المآذن في سويسرا.. دعوة للتريث وإعادة تقييم المواقف
نظمت العديد من الهيئات المعنية بقضايا اندماج الأجانب في 13 نوفمبر الجاري، أمسية في مدينة أولتن، لمناقشة فرص التسامح وحدوده القصوى التي يمكن أن يقبل بها المجتمع، سيما في التعامل مع متطلبات الجالية المسلمة.
وعلى الرغم من اختلاف وجهات النظر الواضح في المواقف، فإن الصورة لا تبدو قاتمة للغاية، بل تحتاج حسب رأي البعض إلى “شيء من الصبر” من جميع الأطراف.
50 شخصا من 15 قومية مختلفة، يعزفون الموسيقى ويغنون في كورال واحد، الجميع سعداء، والفرحة تغمر الوجوه. هذه هي صورة المجتمع السويسري كما يريدها المسئولون عن الاندماج ومن يتعاون معهم من منظمات تمثل الجاليات الأجنبية وتلك ذات الطابع الديني، مسيحية كانت أو مسلمة.
لكن هذه الصورة لم تكن سوى على خشبة مسرح مدينة أولتن في عرض فني خفيف، امتص أجواء التوتر التي خيمت على قاعته التي عجت بقرابة 700 شخص، حرصوا على الحضور للتعرف على الآراء المختلفة حول قضية بناء المآذن في سويسرا، بعد أن تحولت بين عشية وضحاها إلى حديث الرأي العام وأصبحت مادة إعلامية تستخدمها أطراف متعددة، كل حسب غرض أو هدف محدد.
وقد نوه بيتر غوم من مجلس حكومة كانتون سولوتورن في كلمته إلى أن هناك صورة للعرب والمسلمين تترسخ في أذهان الكثير من السويسريين منذ نعومة أظافرهم، تبدأ من القصص والأساطير التي تتحدث عن الشرق، ثم من التقارير الإعلامية والمواد الصحفية التي لا تذكرهم عادة بالخير، ومن هنا تتكون المخاوف وتبدأ الشكوك تساور الرأي العام حول الجالية المسلمة، التي كثر عددها في السنوات الأخيرة، فما أن تطالب بشيء حتى تصبح حديث الجميع.
غوم، البرلماني المنتمي إلى الحزب الاشتراكي، عدد الأسئلة والمخاوف التي تدور في عقول وأذهان السويسريين حول المئذنة، فهناك من يعتبرها “حرب على قيم الحضارة الغربية”، أو “هجوم على الهوية السويسرية”، واستفزاز للنفوس الآمنة، وتشويه للهندسة المعمارية والشكل الجمالي للمباني السكنية”.
وإذا كان يرى أن هذه الأفكار منطقية ومشروعة، إلا أنه نصح بأنها يجب أن تكون مصحوبة بالبحث عن الإجابات بدلا من الاستسلام لأفكار مغلوطة وصور نمطية سلبية متوارثة، ثم أكد في أكثر من موضع في كلمته على أن “مشكلة المئذنة ليست قانونية بل هي مشكلة خوف وحيرة في كيفية التعامل مع هذا الجديد؛ الذي يتجسد الآن في شكل مئذنة تراها كل يوم أو كلما مررت من هذا الطريق”، وهو هنا يشير بشكل آخر إلى أن القانون لا يمنع تشييد المئذنة، ولذا فإنه من الأفضل أن يتعامل الرأي العام مع المشكلة من زاوية أخرى.
ولذا كانت نصيحته “التعارف الجيد وعن قرب والإحترام المتبادل، لأنهما خير وسيلة لتبديد تلك المخاوف، ومن هنا يمكن البدء في الحديث عن مواطنين متساويين ليس فقط في الواجبات ولكن أيضا في الحقوق”.
صورة خاطئة وردود فعل متسرعة
الصحفي فيرنر فان غينت مراسل الإذاعة السويسرية الألمانية DRS في تركيا كان نجم الأمسية، إذ تحدث عن خبرته وتجاربه مع العالم الإسلامي كصحفي وأيضا كمواطن أجنبي غير مسلم، فرضت عليه ظروف عمله أن يسكن في هذا البلد ويتعرف عليه عن القرب.
