عام القيادة الشعبية في طرابلس، الذي عَـزا قَـرار اختيار سيف الإسلام لهذا المنصب الجديد إلى “ما يتمتّـع به هذا الرجل من حِـنكة وقُـدرة على قيادة البلاد داخليا، وحتى يتفرّغ الأخ القائد (معمر القذافي) من مُـتابعة الشأن المحلي لمهام أخرى أكبر، على مستوى إفريقيا وآسيا وللشأن الإسلامي، لأنه الأكثر قُـدرة من غيره مِـن زعماء العالم الآخرين على توحيد إرادة المسلمين وتلك الفضاءات، لكونه ضمير العالم” طِـبقا لما نقلت عنه صحيفة “قورينا”، التي أسّـسها سيف الإسلام.
السابقة السورية
بهذا المعنى، يكون معمر القذافي كرّس انتقالا سِـلميا للسلطة إلى نجله بطريقة أيْـسر من التي آلت بها الرئاسة في سوريا إلى الرئيس بشار الأسد بعد وفاة والده، إذ لا يوجد في ليبيا دستور يتطلّـب تعديلا ولا حِـزبا حاكما يحتاج إلى ترْويض. والخاصية الثانية للنقلة الحالية، مقارنة بالتجربة السورية، تتمثّـل في أن صاحب الأمر أشرَف بنفسه على إدارة العملية، وهو في ذِروة قُـوَّتِـه، ولم يترُكها لِـمَـن هُـم بعدَه، لأن في حضوره الطاغي سُـلطة معنوية قوية تُزيح العَـقبات، التي يُـمكن أن يضعها المُعترِضون في طريق نجله لإرباكِـه وزعزعة حُـكمه اليافِـع.
ولتسهيل تقبُّـل القِـوى السياسية المُـعارضة للتوريث، تزامَـن صعود سيف الإسلام إلى سدّة الحُـكم مع إعطاء الانطباع بفتح صفحة جديدة، عنوانها “طيّ حِـقبة الصِّـراع مع الحركة الإسلامية”، التي تُعتبر الخَـصم الرئيسي للنظام. وكانت صحيفة “أويا”، التي أسّـسها سيف الإسلام، هي أول من أعلَـن عن الإفراج عن 45 سجينا من عناصِـر “الجماعة الإسلامية المقاتلة”، القريبة من تنظيم القاعدة”، بالإضافة لـ 43 عُـنصرا من جماعات جِـهادية أخرى.
وكانت مؤسسة القذافي، أعلنت في مارس الماضي عن إخلاء سبيل 136 عُـنصرا من أفراد الجماعة نفسِـها خلال العامين الأخيرين، في أعقاب الحِـوار مع عناصِـرها عن طريق الشيخ علي الصلابي، الذي عاد إلى ليبيا بعد سنوات طويلة قضَّـاها في المنفى الاختياري. وكانت الجماعة الإسلامية المقاتلة جدّدت في عام 2007 تصميمها على مقاتلة نظام القذافي، وأعلنت في العام نفسه انضمامها إلى تنظيم “القاعدة”، إلا أن كثيرا من المُـفرَج عنهم، أكّـدوا في تصريحات أدلَـوْا بها يوم مُـغادرتهم السجن، أن الجماعة قرّرت في أغسطس الماضي التخلّـي عن العُـنف والجُـنوح إلى الحِـوار.
وكانت الجماعة تشكّـلت في بداية التسعينات في أفغانستان على أيْـدي ناشطين ليبيين، كانوا يقاتلون القوات السوفييتية. وتُعتبر الجماعة ثاني جماعة إسلامية في المغرب العربي تنضمّ إلى “القاعدة”، بعد الجماعة السلفية للدّعوة والقتال الجزائرية، التي غيّـرت اسمها في مطلع 2007 إلى “تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”.
لكن منظمة “هيومان رايتس ووتش” أكّـدت في بيان عقِـب الإفراج عن الـ 88 سجينا إسلاميا والإعلان عن هَـدْم وشيك لمُـعتقل أبو سليم، أن وزارة العدل الليبية اعترفت لها بوجود 200 سجين لم يُفرَج عنهم، بالرّغم من كون المحاكِـم برّأتهم من التُّـهم الموجّـهة لهم أو أنهم أكملوا محكومياتهم.
