اليمن والعولمة و”الانفِــجار العظيم”
"مجموعة أصدِقاء اليمن"، التي شكّلها المؤتمر الدولي التي عُـقد في لندن مؤخراً، قد يكون أصدَق تعبير عن أسوإ إزدواجية مارَسها الغرب حتى الآن. فـ "أصدقاء" اليمن الغربيون لم يكُـن لهم وجود من قبل، إلا في صيغة أجهزة أمنية، أمريكية وبريطانية أساساً، تتعاون مع أجهزة الأمن اليمنية في كل شيء، ما عدا مصلحة الشعب اليمني في الديمقراطية والتنمية. والأصدقاء الغربيون الجُـدد، لم يتذكّـروا اليمن، إلا بعد إعلان تنظيم "القاعدة" عن تحويل هذا البلد إلى قاعدة لعَـملياته في شِـبه الجزيرة العربية.
صحيح أن هؤلاء الأصدقاء القدماء – الجُـدد، ربطوا مُـساعداتهم المالية والاقتصادية لصنعاء، بتحقيق إصلاحات سياسية واقتصادية، كانت “مُوَضّبة” في ثلاجة النظام منذ نيْـفٍ وثلاثين عاماً، إلا أن هذا الرّبط ليس سوى تطبيق للشعار الإنجليزي الشهير: “دعهم يأكلون الوُعود”.
ففي حال حصلت صنعاء على ما تُـريد، أي أكثر أو أقلّ من الأربعة بلايين دولار التي تطلُـبها، ستدّعي أنها ستُنفّـذ مقابل ذلك كل الإصلاحات المطلوبة، من تحقيق ديمقراطية غير إقصائية إلى توفير فُـرص عمل للشبان العاطلين عن العمل، والذين بلغت نِـسبتهم 51%، لكنها ربما لن تفعل في الواقع سوى الإفادة من المُـساعدات لتصعيد الحرب على الحوثيين والجنوبيين.
الدولة الفاشلة
هذه الاحتمالات هي أقرَب في الواقع إلى كونها تأكيدات، إذ على رغم أن تنظيم القاعدة يشكّـل خطراً مشتركاً على الغربيين والخليجيين على حدِّ السواء، إلا أن انفِـجار اليمن داخلياً، ليس كذلك. فالغرب يستطيع بسُـهولة أن يتعايش مع مُـجتمع يَـمني في حالة حربٍ دائمة، في حين أن الخليج لا يمكنه أن يعيش لحظة مع دولة فاشلة يمَـنية.
لماذا؟ الديموغرافيا سبب رئيسي، إذ أن الحقيقة بأن أكثر من 40 مليون يمَـني (وهذا الرقم المُتوقّع لتِـعداد اليمنيين بعد عقد)، يعيشون على أقل من دولارين في اليوم، على مرمى حجر من أعلى معدّلات دخْـل في العالم في دول الخليج، ستكون مدعاة لتفجير حِـقد طبقي يمَـني عنيف ضدّ الخليجيين، وهو حِـقد لا يمكن أن يُـترجم نفسه إلا بالهِـجرة الشرعية وغير الشرعية إلى هذه الدول أو بالعنف المُتلحّـف برداء الدِّين.
والجغرافيا، سبب ثانٍ. فاليمن، شِـئنا أم أبيْـنا، جزء لا يتجزّأ من الخليج العربي، ولا يُـضعف من هذه الحقيقة كون اليمن في زمان متأخِّـر عن الزمن الخليجي بعقود تنمَـوية عدّة، لا بل هو يعزِّزها أو يجب أن يعزِّزها باتِّـجاه ردْم الهُـوّة الاقتصادية بيْـنه وبين جيرانه، وهذا عمل حصِـيف قامت به كل الدول التي تريد تجنّـب النزاعات والانفجارات (من ضخّ ألمانيا الغربية 200 بليون دولار فوْراً إلى ألمانيا الشرقية والمساعدات الضّـخمة التي قدّمتها أوروبا الغربية إلى دول أوروبا الجنوبية ثم الشرقية، والولايات المتحدة وكندا إلى المكسيك).