ويعتقد فان غينت أن اهتمام الرأي العام في الغرب بالإسلام عموما جاء في مرحلة متأخرة، ولم يكن اهتماما مشوبا بالتشوق لمعرفة المزيد عنه، ولكنه كان اهتماما محفوفا بالخوف والحذر والغموض، وبالتالي سبقته صورته السلبية عند الحديث عنه، وأصبح السويسريون مثل غيرهم من الأوروبيين، يتعاملون معه كعدو، دون أن يكون لهم سابق تجربة شخصية معه، وساهم في ذلك ظهور الإسلام فجأة في وسائل الإعلام كخطر داهم، تماما بعد انتهاء الحرب الباردة في بدايات تسعينيات القرن الماضي.
ووفقا لرأيه، فالنتيجة الطبيعية لهذا كله، هي “أجواء متوترة مشوبة بالشكوك وعدم الثقة، لتستغل أطراف عدة هذه الظروف، فتكون مرتعا للأصولية على الجانبين المسيحي والإسلامي، شاركت في تغذيتها الحرب على الإرهاب التي وضعت المواجهة بين الجانبين على طريق آخر، لا يعرف أحد إلى أين تسير”.
ومن هذه الخلفية انتقل إلى قضية المئذنة، التي وجد أنها مثال بسيط في بلد صغير مثل سويسرا، على أن هذه المخاوف الكامنة في النفوس تنفجر عند أية لحظة، مثلما حدث في بعض المدن الأوروبية، ولكنها لم تتطور في سويسرا إلى أبعد مما يحدث الآن.
أما السبيل الوحيد لتجاوز هذه الأزمة – حسب رأيه – فهو الحوار البناء على أساس الوصول إلى حل، شريطة أن يضع الطرفان نصب أعينهما الحفاظ على التعايش السلمي واحترام خصوصيات الآخرين دون أن يدخلا في هذا الحوار وفي قناعة كل طرف ضرورة الخروج منتصرا لرأيه.
ويستطرد قائلا ” القانون لا يمنع تشييد المباني ذات الطابع الديني، ولكن لا يجب على المسلمين الدخول في الحوار ومعهم هذه الحقيقة كسلاح سيقهرون به الرافضين، بل كإمكانية لتحقيق الهدف، وأما المعارضون فعليهم النظر إلى المشكلة بواقعية؛ لأن أي انسان له حقوق مثلما عليه من واجبات، يضاف إلى ذلك أن المجتمع قائم على أساس التسامح الديني”.
بين الحقوق والتسامح
مداخلات الحضور أثرت الأمسية بشكل كبير، فبعض الحاضرين مثلا هاجموا فان غينت لأنه يطالب بالتسامح مع المسلمين في سويسرا، بينما بعض الدول الإسلامية لا تمنح الأقليات الدينية أية حقوق، وهو ما اعتبروه عدم توازن، وكان رد الصحفي السويسري أن هذه المقارنة هي خطأ في حد ذاته، إذ لا يمكن معاملة جميع المسلمين في سويسرا بهذه الصورة، حيث يجب النظر إلى المسألة من المنظور السويسري وما يسمح به القانون الفدرالي، لأن مثل تلك الأفكار تدفع بالنقاش إلى طريق مسدود، ويجب أن يتم التعامل مع بقية أتباع الديانات الأخرى بنفس الأسلوب وليس على المسلمين فقط، ولذا فهو نقاش عقيم وغير مجد، حسب وصفه.
وقد أيد بعض المعتدلين من الحضور هذا الرأي ورأت بعض الأصوات أن صورة سويسرا كدولة متحضرة تحرص على احترام القانون لا يجب أن يحدث فيها مثل هذا النقاش، بل أعرب آخرون أن مشكلة بناء المئذنة تم تسييسها بشكل خطأ وأن السماح ببناء المنشئات الدينية مكسب إضافي لصورة سويسرا الإيجابية أمام العالم.