وأوضحت أن السّـجون الليبية ما زالت مليئة بعشرات السُّـجناء الذين تعرّضوا لمحاكمات غير عادِلة، من أجل انتقادِهم للحكومة والتّـعبير عن آرائهم السياسية، وعزَت بقاءَهم في السجون، إلى تعليمات من جِـهاز الأمن الداخلي، وخاصة معتقلي أبو سليم، وعين زيارة الخاضعين لوزارة الداخلية، وليس لوزارة العدل. وضربت مثلا بالكاتب عبد الناصر الرباسي، الذي قالت إن مُـوفدِيها تحدّثوا إليه في سجن أبو سليم في أبريل الماضي، وعلموا أنه نال خمسة عشر سنة سِـجنا من أجل تأليف رواية عن الفساد وحقوق الإنسان.
برنامج إصلاحي؟
والأرجُـح أن القذافي الأب، حرِص أيضا على مزيد إحاطة عملية التوريث، بمسوغات تُسهِّـل قبولها من النخب الليبية، فبرر إسناد الحُـكم إلى ابنه بإعطاء هذا الأخير فرصة لتنفيذ برنامجه الإصلاحي، وهذا ما يُفسِّـر أن وسائل الإعلام الليبية، وبخاصة التي يُـسيطر عليها سيف الإسلام، ربطت تسميته “منسِّـقا عاما للقيادات الشعبية”، بخططه “الإصلاحية”، التي قالت إنها “تتضّـمن تمرير مشروع دستور وإطلاق خطّـة تنموية اقتصادية، بقيمة سبعين مليار دولار، وتحرير الصحافة من سيْـطرة الدولة وقيام مؤسسات مجتمع مدني قوي”.
وفي السياق نفسه، يمكن إدراج الصورة غير الحقيقية التي أعطِـيت عن “الحرس القديم”، الذي قيل أنه يشكِّـل قوّة المعارضة الرئيسية للإصلاحيين، بزعامة سيف الإسلام، مما حمّـل الأخير على الانسحاب من الحياة السياسية في أغسطس 2008.
لكن العارفين بحقائق الأمور، يؤكِّـدون أن الزعيم معمر القذافي يمسِـك بجميع خيوط اللّـعبة، بعدما وضع الأجهزة الأمنية والعسكرية تحت السيطرة وعيّـن على رأسها موالِـين له، أمثال العميد أبو بكر يونس جابر والعميد مصطفى الخروبي، وهما من بقايا تنظيم “الضبّـاط الأحرار”، وابن عمّـه أحمد قذاف الدم.
بهذا المعنى، كرس القذافي، الذي لا يحتل رسميا أي منصِـب في الدولة، سيْـطرته المُـطلقة على الأجهزة وهيمنته على الحياة السياسية خلال العقود الأربعة الماضية، وخاصة بعد إبعاد رِفاقه في “مجلس قيادة الثورة”، وأبرزهم الرائد عبد السلام جلود، وتصفية البعض الآخر.
واتسم النظام الجديد، الذي أرساه على أنقاض السنوسية، وهي طريقة صُـوفية عسكرية بازدواجية فريدة تجمع بين نظام جيِّـد على الورق يُتيح للشعب إدارة شؤونه بنفسه، أي يكرّس الديمقراطية المباشرة، ونظام فعِـلي، يقوم على الحُـكم المُـطلق، حيث يمسك بالنفوذ الحقيقي “قائد الثورة” والجيش والقبائل المسلحة، مثلما قال لـ swissinfo.ch الباحث السابق في “المركز القومي للبحث العلمي” الفرنسي توفيق المنستيري.
ومن هذه الزاوية، يمكن القول أن نظاما سياسيا من نوعٍ خاصٍ تأسّـس في ليبيا على مدى الأربعين سنة الماضية، وكان لافتا للاهتمام نظريته التي وزّعت الأدوار بين ثلاثة مراكِـز هي:
.الإدارة التي كانت بأيْـدي “اللجان الشعبية”، وهي لا تعيَّـن ولا تُنتَـخب، وإنما تُختار بواسطة “التّـصعيد”، وهي التي “تُصعِّـد” اللجنة الشعبية العامة، أي الحكومة، وهو مُـصطلح مرفوض في المرجعية القذافية، يرأسها أمين أي رئيس وزراء. ويشمل هذا الرّكن البلديات أيضا، إذ لا وجود لرئيس بلدية. وعلى رأس هذا الهرم، يوجد “مؤتمر الشعب العام” (البرلمان)، الذي كان يترأّسه في أحيان كثيرة القذافي نفسه، حتى عقد الثمانينات، ثُـم صار آخرون يتولّـون المنصب.