وإذا لم يحدُث ذلك، فسينشُـب “الانفِـجار العظيم” في اليمن، لا بل تكْـتَـكات ساعة هذا الانفجار بدأت بالفعل، على ما يبدو، إذ أينما يمَّـمنا وجهَـنا، نجد أنفسنا أمام حالة كلاسيكية من حالات انحِـدار الكيانات السياسية إلى وضعية “الدّولة الفاشلة”.
وللتّـذكير، يُطلَـق على الدولة نعْـت الفاشلة في الظروف التالية:
– فقدانها الدولة المعنِـية السيْـطرة المادية على أراضيها أو على احتِـكارها لشرعية استِـخدام القوّة داخل هذه الأراضي.
– تآكل سلْـطتها الشرعية في مجال اتِّـخاذ القرارات الجماعية.
– عدم قُـدرتها على توفير الخدمات العامة لمواطنيها.
– تحوّلها إلى ساحة صِـراع للدّول المجاوِرة أو الدول الكُـبرى.
السِّـمات الرئيسية الأخرى للدولة الفاشلة، تشمل وجود حكومة مركزية ضعيفة أو غيْـر فعّالة، والفشل في بلْـورة هُـوية وطنية موحّـدة وتفشّي الفساد والإجرام، على نطاق واسع، وانحِـدار اقتصادي حاد. الآن، إذا ما طبّـقنا هذه المعايير العامة على الحالة الخاصة لليمن هذه الأيام، سنكتشِـف أنها تنطبِـق عليه حَـرفاً بحرف.
فعملية بناء الدولة الحديثة فيه، وصلت إلى طريق مسْـدود بعد أن فشلت السلطة المركزية طِـيلة نصف القرن المُـنصرم على تأسيس الجمهورية في نقل ولاء المواطنين من القبيلة والعشيرة والطائفة، إلى الدولة بمؤسّـساتها الشرعية وإداراتها المدنية وقواعدها القانونية، وهذا الفشل ترافَـق مع فشَـل آخر لا يقِـل خطورة: بقاء الهُـوية الوطنية اليمنية حبيسة حفنة ضئيلة للغاية من المثقّـفين والسياسيين، الذين اقتصر وجودهم وتأثيرهم على بعض أحياء المدن.
وكما هو معروف في تاريخ نشأة الدول أو زوالِـها، حين تغيب الهُـوية الوطنية، تحلّ مكانها سريعاً الهويات “القاتلة” ما قبل الحديثة (وِفق تعبير رفيق معلوف)، وعلى رأسها الهُـوية القبلية والمذهبية، وهذا عادةً يكون إيذاناً، إما بأفول نجْـم هذه الدولة أو بانفِـجار حروب أهلية لا نهاية لها فيها.
الدولة اليمنية فاقمَـت من هذه الخطورة، حين استخدَمت هي نفسها الأوراق القبلية والطائفية (ومؤخراً الورقة الأصولية المتطرفة)، لتثبيت أركان وجودها، وهذا في حدِّ ذاتِـه تناقض أيّـما تناقُـض مع مُـبرِّر وجود الدولة نفسها.
ثم أن خدمات الدولة الاجتماعية والصحية، تكاد تكون قصراً على مناطق محظوظة مُـعيّنة أو على فِـئات معيّنة، في إطار حالة عامة من الفساد والمحسوبية، وهذا ما دفع قطاعات واسعة من المُـجتمع، إما إلى البحْـث عن ملاذات في البُنَـى الاجتماعية التقليدية أو في اللّـجوء إلى العُـنف، للحصول على هذه الخدمات.
هذه المعطيات حوّلت اليمن إلى أشلاء، في حين كان الغرب يُـصفِّـق لواجِـهة الديمقراطية التي أقامها النظام، لتبرير طلبه الدّعم والمساندة والمساعدات. فالجنوب يكاد ينفصِـل الآن عن الشمال، بعد أن أدّى تجاهُـل تظلمات الجنوبيين المُزمِـنة إلى تشويه الصورة القُدسِيّة، التي لطالَـما أسبغها كل اليمنيين على فكرة الوِحدة.
