“النخبة بكل أطيافها هي المسؤولة عن هذه النكسة”
أكثر ما يُقلق المراقبين في تطورات مصر ليس فقط السرعة التي يُعيد بها النظام الأمني- العسكري إنتاج نفسه بزخم غير مسبوق، بل أيضاً المناخ الشعبي والسياسي الذي يبدو أنه يرقص بحماسة على طبول هذه الولادة الجديدة للسلطوية. وهذا يقلب الآن كل مقاييس ثورة يناير رأساً على عقب.
فالحرية، التي كانت أنشودة الملايين في ميدان التحرير، وكانت وراء إطلاق سمة الربيع على هذه الثورة، غابت عن الأنظار وحلّت مكانها شعارات حصانة “الرموز” التي ليست شيئاَ آخر سوى القيادات العسكرية – السياسية الجديدة.
والديمقراطية، التي كان يجب أن تحل مكان السلطوية المباركية، باتت في عهدة محاكم عسكرية ومدنية تسلِّط سيف ديموقليطس القمع والرقابة فوق رؤوس الجميع.
أخطاء الإخوان
التوازن المفترض بين السلطتين العسكرية والمدنية سقط بالضربة القاضية، حين تحوّل زبانية أجهزة المخابرات فجأة إلى أبطال، وحين تم بسرعة خلق عبادة شخصية الجنرال عبد الفتاح السيسي، تارة عبر تشبيهه بجمال عبد الناصر، وتارة أخرى بطرحه كمنقذ أول من ضلال فوضى الأمن والأمان.
والإخوان المسلمون أيضا يتحملون مسؤولية كبرى. فهم فهموا الديمقراطية بشكل مخطئ، حين قفزوا فوق حقيقة أن المراحل الانتقالية إلى الديمقراطية تتطلب إجماعاً وطنياً لا تفرداً في السلطة. وهم واصلوا التصرف كتنظيم سري منغلق على نفسه حتى وهم يسيطرون على كل مفاتيح السلطتين التنفيذية والتشريعية. كما أن أداءهم الاقتصادي- والاجتماعي والسياسي دلّ على فقدان ملحوظ للكفاءة وبُعد النظر.
الرئيس مرسي نفسه كان تتويجاً لكل هذه الأخطاء، حين رفض بعناد كل النصائح العديدة التي قدمتها له مجموعة واسعة من القيادات العربية والأجنبية بضرورة ممارسة استراتيجية شمول الجميع ( Inclusion) في المرحلة الانتقالية، من راشد الغنوشي وطيب رجب أردوغان إلى أوباما وكاميرون وهولاند.
نددت منظمة هيومن رايتس ووتش الاثنين 11 نوفمبر 2013 باقدام السلطات المصرية على اعتقال اكثر من 1500 لاجئ سوري طوال اسابيع وحتى اشهر من بينهم 250 طفلا مع اهلهم قبل ترحيل اغلبيتهم.
وقالت المنظمة في بيان انه ما زال هناك حوالى 300 شخص معتقل بشكل “اعتباطي” في سجون مراكز الشرطة “المكتظة” من بينهم 211 فلسطينيا وافدين من سوريا.
وأوقفت اغلبية هؤلاء فيما كانوا يحاولون الهجرة الى اوروبا عبر المتوسط في زوارق بسيطة عبر دفع المال لمهربين.
وبات السوريون والفلسطينيون هدفا للسلطات التي انشأها الجيش بعد ان عزل واوقف الرئيس الاسلامي السابق محمد مرسي قبل اربعة اشهر وشن حملة قمع دامية على انصاره.
واتهمت السلطات المؤقتة حركة حماس الفلسطينية وحيزا من المعارضين السوريين بدعم الاخوان المسلمين التي ينتمي اليها مرسي وفازت بفارق كبير في الانتخابات التشريعية في اواخر 2011.
وفرضت السلطات المصرية قيودا على دخول الفلسطينيين والسوريين الى اراضيها بعد عزل مرسي في 3 تموز/يوليو.
كما اتهمت هيومن رايتس ووتش مصر بمنع اللاجئين و لا سيما الفلسطينيين من طلب الحماية من المفوضية العليا للاجئين في الامم المتحدة ما يشكل انتهاكا لاتفاقية 1951 الدولية لحقوق اللاجئين.
في تشرين الاول/اكتوبر نفت السلطات المصرية اتهامات مشابهة من منظمة العفو الدولية اكدت تعرض اللاجئين السوريين في مصر لاساءة المعاملة والتوقيف الاعتباطي.
(المصدر: وكالة الأنباء الفرنسية، الإثنيْن 11 نوفمبر 2013)
مسؤولية النخبة الليبرالية واليسارية
لكن، وبعد قول كل شيء عن مسؤولية الإخوان في نكسة الديمقراطية هذه، يتعيّن القول أن بديل الجماعة لم يكن تصويب مسيرة الديمقراطية عبر ثورة يناير ديمقراطية ثانية (كما تم تصوير أحداث 30 يناير)، بل تصويب المسدس إلى رأسها من خلال تسليم مقاليد الأمور ثانية (وبحماسة شديدة) إلى زبانية أجهزة المخابرات الذين كانوا قد تحولوا إلى طبقة اجتماعية قائمة بذاتها، وفق تعريف أنطونيو غرامشي، تمارس شتى أنواع النشاطات السياسة والاقتصادية والأمنية، وحتى الثقافية والفكرية.
أجل. المواطنون المصريون تعبوا من انهيار الأمن والأمان ويبحثون بالفعل، كما في جل التاريخ الإسلامي، عن منقذ و”مستبد عادل”. لكن لم يكن هذا يستوجب بالضرورة تحويل رجال أجهزة المخابرات إلى أبطال، لولا أن هذه النزعة تلقت حقنة دعم قوية من القوى اليسارية والليبرالية والديمقراطية، التي أعماها خوفها من الإخوان عن رؤية غابة الاستبداد التي تختفي الآن وراء شجرة البحث عن الأمن.
النخبة بكل أطيافها هي المسؤولة عن هذه النكسة: الليبراليون واليساريون هم في الواقع المسؤول الأول عن نكسة ثورة يناير، تماماً كما أن جماعة الإخوان هي المسؤول الأول عن تعثُّر مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية. وغداً حين يأتي وقت كتابة تاريخ ثورة يناير، سيقال حتماً أن الإخوان طعنوها في الظهر، لكن اليساريين والليبراليين نحروها من الوريد إلى الوريد، عبر الصفقة الفاوستية المُغرقة في انتهازيتها التي أبرموها مع النظام العسكري- الاستخباري، والتي سيدفعون حتماً هم أنفسهم ثمنها غالياً في وقت لاحق.
مصر إلى أين؟
هذا البلد آيل إلى ما كان يصفه كارل ماركس بتكرار التاريخ لنفسه، أولاً بشكل درامي ثم بشكل كاريكاتوري.
الدراما الأولى تجسَّدت في النظام السلطوي الواضح الذي حكم مصر 61 سنة. أما الشكل الكاريكاتوري فسيظهر في النظام السلطوي الجديد الذي يولد الآن، والذي يحاكم بموجبه مغتصبو السلطة رئيساً منتخباً ديمقراطيا، بتصفيق حماسي من الديمقراطيين.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.