المَلَكِية الأردنية على محكّ التغيّرات في الداخل وفي الجوار
قبل أشهر قليلة، سرّبت مصادر النظام السوري معلومات عن أنصارها في لبنان، مفادها أن الإدارة الأمريكية قررت (على جري عادتها الجديدة في الشرق الأوسط) تسليم السلطة في الأردن إلى الأخوان المسلمين، وأن هذا البلد سيشهد قريباً "تطورات جسيمة".
وبعدها بفترة قصيرة، كانت الملكة الأردنية رانيا تتصل بصديقتها أسمى الأسد، زوجة الرئيس السوري، لـ “الاطمئنان” على الأوضاع في سورية. لكنها فوجئت بأسمى تقول لها:” الأولى أن تطمئنوا أنتم على أوضاعكم في الأردن”. وهكذا، جاءت معلومات المصادر لتتطابق مع رد فعل قرينة الرئيس.
فهل يعني ذلك أن النظام الملكي الأردني بات في خطر؟ أم أن المسألة تتعلّق فقط بالملك عبد الله الثاني دون المَلَكٍية؟ وإذا ما كان الأمر كذلك، لماذا وصلت الأمور إلى هذا المستوى الخطير من التساؤلات للمرة الأولى منذ تأسيس دولة الأردن العام 1921 تحت مسمى “إمارة شرق الأردن”، قبل أن تتحول لاحقاً إلى المملكة الأردنية الهاشمية في عام 1946.
سنأتي إلى هذه الأسئلة المصيرية، والتي يبدو أنها تتعلّق أساساً بدوافع خارجية. قبل ذلك، وقفة عند الأسباب الداخلية المباشرة للأزمة الراهنة.
إصلاح مُعلّق
منذ اندلاع ثورات الربيع العربي عام 2011، والأردن يشهد تظاهرات متواصلة مطالبة بالإصلاحات السياسية. لكن الأمور وصلت إلى عنق الزجاجة مؤخراً، حيث اتهمت المعارضة، بقيادة جماعة الإخوان المسلمين، الملك عبدل الله الثاني بأنه علَّق الأصلاح الديمقراطي في الأردن إلى أجل غير مسمى، وقرر السير في ركاب المَلَكِيات الأخرى في دول الخليج، بدل أن يحذو حذو إصلاحات المَلَكِية المغربية؟
وهكذا، قررت المعارضة مقاطعة الانتخابات المقررة في أواخر السنة الحالية، وتبعها العديد من الاحزاب اليسارية والليبرالية، قائلين أن قانون الانتخاب الجديد الذي صادق عليه الملك، سيُعيد انتاج برلمان تُهمين عليه المصالح القَبَلِية الضيقة المستندة إلى النظام الزبائني. ويضيفون أن وعد الملك بتعيين رئيس للحكومة بالتنسيق مع البرلمان الجديد، لم تعد تعتبر خطوة في الطريق القويم نحو الإصلاح، بعد أن ضمن الملك هيمنته على البرلمان.
أما أنصار الملك فهم يروون قصة أخرى، إذ يقولون أن خطوة الملك كانت حكيمة وحصيفة للغاية، لأنها متطابقة مع الإرادة الشعبية التي ترى ما يجري من مآسٍ في سورية، فتفضِّل الأمن والاستقرار على الإصلاح الديمقراطي والحريات.
من نصدِّق؟ من زاوية ظاهرية وبراغماتية، يبدو الملك بالفعل حصيفاً. فالشعب الأردني، كما دلّت محدودية المظاهرات، في البداية على الأقل، المطالبة بالديمقراطية منذ سنتين، ربما يخشى حقاً من حال اللاإستقرار، ولايزال يمحض نفسه فرصة اختيار موعد الإصلاح. ثم جاءت الأزمة السورية لتعزز بقوة هذا المنحى.
بيد أن محصلات هذه الحصافة الملكية أثبتت أنها آنية وقصيرة العمر، لأسباب عدة جعلتها على ما يبدو تنقلب إلى عكسها. فبعد أن قررت أحزاب المعارضة مواصلة مقاطعة الانتخابات، من المرجح الآن أن تنخفض نسبة المشاركة الشعبية إلى أقل من 50 في المئة. وحينها ستكون مسألة شرعية ومقبولية النظام موضع تساؤل كبير وشك أكبر.
