المحكمة الجنائية الدولية.. “تعزيز للعدالة الدولية رغم النقائص”
نظم معهد العلاقات الدولية العليا في جنيف نقاشا بين أستاذي قانون مرموقين لتسليط الضوء على كيفية معالجة المحكمة الجنائية الدولية لقضيتي توقيف الرئيس السوداني عمر حسن البشير، وقضية محاكمة إسرائيل عقب الحرب التي خاضتها قبل أربعة أشهر على قطاع غزة.
وشكلت رؤية القانونيين لكيفية تعامل المحكمة الجنائية الدولية مع القضيتين محور الندوة التي نظمها معهد الدراسات الدولية العليا في جنيف يوم الأربعاء 29 أبريل 2009، وإذا كان النقاش قد أثار تضاربا في موقفيهما بخصوص تأثير السياسي على القانوني في بعض الإجراءات، فإنهما يلتقيان حول “أهمية التمرين رغم النقائص كخطوة أولى في دعم العدالة الدولية”.
ومع أنها كانت أكاديمية بالدرجة الأولى وموجهة لطلبة القانون فإنها لم تخلو من أهمية نظرا لأنها سمحت بإعطاء وجهتي نظر غير متطابقتين لأساتذة مرموقين في القانون الدولي حول هاتين القضيتين هما عميد كلية حقوق الإنسان بجنيف أندرو كلابام، وأستاذ القانون الدولي بمعهد الدراسات الدولية العليا في جنيف مارسيللو كوهين.
وقبل سرد وجهتي النظر، أوضح استاذ القانون الدولي بمعهد العلاقات الدولية العليا بجنيف البروفسور فانسون شيتا الذي أدار الجلسة أن “حالة السودان تعود الى طلب تقدم به مجلس الأمن الدولي للمحكمة الجنائية الدولية للنظر في الانتهاكات التي تمت في دارفور. وقد أصدرت المحكمة العام الماضي قرارا بتوقيف الرئيس السوداني الحالي عمر حسن البشير بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية”.
أما فيما يخص وضع غزة فيرى فانسون شيتا أن الأمور “مغايرة، نظرا لكوننا فقط في المراحل التمهيدية لتحقيق محتمل”. وذكّر بأن موضوع الشكوى “يتعلق بالهجوم الذي قامت به إسرائيل في نهاية عام 2008 وبداية عام 2009 على قطاع غزة”. وأفاد شيتا بأن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية توصل بحوالي 300 شكوى من أغلبها من منظمات غير حكومية. كما أشار الى أن السلطة الوطنية الفلسطينية سلمت في 22 يناير 2009 مذكرة تعترف فيها بصلاحية المحكمة بموجب المادة 12 الفقرة 3 من ميثاق روما.
تداخل السياسي مع القانوني
ولم يغفل البروفسور فانسون شيتا التذكير بأنه سواء تعلق الأمر بمسألة غزة أو بملف السودان، فإن القضيتين “تتداخل فيهما معطيات قانونية مع معطيات سياسية”.
فيما يتعلق بقضية السودان يرى البروفسور شيتا أن “ما يثير الجدل هو هل أن توقيت إصدار مذكرة التوقيف يأتي في وقت مناسب؟”، ويذهب إلى أن هذا النقاش “يذكي جدلا آخر يحاول أن يوفق بين تحقيق السلم وبين تطبيق العدالة”، بمعنى هل أن رغبة المجموعة الدولية في تحقيق العدالة مضرة (في نهاية المطاف) بالجهود المبذولة لتحقيق السلام بين الفئات المتصارعة في المنطقة؟ أم أنه بالإمكان التوفيق بين المطلبين؟
وفي حالة غزة يرى البروفسور فانسون شيتا أن “المشكلة الرئيسية تكمن في ما إذا كانت السلطة الفلسطينية تكتمل فيها مقومات الدولية ومن حقها رفع شكوى أمام المحكمة الجنائية الدولية، وما هي التأثيرات السياسية التي قد تترتب عن تقييم المدعي العام لهذه النقطة”.