وبعض الشمال، يكاد ينفصل عن الشمال، بعد أن برز الحوثيون كقوة سياسية – عسكرية يُعتـد بها شطرت الزّيديين إلى شطريْـن، ودمجت لديهم ما هو سياسي – اقتصادي بما هو إديولوجي – مبدئي.
والمنظمات الأصولية المتطرِّفة، التي فرّت من السعودية والقرن الإفريقي، أوشكت على تحويل اليمن إلى أفغانستان أخرى أو حتى إلى ما هو أسوأ: صومال آخر.
الطامة الأكبر
كل هذه الطامات تُنذر بـ “الانفجار العظيم، لكن، وعلى رغم ذلك، ثمّـة طامة كُـبرى أضخم تكمُـن تحت الأرض اليمنية لا فوقها! ما هي؟ إنها نفسها التي حدثت في اليمن في القرن الثالث الميلادي، ثم مجدّداً في القرن السابع الميلادي، حين دُمّـر سدّ مأرب، ما دفع أعداداً ضخمة من اليمنيين إلى الهجرة إلى شمال إفريقيا والأطراف الشمالية من شِـبه الجزيرة العربية.
فاليمن اليوم يُـعاني من نقْـص حادٍّ في إمدادات المِـياه في جميع أنحاء البلاد. وقد تصبح صنعاء، التي ينمُـو سكانها بمعدّل 7% سنوياً، نتيجة لزيادة التحضّـر، أول عاصمة في العالم تنفُـد فيها المياه. هذه الأزمة الوجودية، ناجِـمة عن عوامِـل عدّة: ارتفاع الاستهلاك المحلي وسوء إدارة المياه والفساد وعدم وجود سيْـطرة على الموارد والإسراف في تقنِـيات الريّ.
ووِفق تقرير صدر عام 2009 عن منظمة الأغذية والزراعة، التابعة للأمم المتحدة، يُعتبَـر اليمن من بين أكثر الدول نُـدرة في المياه ولديه واحداً من أدنى معدّلات نصيب الفرْد من توافُـر المياه العذبة.
وجاء في دراسة حديثة للباحث كريستوفر بوتشيك، أنه نظراً إلى عدم وجود أي رَقابة قانونية جدّية قابلة للتنفيذ، يتِـم استخراج المياه في اليمن من طبقات المياه الجوفية بأسرَع ممّـا يجري تجديدها. وفي عام 1998، انْـهارَ حوْض المِـياه في تعِـز، وهي من أكبر المُـدن. وتُقّدر معدّلات استخراج المياه في صنعاء حاليا، بنحو أربعة أضعاف معدّلات تجديدها، والحوض هناك وفي عمران على وشك الانهِـيار. ويُقـدر أنْ ينْـهار حوْض صعدة بعد ذلك بفترة وجيزة. ووِفقا لإحدى التحليلات الحديثة، فإن 19 من طبقات المياه الجوفية الإحدى والعشرين في البلاد، لا يتم تجديدها.
في السنوات القليلة الماضية، انخفَـض منسوب المياه الجوفية في اليمن بحوالي مِـترين في السنة، ما أرغم على حفْـر الآبار بشكل أعمق. وغالباً ما يتطلب انخفاض منسوب المياه الجَـوفية، استخدام آلات الحفر الخاصة بالنّـفط. وفي حين أن هناك الآن نِـظاماً قانونياً قائماً لضمان الاستخدام العادل والمنصف للمياه السطحية، إلا أنه لا يوجد مثل هذا النظام القانوني للمياه الجوفية. ونتيجة لذلك، فإن أي شخص يريد الحصول على المياه (ويستطيع تحمّل كلفة ذلك)، يحفر بئراً ويستخرج ما أمكنه من المياه. وقد قدّر عبد الرحمن الإرياني، وزير المياه والبيئة، أن نسبة 99% من عمليات استخراج المياه، غير مرخّـصة.