.. والأزمة الاقتصادية
كل هذا أدى إلى قرع أجراس إنذار قوية تُنذر بمرحلة دقيقة وخطرة في المملكة الهاشمية، خاصة بعد أن تقاطعت أزمة الإصلاحات السياسية بشكل ملتهب وسريعاً مع أزمة أخرى لاتقل خطورة: تفاقم المشاكل الاقتصادية- الاجتماعية الصعبة في البلاد. وهذا ما خلق الآن كوكتيلاً خطيراً، وربما متفجراً، في حال سخُّرت الأزمة الاقتصادية لخدمة الاهداف السياسية.
فالبطالة مرتفعة للغاية، وكذا التضخم والعجز في الموازنة. والسلطات الأردنية وقعت بين فكي كماشة غاية في التعقيد: فهي مضطرة إلى تقليص معدلات دعم الوقود والمواد الغذائية بهدف تقليص الضغوط الهائلة على الموازنة، وكتلبية لشروط صندوق النقد الدولي التي وضعها مقابل منح الأردن قرضاً تسهيلياً بقيمة ملياري دولار. لكنها إن فعلت، قد تواجه انتفاضات شعبية كتلك التي تواجه الآن، والتي تسفيد منها جماعة الإخوان المسلمين بشكل كبير لتحقيق أهدافها السياسية.
والآن، ومع وصول الأزمة السياسية بين الموالاة والمعارضة إلى لحظة الحقيقة مع حل البرلمان والاتجاه إلى إجراء انتخابات نيابية ستكون تقسيمية إلى حد كبير، يجب أخذ الوضع المعيشي والأزمة الاقتصادية في الحسبان كلما بدأنا التفكير في مآل الصراعات الراهنة في الأردن.
مخططات خارجية؟
نعود الآن إلى سؤالنا الأول: هل بات مصير المَلَكِية الأردنية، أو على الأقل الملك، على المحك حقا؟ المراقبون الذي تابعوا الحيثيات الدولية التي رافقت حرب غزة-2 الأخيرة، توقفوا ملياً أمام الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل في هذه الحرب، وتساءلوا: لماذا هذا الموقف الصارم الذي اتخذته واشنطن، على رغم أنها تعلم أن هذه الحرب، والتي يفترض أنها تجري في مناخات جديدة في الشرق الأوسط، قد تؤثّر بقوة على نفوذها في عواصم الربيع العربي وشعوبه ؟
لم يبد أن هناك سوى تفسير مقنع واحد: ثمة ما يشي بأن ثمة صفقة ما أبرمت بين واشنطن وتل أبيب، تسمح فيها الأولى للثانية بمحاولة ترتيب أوضاعها الأمنية والاستراتيجية في “امبراطوريتها الصغيرة” في الهلال الخصيب (أي غزة والضفة، والأردن، ولبنان وسورية) والحد من النفوذ والسلاح الإيراني فيها، في مقابل وضع الحرب العسكرية مع طهران على الرف ومنح الحرب الاقتصادية الأميركية والغربية عليها، والتي تبدو ناجحة حتى الآن، فرصة النضوج والإثمار.
إذا ما كانت هذه الفرضية صحيحة، والأرجح أنها كذلك، سيكون علينا التطلُّع إلى ماهو أكبر وأبعد حتى من العملية العسكرية الإسرائيلية الكبيرة التي جرت في غزة. وهذا يفترض أن يشمل في وقت ما ليس فقط صواريخ حزب الله في لبنان، بصفتها الامتداد الأبرز للنفوذ الإيراني في الشرق الأدنى، بل أولاً وأساساً الأردن التي باتت الحركة الإسلامية فيه بقيادة جماعة الإخوان المسلمين تشكّل بقوتها الاعتراضية الجديدة امتدادا طبيعياً لحركة حماس في غزة.
السيناريو الذي يطرحه المحلّلون (ليس الآن مع اندلاع الاضطرابات في الأردن، بل حتى قبل أشهر عدة) هو أن تساعد الولايات المتحدة وإسرائيل على تقويض العرش الهاشمي وتسليم السلطة، ربما بعد حرب أهلية فلسطينية- شرق أردنية، إلى الإسلاميين. وحينها ستُفتح الأبواب والنوافذ على مصراعيها أمام تنفيذ الشعار الأسرائيلي القديم: الأردن هو الدولة الفلسطينية.