.”اللجان الثورية” التي لا يعرِف أحد كيف يتِـم “تصعيدها” ولا كيف يُنتقى أعضاؤها، وهي تحكُـم، لكنها لا تُسيِّـر الدواليب بالمعنى الإداري، ولا تتّـفق أحيانا مع “اللجان الشعبية”، وحتى مع “القائد” فتضطره إلى التّـراجع عن بعض أفكاره.
.”لجان المراقبة”، التي تشكّـلت في الفترة الأخيرة بسبب عدم التّـفاهم بين اللجان الشعبية والثورية، وهي أيضا جِـهاز لا يعرِفُـه أحد.
ويبدو من خلال هذه البِـنية المركزية، أن “النظام الجماهيري” بقي صوريا وافتِـراضيا، فهو “نظام استبدادي يختفي وراء مظهَـر جذّاب ومرح أحيانا (Sympatic)، على رأي توفيق المنستيري. ويعتبر المنستيري، الذي تابع الظاهرة الليبية طيلة أربعة عقود، أن بنية الحُـكم في ليبيا قبَـلية، مُـلفتا الانتباه إلى كون جماعة القذافي لم يختاروا رئيس دولة بل “قائدا”، وهذه العبارة تُتَـرجم خطأً في الغرب بـ “The Guide”، بينما الأصح هو “The Leader”، ولاحظ أن القذافي يتمسّـك بتلك الهوية القبلية ويرفُـض النمط الاجتماعي الحضري، مُعاودا إنتاج الزعامة القبلية، ما يجعلنا بإزاء نظام بدويقراطي، ولسنا بصدَد نظام ثيوقراطي أو أوتوقراطي أو أي نموذج من النماذج المعروفة في العِـلم السياسي الكلاسيكي. فالدولة هنا مُغيبة، مثلما لاحظ المنستيري.
ورقة النفط
واشتغلت هذه البنية في المجال الاقتصادي أيضا، فالطريقة الفعّـالة التي استخدمها الحُـكم لضمان ولاء القبائل، هي إيجاد وِفاق مع رؤسائها للمحافظة على اللّـحمة، مع توزيع المداخيل بشكل واسع. ففي بداية الثمانينات، لم يكن هناك ليبي مُـعْـوِز أو فقير، إذ صدر قرار بإعطاء مِـنحة مقدارها 60 دينارا لكل مواطن ليس له دخل، مع تأمين الكهرباء والماء والتطبيب مجانا.
ونلاحظ اليوم، أن أعدادا كبيرة من الليبيين يتعالجون في الخارج وتتكفّـل التأمينات الاجتماعية بنفقات علاجهم وإقامتهم وإقامة مُـرافقيهم، غير أن القطاعات الاقتصادية الرئيسية (الاتصالات والاستيراد والاستثمار الخارجي…) ممسوكة من أبناء القذافي، فيما احتفظ الأب بملف النفط، الذي يُعتبر منطقة محرّمة، وهذا مظهر من مظاهر “الطابع الأوليغارشي العائلي للدولة، وهي خاصية النظام الشرقي عموما، فهو يبدأ بدائرة الأبناء، ثم الأسرة ثم الأقرباء فالقبيلة وهكذا…” مثلما يقول المنستيري.
ولهذا السبب، ضحك العارفون بالشأن اللِّـيبي عندما سمعوا القذافي يُعلِـن أن عوائد النفط ستُوزّع على المواطنين، فيما طالب مقرّبون منه بإحالة الملف إلى مؤتمر الشعب العام (البرلمان). وبعد أيام قليلة، تذرّع بأن مؤتمر الشعب العام (الذي يأتمر بتوجيهاته)، لم يُوافق على توزيع الثّـروة على الشعب، لكن اللافت للنظر هذه المرة، أن معمر القذافي استخدم ورقة تحظى بالشعبية لدى الليبيين لتمرير قرار توريث نجله، وهي إعلان الحرب على الفساد والرشوة.
فوسائل الإعلام التي نقلت خبر القرار الذي اتّـخذه، عزته إلى “استيائه من الفساد الذي تفشّـى في أجهزة الدولة وتخاذل القيادات الاجتماعية في الإمساك بزمام المبادرة وعدم القيام بواجبها”، طِـبقا للنصّ الذي أوردته وكالات الأنباء. وزاد الخُـطباء المتحدِّثون في اجتماعات “القيادات الاجتماعية”، التي زكّـت الخطوة، من إبراز هذا الجانب في تبريرهم لاختيار سيف الإسلام. فالشيخ عريبي، الذي رأس اجتماع مبايَـعة سيف الإسلام في شعبية طرابلس، عزا القرار إلى خمسة دوافع، هي الآتية مثلما لخّـصها بنفسه:
1. استياء القائد من الفساد الذي استشرى في جميع مرافق الدولة.