ويوضِّـح بوتشيك أن استيراد منصّـات الحفر إلى اليمن، لا يخضع إلى أية رسوم جُـمركية أو ترخيص أو ضرائب. ويُقدِّر المسؤولون في وزارة المياه والبيئة أنه، اعتبارا من شهر يناير 2009، كانت هناك أكثر من 800 منصّـة حفر خاصة تعمل في البلاد. وفي المقابل، لا توجد سوى ثلاث منصّـات في الأردن، ولا يزيد عددها في الهند، التي يفوق عدد سكانها بأكثر من 50 ضعفاً سكّـان اليمن، عن 100 منصّـة.
صنعاء قريباً بلا مياه.
شُحّ في كل أنحاء البلاد، انهيارات متتابعة لأحواض المياه: ألاَ تُـعيد كارثة انهِـيار سدّ مأرب نفسها بعد 1300 سنة من وقُـوعها؟ وإذا ما كان هذا صحيحاً (وهو كذلك بالتأكيد)، أيّ تأثيرات سيخلّـفها ذلك على منطقة الخليج العربي؟
مأساة سدّ مأرب الجديدة في اليمن، لن تبقى محلية بأي حال، بل قد تُصبح في أي وقت خليجية أيضاً. فدول مجلس التعاون الخليجي برمّـتها، ستكون معنِـية بها من الألِـف إلى الياء، بسبب جُـملة عوامِـل ديموغرافية وجغرافية واقتصادية، وأيضاً قومية ودينية وأخلاقية، إذ أن تِـعداد سكان اليمن سيقفِـز، كما أشرنا، إلى أكثر من 40 مليون نسمة خلال عقديْـن إثنين من الآن، وهذا يعني أن اليمن، الذي يُـعتبر الآن أفقَـر بلد في العالم العربي، حيث 40% من السكان يعيشون ما دون حافَـة الفقر (دولار ونصف الدولار في اليوم)، سيُـصبح أكثر فقراً بما لا يُـقاس في المستقبل القريب. وبالطبع، مع الفقْـر المُـدقع، تأتي الهجرات الواسعة والحروب الأهلية المُرعِـبة، ذات الأبعاد الإقليمية المُحتمة.
ويعتقد العديد من المحلِّـلين الغريبين المختصِّـين في الشأن اليمَـني، أن الانفِـجارات المذهبية والمناطقية الرّاهنة، تجِـد جذورها في الواقع في المعطى الاقتصادي. فالحرب الأهلية الدائرة في صعدة ضدّ الحوثيين والحركة الانفصالية في الجنوب وبروز تنظيم، تعود في جلِّـها إلى الفساد وسوء توزيع الثروات وتدهور الأوضاع الاقتصادية وغِـياب التخطيط الحكومي السّـليم.
إلى ذلك، يجب أن نُـضيف التّـناقص السريع لاحتياطِـي النفط، حيث انخفضت الصادرات بشكل حادّ في السنوات الأخيرة من أكثر من 450 ألف برميل يومياً وقت الذروة في عام 2003، إلى حوالي 280 ألف برميل يومياً في يناير 2009، وِفقا لأمير سالم العيدروس، وزير النفط والمعادن. وما لم يتِـم العثور على أيّ اكتشافات جديدة، فإن خُـبراء الطاقة يُقدّرون بأن صادرات اليَـمن من النفط، ستتوقّـف في غضون عشر سنوات.
ويؤكِّـد البنك الدولي أنه بحلول عام 2017، لن تكسب حكومة اليمن أيّ دخل من النفط، وثمة تقديرات أخرى تُـشير إلى أن الاحتياطيات النفطية المؤكّـدة، ستستنفد في غضون خمس سنوات فقط.