ويعترف الخبير القانوني بأن “تداخل المصالح السياسية مع التعقيدات القانونية لهاتين القضيتين يزيد من تعقيد الأوضاع”، لذلك اعتبر أن “جرأة الأستاذين المحاضرين على إعطاء رأيهما الخاص في هاتين القضيتين المعقدتين، تستحق التنويه”.
التراجع عن توقيف البشير.. “إشارة خاطئة”
أستاذ القانون الدولي وعميد أكاديمية حقوق الإنسان في جنيف أندرو كلابام تطرق إلى قضية إصدار مذكرة توقيف في حق الرئيس السوداني عمر حسن البشير ورأى أنه “إذا كان من حق مجلس الأمن الدولي أن يحول للمحكمة الجنائية الدولية أمر القيام بهذا التحقيق بموجب المادة 16 من ميثاق المحكمة، فعليه أن يُثبت بأن هناك تهديدا للسلم والأمن”.
لكن البروفسور كلابام أوضح بأن “ما كان يقصده واضعو القانون هو مفاوضات سلام تحت إشراف الأمم المتحدة، قد يعرقلها أحد الأطراف المشاركة لو هددته المجموعة الدولية بمحاكمة لجرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية. وهو ما يسمح لمجلس الأمن الدولي بتأجيل القرار لسنة قابلة للتجديد”.
وإذا كان البعض يستند إلى هذا الشرح لفقه القانون لتعليل ضرورة تعليق قرار التوقيف الصادر في حق الرئيس السوداني، فإن البروفسور كلابام يرى أن هذا “لا ينطبق على وضعية الرئيس السوداني”.
وأضاف يقول: “إن من يعلل تعليق تطبيق قرار التوقيف بما قد يحدثه هذا القرار من عرقلة للعمل الإنساني في دارفور وما ترتب عنه من طرد لمنظمات إنسانية، قد يكون بمثابة إشارة خاطئة لمستقبل المحكمة الجنائية الدولية ووسيلة قد يتم استغلالها في المستقبل للتهرب من المتابعة باللجوء إلى ارتكاب مزيد من الانتهاكات قد تعتبر تهديدا للسلم والأمن”.
الدول ليست مجبرة قانونيا على توقيف البشير
مارسيللو كوهين استاذ القانون الدولي بمعهد الدراسات الدولية العليا بجنيف تطرق بدوره لموضوع المحكمة الجنائية الدولية وقضية الرئيس السوداني، بعرض صورة قادة دول أمريكا اللاتينية أثناء لقائهم بقادة الدول العربية في الدوحة وما تخللها من تهرب البعض من التقاط تلك الصورة بحضور الرئيس السوداني عمر حسن البشير.
وعلل البروفسور مارسيللو ذلك “بصعوبة تطبيق قرار توقيف رئيس ما زال في الحكم” معتبرا أن المشكلة تكمن “في رغبة المجموعة الدولية في معاقبة مرتكبي جرائم خطيرة” من جهة، وفي ضرورة احترام “مبدأ الحصانة والسير العادي في العلاقات الدولية” من جهة أخرى.
والسؤال الأول الذي يطرحه البروفسور مارسيللو كوهن “هل إصدار قرار التوقيف في حق الرئيس البشير مطابق للقانون الدولي؟”، ويجيب عن ذلك بالقول: “لا أعتقد بأن قرار المحكمة يمكن اعتباره مطابقا للقانون الدولي ولا حتى لميثاق المحكمة نفسها”. ويعزز هذا الموقف بالدعوة للرجوع الى المادتين 27 و 98 من ميثاق المحكمة و “اللتان يجب ان تتم مراعاتهما معا وليس على انفراد” حيث تنص المادة 27 على “تطبيق القانون على الجميع” مما يوحي بعدم الاحتماء وراء الحصانات.