2. تخاذُل القيادات الشعبية في الإمساك بزِمام المبادرة وتفعيل سلطة الشعب.
3. عزوف الناس عن حضور المؤتمرات الشعبية.
4. التلكُّـؤ في توزيع الثروة على الليبيين والمحاباة في خصّ أناس لا يستحقّـونها وحِـرمان المستحق.
5. تغول أبناء وأقارب المسؤولين، بمن فيهم عدد ممّـن يُـحسبون على الرِّفاق.
واستمع المشاركون في اجتماعات المبايَـعة إلى كلام كثير في هذا المعنى، ومنه ما قاله أحمد علي المقرحي، الذي عبّـر عن تزكيته لسيف الإسلام، مؤكِّـدا أنه هو الوحيد “القادِر على ذبْـح القطط السِّـمان”.
زعيم مقبول من الغرب
ويُضاف هذا العُـنصر إلى عنصر آخر، لا يُخفي القذافي الأب أنه كان من الدّوافع الحاسمة إلى توريث الحُـكم لسيف الإسلام، وليس لفرد آخر من أبنائه، وخاصة المعتصم، الذي عيّـنه رئيسا لمجلس الأمن المضيّـق، وهو أنه مقبول من الدول الغربية الرئيسية. ولوحظ أن الكلمات التي ألقِـيت في اجتماعات “القيادات الشعبية” لمناقشة تسمية سيف الإسلام في المنصب الجديد، ركّـزت على أنه “ساهم في إغلاق العديد من الملفّـات الشائكة بين الجماهيرية وبعض الدول الغربية”.
وأشار الخطباء إلى أنه “قام بأكثر من وساطة بين ليبيا والغرب، أبرزها دوره في قضية الفريق الطبّـي البلغاري، الذي اتُّـهم بنقل فيروس الإيدز لأطفال ليبيين، كما تدخّـل مرارا في مفاوضات دولية عبْـر مؤسسة القذافي الخيرية التي يترأّسها”.
والملاحظ، أن سيف الإسلام عاد إلى المسرح السياسي الليبي في 20 أغسطس الماضي، بعد سنة من انسحابه منه في الطائرة التي أقلت عبد الباسط المقرحي، المُـدان في اعتداء لوكربي في أعقاب إفراج اسكتلندا عنه لأسباب صحية. وسُـرعان ما أطلَـق قناة تلفزيونية جديدة تحمل اسم “المتوسّـط” واهتم الدبلوماسيون الغربيون المعتمَـدون في ليبيا بعودة نجم سيف الإسلام للصعود إلى قمة هرم الدولة ونظروا إليه بتفاؤل، من الناحية الاقتصادية، مثلما نقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن أحدهم، “لأنها ستعطي استقرارا للشركات الأجنبية الموجودة في ليبيا والرّاغبة في الاستثمار، مما يسهِّـل العملية الاقتصادية فيها”، كما قال.
وأيّـد تلك التوقّـعات شكري غانم، رئيس الوزراء السابق المقرّب من سيف الإسلام، الذي رأى أن “تنصيب سيف سيكون له تأثير كبير على الاقتصاد في البلاد، لأنه يؤيِّـد دعم المبادرة الفردية وأن تكون الدولة الحَـكَـم والمنظِّـم وتبتعد عن دور الدولة الراعية”.
وأضاف إن “البلاد في الأساس، تحتاج إلى ترتيب البيت الداخلي، ليشكِّـل قاعدة قوية للنمُـو الاقتصادي والاستفادة من إمكاناته الطبيعة، مثل النفط”، لكن لا أحد يستطيع التكهُّـن منذ الآن بتأثيرات هذا التّـعيين وما يترتّـب عليه من تبِـعات دستورية مُـحتملة على بِـنية النظام السياسي في ليبيا.
رشيد خشانة – تونس – swissinfo.ch
الرباط (رويترز) – قالت صحيفة (أويا) الليبية في عددها الصادر يوم الجمعة 16 أكتوبر، ان سيف الاسلام نجل الزعيم الليبي معمر القذافي قد عُـيِّـن منسِّـقا عاما للقيادات الشعبية بالجماهيرية، وهي التجمع الذي يضم أهم القيادات القبلية والسياسية والاقتصادية، مما يجعله ثاني أقوى رجل بالبلاد بعد أبيه.