الصورة إذن قاتمة للغاية. وكما يدُل الآن انطلاق المنظمات المتطرِّفة من اليمن إلى السعودية ودول أخرى، فإن احتمال انهيار اليمَـن، ستكون له فوراً مضاعفات جسِـيمة على دول الخليج المُـجاورة، سواء على صعيد التدفّـق الكثيف لجماهير الجائعين (كما حدث قبل 1400 سنة) أو على صعيد تصدير الإرهاب والصِّـراعات الإقليمية.
أبعاد إقليمية
هذا عن الأبعاد الداخلية لأزمة اليمن، لكن ألَـيْـس ثمة حقاً أبعاد إقليمية خارجية خطيرة لهذه الأزمة؟ الأطراف الإقليمية المُتنازِعة على اللّـوحة العامة في منطقة الخليج، تؤكّـد ذلك أناء اللّـيل وأطراف النهار، وهذا واضح من الحملات الإعلامية العنيفة المُـتبادلة، التي يبدو فيها الحوثيّون والجنوبيون اليمَـنيون، مجرّد جِـسر تعبُـر فوقه (في الاتِّـجاهيْـن) الصراعات الإقليمية، تماماً كما الأمر بالنسبة إلى طوائف لبنان، لكن المسألة قد تكون في الواقع سايكولوجية أكثر منها جيو – سياسية.
صحيح أن المملكة العربية السعودية تشعُـر بالقلق العميق ممّـا يجري على حدودها وفي عُـمق أراضيها، وكذلك لِـما يجري في داخل دولة مُجاورة تُعد 23 مليون نسمة قد تتحوّل بين ليلة وضُـحاها إلى “دولة فاشلة” مُصدَّرة للإرهاب، على غِـرار الصومال وأفغانستان، وقبلهما العراق، ما قد يصُـبّ في النهاية في مصلحة إيران.
تقرير عقلاني؟ بالتأكيد، خاصّـة وأنه في جانبٍ منه، يُوضِّـح للأطراف الإقليمية المعنِـية، بأن النظّارات السايكولوجية، غالباً ما تعرض صورة مشوِِّهة وغير حقيقية للواقع الجيو – سياسي الحقيقي.
وصحيح أنه من حقّ إيران في المقابل، أن “تشكّ” بأن الحملة على الحوثيين، هي في جانب منها جزء من الجهود لاستكمال الحِـصار عليها في المشرق العربي، هذا على رغم أنه من المشكُـوك فيه إلى حدٍّ ما، أن تكون لها علاقات وطِـيدة مع الحوثيين، سواء إيديولوجيا أو لوجيستياً، لكن، حقّ الشك شيء وحقيقة وجود المشكوك فيه، شيء آخر.
ولأن الأمر كذلك، لماذا لا يحاوِل الطرفان جلاء هذه الصورة السايكولوجية، قبل أن يتحوّل نزاع اليمن من “الحرب الصغيرة”، التي هو عليها الآن، إلى حريق إقليمي يلتهِـم الأخضر (أوما تبقّـى منه) واليابِـس؟
الأغلب، أن الشكوك المُـتراكمة على مدى العقد الأخير في منطقة الخليج ومحيطها، نسَـفت العديد من جسور الحوار والتواصل، ومعها فُـرص الفهم والتّـفاهم، لكن الأوان لم يفُـت بعدُ لاجتِـراح الحلول، وهذا لأسباب ثلاثة:
الأول، أن مشاكِـل صعدة والجنوب، يمنية داخلية بامتياز، حتى ولو بدا أحياناً أنها تتقمّـط أبعاداً إقليمية. فما يريده الحوثيّون، هو نفسه ما يريده الجنوبيون: دولة يمنية عادِلة لا تمييز فيها ولا إقصاء، ومخارج من لعنة الفقر والمرض وانسداد آفاق المستقبل لدى الكثرة الغالبة من المواطنين المطرودين من جَنّة السلطة القَبَلِية – العسكرية الرّاهنة.
الثاني، أن الحلول العسكرية، لا ولن تحُـل شيئاً في مجتمع قَبَلي مُعقّـد كاليمن. ولِـذا، فإن الفُـرص تبقى وارِدة دوماً للعُـثور على حلول وسط وتسويات سياسية.