أما المادة 98 فهي تنص على أن “المحكمة ليس من حقها المطالبة بتطبيق قرار تسليم شخص أو بتقديم مساعدة من دولة بطريقة تجبرها على التصرف بشكل ينتهك الالتزامات التي عليها بموجب القانون الدولي فيما يخص حق التمتع بالحصانة بالنسبة للدول أو الحصانة الدبلوماسية لشخص او الممتلكات التابعة لبلد ما إلا بعد الحصول على موافقة هذا البلد على التعاون معها برفع الحصانة”. أما الخلاصة فهي تتمثل حسب البروفسور مارسيللو في أن “السودان ليس عضوا في المحكمة الجنائية الدولية، ولم يوافق على رفع الحصانة عن الرئيس البشير”.
وفيما يتعلق بالجدل حول مسؤولية الدول الموقعة على ميثاق المحكمة في تطبيق توقيف الرئيس السوداني عندما يتواجد على أراضيها أو يمر عبر أجوائها، يقول البروفسور مارسيللو كوهن “هذه الدول لا ترتكب خطأ إذا ما رفضت تطبيق التوقيف وهذا بموجب المادة 98”. ولا يعتبر الخبير القانوني أن “قرار مجلس الأمن 1593 (وهو القرار الذي خول للمحكمة حق النظر في قضية دارفور) يُعفي من الالتزام بمبدأ احترام الحصانة”.
هل السلطة الفلسطينية “دولة”؟
فيما يتعلق بقرار السلطة الوطنية الفلسطينية الإعتراف بصلاحية المحكمة الجنائية التي قدمتها في 29 يناير 2009 بموجب المادة 12 الفقرة 3 من ميثاق روما، يرى البروفسور كلابام أنها “تعطي حق فتح ملفات تعود الى ما قبل الحرب في غزة وبالتحديد حتى الفاتح يوليو 2002”. وحتى ولو اعتبر البروفسور كلابام أن “قوانين المحكمة تخول الحق بفتح تحقيقات في انتهاكات وقعت بالفعل في الماضي وليس أنها ستقع في المستقبل”، فإنه يستغرب لكون ممارسات المحكمة حتى الآن كانت غير ذلك، مستشهدا بما حدث في محكمة رواندا.
ويستخلص البروفسور كلابام من هذا أن “الانتهاكات التي وقعت في العراق اليوم أو ما حدث في معسكر غوانتانامو يمكن أن يخضع لتحقيق المحكمة في يوم من الأيام”، ويشدد على أن ذلك يمثل “رسالة قوية موجهة لمن يرتكبون الانتهاكات اليوم ويتذرعون بأنهم لم يوقعوا على ميثاق المحكمة”، إضافة إلى أولئك الذين “يعتمدون على أن الشروط المتوفرة اليوم لا تسمح بفتح التحقيق”، استنادا إلى تحليل البروفسور كلابام.
مارسيللو كوهين يتساءل من جهته: هل فلسطين دولة بموجب البند 12 الفقرة 3 من ميثاق المحكمة الجنائية الدولية؟. ومع أنه سارع للإجابة قائلا: “أتمنى ان تصبح في يوم من الأيام دولة”، فإنه يرى على خلاف البروفسور أندرو كلابام “إنها ليست كذلك في الوقت الحالي. لذلك لا يمكنها الاعتماد عل هذه المادة 12 الفقرة 3” من أجل تخويل المحكمة حق فتح تحقيق في الجرائم التي ارتكبت في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
دروس مستخلصة
إذا كان الذي دار بين أستاذي القانون قد أثار تعارضا في أكثر من نقطة بخصوص هاتين القضيتين، فإنهما توصلا إلى نقاط مشتركة في الخلاصة التي أسفر عنها النقاش. فقد أشار البروفسور مارسيللو كوهين إلى “التداخل بين المعطيات السياسية والمبادئ القانونية لتحديد مفهوم الاعتداء”، وما يترتب عن ذلك من “كيل بمكيالين” و”محاكمة الرئيس البشير وليس رؤساء آخرين”.