ثم هاجم المعارضون مرة أخرى قائلين بأن التساهل مع العرب والمسلمين تحديدا قد يفتح الباب بسهولة أمام المتعصبين، وأعربوا عن خوفهم من تحويل سويسرا إلى “أرض خصبة للأصولية الدينية أو القومية”، وهو ما لا تقوى البلاد على التعامل معه أو التعايش في أجوائه، وجاء الرد سريعا بأن التسامح المرتبط بقوة القانون هو صمام أمان للجميع، وللكنفدرالية تجارب ناجحة في هذا المجال من تاريخها التي عرف كيفية التعايش السلمي بين الأقليات، فعليها أن تستقي من تجارب الماضي، وتطبقها عمليا وبصورة تتناسب مع متطلبات العصر.
الجيل الثاني من المسلمين كان له صوت قوي في الأمسية، فأحد الشباب قال أنه لا يفهم رفض بناء المئذنة، بينما يمكن للبوذيين والهندوس بناء معابدهم بسهولة وبدون ضوضاء، مما يجعله يشعر بالضيق لأنه أقل من الآخرين، وبعضهم حذر من انعكاسات مثل تلك الحرب الإعلامية على المسلمين لأنها ستؤدي في النهاية إلى انعزالهم عن المجتمع والإحساس بأنهم غير مرغوب فيهم، رغم أنهم كبقية سكان الكنفدرالية لهم حقوق يجب الحصول عليها، مثلما يحرص الآخرون على مراقبة ما ينفذونه من التزامات.
كما انتقد الشباب المسلمون لسويس أنفو عدم مشاركة من يمثل صوت الجيل الثاني في الحوار من على المنصة، وأعتبر بعضهم أن الأمسية كانت أحادية الجانب حاول فيها السويسريون الحديث من جانب واحد فقط، .
لم يقل منظمو الأمسية صراحة “نعم لبناء المئذنة”، لكنهم أشاروا إلى أن تشييدها لن يضر أحدا، بل سيكون إثراءا للجميع، كما أن رفضها لن يضر أحدا ولكنه سيترك حزازية في النفوس، وربما يكون نقاش تلك الأمسية هو بداية التفكير في البحث عن التعامل مع قضايا المسلمين بالتحديد من منظور عقلاني، بعيدا عن خلفيات خاطئة وتصورات غير منطقية، ولذا كانت نصحية فان غينت للطرفين في نهاية كلمته “تراجعا خطوة إلى الخلف، والتقطا أنفاسكما، ثم أعيدا ترتيب الأوراق من جديد، لتجلسا مرة أخرى حول مائدة مستديرة، وسيخرج الجميع بالحل الجيد”.
سويس انفو – تامر أبوالعينين – أولتن
تشهد سويسرا جدلا حادا حول إمكانية السماح بتشييد مآذن فوق مقار المراكز الإسلامية، بعد أن طالبت بعضها بذلك.
استغل اليمين المتشدد هذا الموقف، لتخويف الرأي العام من الجالية المسلمة بشكل عام، واعتبرت أن الموافقة على بناء مئذنة سيكون مقدمة للمطالبة بالمزيد مما يصفونه بالامتيازات، التي يراها هذا التيار غير متناسبة مع الهوية السويسرية.
تحاول المؤسسات الدينية المسيحية المعتدلة بالتعاون مع جمعيات التشجيع على الاندماج تهدئة أجواء الرأي العام، والتعامل مع المشكلة كفرصة للحوار والنقاش لفهم وجهات النظر المختلفة والتعايش في أجواء متسامحة، مثلما هو الحال مع أمسية أولتن، التي نظمتها لجنة الاندماج في المدينة مع هيئة الأمن الاجتماعي في كانتون سولوتورن، وفرع الصليب الأحمر السويسري هناك، بالاشتراك مع مجموعة العمل بين الأديان في سويسرا.
يعيش في سويسرا حوالي 350000 مسلم أغلبهم من البلقان وتركيا.
يمثلون 4.5% من سكان سويسرا البالغ عددهم قرابة 7.5 ملايين نسمة.
لا يوجد في سويسرا سوى 3 مآذن فقط، أقدمها في مسجد محمود بمدينة زيورخ التابع للطائفة الأحمدية، ثم مسجد المؤسسة الثقافية الإسلامية في جنيف، والثالثة تعتلي المركز الثقافي الألباني في فينترتور شمال زيورخ.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.