هذا السيناريو لا يتطلب إنهاء حكم حماس في غزة، بل ربما كان العكس صحيحا، حيث أن وجود هذه الحركة الإسلامية سيكرّس أمرين واقعين في آن: استمرار انفصال الضفة الغربية عن القطاع، وبالتالي تسهيل مواصلة ابتلاع الضفة من قّبِل إسرائيل تحت مسميات مختلفة، وفي الوقت نفسه ربط غزة سياسياً وإديولوجيا بالأردن الجديد.
انقلاب أميركي؟
قد يبدو أن ثمة مغالاة في هذه الافتراضات. لكن المواقف الأمريكية الأخيرة جاءت لتصب الكثير من الزيت الواقعي على نار هذه الافتراضات النظرية. ففي تصريح مفاجىء في 20 نوفمبر الماضي، أثار مساعد الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية مارك تونر الرعب، والغضب، في البلاط الملكي الأردني، حين أعلن أن ثمة “ظمأً للتغيير” في الأردن، وأن للشعب الأردني “مشاغل اقتصادية وسياسية”، وأيضاً “تطلعات”.
هذا التصريح دفع مسؤولين أردنيين إلى الحديث في مجالسهم الخاصة عن “مؤامرة تقودها الولايات المتحدة” لإطاحة نظام الملك عبد الله، إذ هم اعتبروا الحديث عن “الظمأ إلى التغيير” بمثابة ضوء أخضر من الولايات المتحدة إلى أعداء الملك عبد الله لمضاعفة جهودهم الهادفة إلى إطاحة الملكية، خاصة وأن واشنطن لم تشر بشيء إلى الهجمات التي تعرّض إليها العديد من المكاتب والمنشآت الحكومية الأردنية والتي جًرِح فيها العشرات من قوات الأمن، ولا إلى الشعارات التي أُطلقت في المظاهرات والتي تطالب باسقاط الملك عبد الله نفسه.
بيد أن شكاوى المسؤولين الأردنيين لم تتوقف هنا، إذ هم تساءلوا أيضاً: ما سر المواقف الخليجية، أساساً القطرية والسعودية، مما يجري في بلادهم، ولماذا لم تفِ هذه الدول بوعود الدعم المالي لهم؟
بعض المسؤولين فسّر هذا الموقف بأنه بمثابة عقاب للأردن لرفضه الانغماس في عملية دعم المعارضة السورية وإطاحة الرئيس الأسد. لكن رئيس الوزراء الأردني عبد الله النسور ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، حين حذّر الخليجيين من أن دعمهم للإسلاميين في بلاده سيجعل من انظمتهم الهدف الثاني لهؤلاء.
فهل كان النسور يشير بذلك إلى أن الأنظمة الخليجية انضمت إلى “المؤامرة الأميركية” للإطاحة بالملك عبد الله؟ وإذا ما كان الأمر على هذا النحو، هل يعني ذلك أيضاً أن الخليجيين يوافقون على المشروع الإسرائيلي لتحويل الأردن إلى دولة فلسطينية، ليكون بذلك “ثالث دولة فلسطينية ” بعد غزة والضفة الغربية، فتوضع بذلك القضية الفلسطينية، كقضية عربية وإسلامية، في ثلاجة انتظار تاريخية طويلة الأمد؟
افتراضات، ولكن؟
كما أسلفنا، هذه المحصلات المتعلقة بربط تطورات الأردن الداخلية بالسياقات الإقليمية والدولية العامة، لا تزال افتراضات نظرية. لكن هنا يجب تذكُّر أمر مهم: التمخضات والتغيرات العنيفة التي يشهدها الشرق الأوسط هذه الأيام، لا تقتصر على تغيير الأنظمة، بل تتضمن أيضاً التغيير الفعلي للخرائط (نماذج السودان والعراق واليمن، وربما قريباً سورية وغيرها).
والأردن، وبسبب روابطه الوثيقة والمصيرية بالفلسطينيين والقضية الفلسطينية، قد لا يكون بالضرورة استثناء في هذه القاعدة الجديدة في الشرق الأوسط.
انحسرت الاحتجاجات العنيفة التي هزت الأردن الشهر الماضي بصورة كبيرة لكن هتافات غير مسبوقة تطالب بإسقاط “النظام” تشير إلى متاعب أعمق في المملكة التي لم تشهد حتى الآن الانتفاضات التي أعادت تشكيل العالم العربي.
ما من شك في أن الغضب بسبب خفض الدعم الحكومي للوقود هو الذي تسبب في تفجر مثل هذه الاحتجاجات التي قتلت فيها الشرطة بالرصاص رجلا خلال مواجهة عند مركز للشرطة. كما أن اعتزام الحكومة رفع أسعار الكهرباء ابتداء من العام القادم ربما يشعل الغضب الشعبي.