ويرى البروفسور كوهين أن “إخضاع المحكمة الجنائية الدولية لقرار مجلس الأمن الدولي في تحديد الجرائم خطوة للوراء”. ويستشهد على ذلك بما أقرته محكمة العدل الدولية عندما اعتبرت أن “مجلس الأمن الدولي محفل سياسي في حين أنها محفل قانوني، وأنها تملك صلاحية تحديد ما تنطبق عليه صفة الاعتداء أم لا من منظور قانوني وليس من منظور سياسي”. وحتى لا يحبط آمال مناصري تعزيز العدالة الدولية، ختم البروفسور كوهين تدخله بالقول “إننا على الرغم من هذا التناقض والغموض والتراجع، نعيش خطوة أولى في الطريق الأبدي لمحاولة تحرير العدالة الجنائية الدولية من نفوذ السلطة السياسية”.
من ناحيته، لا يرى زميله البروفسور أندرو كلابام غير ذلك حيث يعتبر أنه “سواء قُدم الرئيس البشير للمحاكمة أم لا، وسواء تم تطبيق قرار التوقيف ام لا، فإن المهم اليوم هو الدفع الذي يعطيه قرار من هذا النوع للقوانين الوطنية بحيث لجأت العديد من الدول اليوم الى إدخال فقرات في قوانينها لمحاكمة مرتكبي جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب”. وهذا الجانب الردعي مهمّ في نظره من أجل تعزيز العدالة الدولية التي تشكل المحكمة الجنائية الدولية جانبا منها.
سويس إنفو- محمد شريف- جنيف
أستاذ القانون الدولي فانسون شيتا، ذكر بالصلاحيات التي تتمتع بها المحكمة الجنائية الدولية للنظر في “جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وحروب الإبادة وحتى الاعتداءات ولو أن جريمة الإعتداء ليست محددة بدقة”.
ولكن ما يحد في نظر الخبير من صلاحيات تولي المحكمة تلك المهام، الإرادة التي تبديها الدول الموقعة على ميثاق روما(الذي قامت على أساسه المحكمة) والتي تجري تلك الانتهاكات على أراضيها بموجب المادة 12 الفقرة 3، أو الدولة الموقعة التي يتورط أحد مواطنيها في تلك الانتهاكات.
ويضيف فانسون شيتا “حتى ولو توفر الشرطان السابقان يتطلب الأمر أن تتوصل المحكمة بطلب رسمي… إما من قبل بلد عضو في ميثاق روما، أو من قبل مجلس الأمن الدولي، أو بمبادرة من المدعي العام للمحكمة الذي له الحق في طرح الموضوع أمام المحكمة إذا ما توفرت الشروط السابقة”.
والنقطة الثالثة التي أثارها الخبير القانوني، تخص الشروط التي يجب توفرها لفتح تحقيق من قبل المحكمة الجنائية الدولية. وفي هذا الإطار يرى فانسون شيتا أن هناك ثلاثة شروط لفتح تحقيق من قبل المدعي العام: أولا توفر دلائل تثبت حدوث الجرائم المراد النظر فيها. وثانيا توفر الشروط لتقبل الشكوى والتي تتمثل في خطورة طبيعة الجريمة، وأن القضية ليست مطروحة أمام المحاكم الوطنية. وثالثا أن تكون المحاكمة في صالح العدالة.
ويعتبر فانسون شيتا أن توفر هذه الشروط هو الذي يسمح للمدعي العام بقبول فتح تحقيق في قضية أمام المحكمة الجنائية الدولية التي وصفها بـ “الانجاز الثوري في طريق العدالة الدولية”.
وفي إطار التذكير دائما أوضح استاذ القانون الدولي بأن المحكمة الجنائية الدولية تنظر اليوم في أربعة قضايا: تتعلق بجمهورية الكونغو الديمقراطية، وأوغندا، وجمهورية إفريقيا الوسطى والسودان.
وفيما يتبادر للأذهان توجيه الإنتقاد للمحكمة على اعتبار أنها تركز نشاطاتها على بلدان من القارة السمراء وحدها نظرا لكون كل القضايا المنشورة أمامها تمس دولا إفريقية، أوضح الخبير القانوني بأن “القضايا الثلاثة الأولى هي بطلب من حكومات هذه الدول نفسها وأن السودان وحده هو الموضوع المطروح بطلب من مجلس الأمن الدولي”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.