ولم تتضح على وجه الدقّـة السلطات التي سيمارسها سيف الاسلام، لكن التعيين على رأس “القيادات الشعبية”، لو تأكد، سيدعم على الارجُـح موقف رجل يقول بعض المحللين، انهم يعتبرونه الخليفة المحتمل لابيه.
وقالت مصادر سياسية في طرابلس، انها تتوقع أن يقوم سيف الاسلام، الذي يعتبر اصلاحيا، باقتراح دستور جديد يتِـم التصويت عليه في المؤتمر الشعبي العام، الذي يُـشبه البرلمان. وليس لليبيا دستور منذ 1977 والاحزاب السياسية محظورة.
وقالت الصحيفة، ان الجماعة وافقت على اختيار سيف الاسلام منسِّـقا عاما لها. وذكرت وسائل الاعلام الليبية في وقت سابق من هذا الشهر، أن القذافي طلب حصول سيف الاسلام على منصب حكومي رفيع. وقالت الصحيفة إن سيف الاسلام سيمنح “كافة الصلاحيات ليمارس دوره في اتجاه بناء ليبيا الغد”.
وفي السادس من أكتوبر الجاري، قال الزعيم الليبي معمر القذافي في اجتماع، ان سيف الاسلام رجل مخلص ويحب ليبيا. وقال ان نجله يجب أن يحصل على منصب غير محدد بمدة. وأضاف أن سيف الاسلام يحتاج الى منصب يسمح له بمتابعة دوره في تنفيذ برنامجه لخدمة مصالح ليبيا. ومضى القذافي يقول، ان سيف الاسلام سيعالج ليبيا من الفساد المتفشي ومشاكل اجتماعية أخرى، وقال ان مؤسسات الدولة فشلت في تحقيق ذلك.
وفصل سيف الاسلام على مدار السنوات الثلاث الماضية برنامجا يحمل اسم “ليبيا الغد”، وتعهد باستثمار 70 مليار دولار لتطوير البنية التحتية المهملة وتشجيع الليبيين على بناء مجتمع مدني أكثر حرية بقضاء مستقل وأعلام حر. وكسب سيف الاسلام تعاطفا واسعا بين الليبيين، عندما هاجم شخصيات حكومية بارزة ووصفها بالقِـطط السمان.
وقال القذافي، الذي يرأس الاتحاد الافريقي ويحمل لقب ملك ملوك إفريقيا ولقب القائد الاممي، انه لا يريد أن يشتت عن دوره على الساحة العالمية بموضوعات داخلية.
ويقول محللون وجماعات معارضة في المنفى، ان القذافي اعد سيف الاسلام لخلافته ويريد تقوية قبضته على السلطة ومنع المعارضة من داخل قبيلته القوية قبل أن يغادر المشهد السياسي. واستبعد سيف الاسلام (36 سنة) أكثر من مرة فكرة الخلافة.
ويعزى الى سيف الاسلام، وهو أكثر موفدي أبيه الموثوقين، اقناع الحكومتين البريطانية والامريكية، بأن القذافي يحرص على انهاء عزلة ليبيا عن طريق تخليه عن برنامجه لانتاج أسلحة الدمار الشامل.
وتخلت طرابلس عن برنامج الاسلحة عام 2003 وحسنت علاقاتها الى حد كبير مع الغرب. وسافر القذافي الى الولايات المتحدة الشهر الماضي للمرة الاولى في أربعة عقود، لحضور الجمعية العامة للامم المتحدة.
ويرأس سيف الاسلام مؤسسة القذافي الخيرية، لكنه لم يشغل أي منصب حكومي من قبل، بينما يتولى أشقّـاءه مناصب رئيسية في الجيش والاجهزة الامنية والاقتصاد.
ونقل موقع على الانترنت عن أحمد بوشاه من جماعة الاخوان المسلمين الليبية المعارضة في المنفى قوله، ان اقتراح القذافي هو الاشارة الرسمية الاوضح لوضع سيف الاسلام على طريق الخلافة لوالده.
وقالت الجبهة الوطنية لانقاذ ليبيا، وهي جماعة ليبية معارضة في المنفى في بيان “من حقنا أن نسأل سؤالا.. هل من المنطقي والمعقول أن تبقى ليبيا رهينة، ليس فقط للقذافي خلال 40 سنة، وانما لاولاده الذين يعرفهم الليبيون بحبهم للترف والفساد والتصميم على قمع الشعب الليبي…”؟
(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 16 أكتوبر 2009)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.