لقد بدأ البناء الذي جعل الأردن مستقرا نسبيا عشرات السنين يتصدع ويتضح هذا بشدة في المحافظات التي يغلب عليها الطابع العشائري والتي كان ينظر لها منذ زمن طويل على انها الركيزة الأساسية لدعم العائلة الهاشمية المالكة التي تولت الحكم عام 1921.
وتعززت هذه الصيغة بعد حرب أهلية عام 1970 بين الجيش والمقاتلين الفلسطينيين – وهو حدث فاصل في تاريخ الأردن يجري حذفه من الأحاديث العامة – والتي تعطي سكان الضفة الشرقية امتيازات في مجالات الجيش والشرطة وأجهزة الأمن والأجهزة الحكومية.
قال دبلوماسي أوروبي “الإصلاح صعب حقا لأن هناك حاجة لتغيير القواعد الاقتصادية والقواعد السياسية… في الماضي كانت العشائر تعطي دعمها مقابل الوظائف والمال. الآن لم يعد هذا ممكنا.. إنهم يقولون ‘لن ندفع مالا مقابل فسادكم “.
وتجنب الفلسطينيون الذين تضرروا أيضا بشدة من إجراءات التقشف الحديث علانية للحيلولة دون إحداث انقسام سياسي.
وفي الكرك وهي بلدة عشائرية جبلية شاركت في الاحتجاجات التي ثارت ضد رفع أسعار الوقود الشهر الماضي ينتظر أصحاب المتاجر الذين يبدو عليهم الوجوم الزبائن في شوارع تجارية ضيقة تحت قلعة الكرك. قال هاني حرز الله “خلي المواطن اللي يشعر انه رفع الأسعار أضره يطلع ويعبر عن رأيه سلميا.”
لكن فرص العمل نادرة. ويهدف تجميد الحكومة لفرص التعيين إلى الحد من عبء الأجور ومعاشات التقاعد في القطاع العام على خزانة تعتمد منذ زمن طويل على المساعدات من دول الخليج وجهات غربية مانحة.
وأظهرت برقية دبلوماسية أمريكية نشرها موقع ويكيليكس أن “الجهاز الحكومي المترهل ونظام التبعية العسكرية” امتص ما يصل إلى 83 في المئة من ميزانية 2010 رغم خفض الإنفاق المزمع.
وواجه الاقتصاد أزمات أشد منذ ذلك الحين. فقد خفض النظام الجديد في مصر بشدة من إمدادات الغاز الرخيص إلى الأردن الذي يستورد 97 في المئة من الطاقة والذي أصبح يتعين عليه فجأة أن يدفع 2.5 مليار دولار سنويا للحصول على الوقود.
وكانت احتجاجات الشهر الماضي الأعنف بين عدة موجات من الاضطرابات في الأردن منذ اندلاع انتفاضات الربيع العربي قبل نحو عامين وإطاحتها بحكام في أنظمة شمولية في كل من تونس ومصر وليبيا.
وتنظم حركات معارضة محلية النشطاء في الكرك وبلدات أخرى في المناطق الريفية والعشائرية وتعرف مجتمعة باسم الحراك ويركز هؤلاء في شكاواهم على الفساد وتدني الخدمات والبطالة. كما أنهم مستاءون من الخصخصة وغيرها من إصلاحات السوق التي تهدف إلى الحد من الإنفاق الحكومي الذي يستفيدون منه.
وتتهم السلطات الإسلاميين الذين زادوا جرأة مع قيام انتفاضات الربيع العربي التي أدت إلى انتخابات فاز بها نظراؤهم في مصر وتونس بإذكاء الاضطرابات ورفض الانضمام لحوار الإصلاح الذي أطلقه الملك عبد الله في أوائل عام 2011.
وقال مصدر رسمي كبير طلب عدم نشر اسمه “من الواضح ان الاخوان المسلمين قرروا أن بإمكانهم الحصول على المزيد من المكاسب إذا بقوا في الشوارع.”
وأقر بأن توقيت خفض الدعم الحكومي مع قدوم الشتاء وقرب موعد الانتخابات لم يكن مثاليا لكنه قال إنه لم يكن هناك من خيار آخر لأن الأردن كان يواجه خطر “الإفلاس”.
(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 2 ديسمبر 2012)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.