والثالث، أن مجلس التعاون الخليجي لم يُدْلِ بعدُ بدلوه في هذه الأزمة، لكنه مع ذلك، يبدو الطرف الأبرز المؤهّـل لوقْـف رشّ الزّيت على النار ووضْـع إطار للحلول في اليمن، إن لم يكُـن الآن، فعلى الأقل بعد أن يهدأ غُـبار العمليات العسكرية على الحدود اليمنية – السعودية.
في شهر مايو الماضي، أي قبل أشهر عدّة من الجولة الأخيرة من الاقتِـتال اليمني، أوصى تقرير لـ “مجموعة الأزمات الدولية” بأن تستخدِم الحكومة اليمنية الوسائل التقليدية في مجاليْ الاستِـرضاء الشعبي (عبْـر العطايا) والتّـسامح الاجتماعي والدِّيني، لخلْـق دولة أكثر تمثيلية، كما أوصى التقرير دول الخليج والحكومات الغربية بمُـمارسة نفوذها لحمْـل كلٍّ من صنعاء والمتمرِّدين على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، للتوصّـل إلى حلول وسط.
تقرير عقلاني؟ بالتأكيد، خاصّـة وأنه في جانبٍ منه، يُوضِّـح للأطراف الإقليمية المعنِـية، بأن النظّارات السايكولوجية، غالباً ما تعرض صورة مشوِِّهة وغير حقيقية للواقع الجيو – سياسي الحقيقي.
اليمن والعولمة
على أي حال، أثبتت التطوّرات الأخيرة في اليمن، أن الدولة اليمنية مصابة بـ “الحَوَلْ”، فيما العولمة التي تتحكّـم بمير العالم هذه الأيام عوراء. لماذا؟ لأن هذه هي حقيقة الحال، وعلى كِـلا المستوييْـن، العالمي المُـتعولم واليمني المحلِّـي.
فعلى المستوى الأول، لم تحرّك الأسْـرة الدولية ساكِـناً، طالما كان اليمنيون يقتُـلون اليمنيين والفقراء يذبحون المفقرين، وطالَـما أن كل الفظائع تُـرتَـكب داخل القفَـص اليمني، لكن، ما أن مُسَّـت شَـعرة واحدة من الرأس الغربي خلال محاولة اختطاف الطائرة إلى ديترويت، حتى ملأ الضجيج الكاسِـح العالم بأسْـره.
فتداعت الدول الغربية إلى عقْـد مؤتمر طارئ حول اليمن في لندن، وأكّـد الرئيس الأمريكي أوباما أنه، كما ديك تشيني وجورج بوش، لا يقل “حربجية” عن عتاة الصقور الجمهوريين، وبدأ الحديث عن مرحلة جديدة من الحرب العالمية ضدّ الإرهاب.
هذه كانت العولمة قيْد التنفيذ، لكنها عوْلمة مِـن نوع خاص للغاية، إذ ليس فيها سوى عيْـن واحدة لترى شيئاً واحدا: المصالح الرأسمالية الغربية، التي من أجلها يكون إعلان الحرب وشنّـها كشربة ماء. هي عوراء إلى درجة أنها تنسى أن أمْـن اقتصادياتها بات مُـرتبطاً أشدّ الارتباط بأمْـن أو لا أمن دُول فقيرة، كاليمن والصومال وأفغانستان وباكستان، وأن الحرب وحدها لن تكون كافية لتأسيس نظامها العالمي الجديد.
هذه النقطة الأخيرة، كان قد أكّـد عليها أحد أبرز مُـنظّـري البنتاغون والعوْلمة توماس بارنيت. فهو شدّد في دراسة بعنوان “خريطة البنتاغون الجديدة: الحرب والسلام في القرن الحادي والعشرين”، على أن الولايات المتحدة لا تزال تعمل على أساس ردود الفعل على الأزمات. صحيح أنها تدخّـلت عسكرياً في حِـقبة التسعينيات بأكثر ممّـا فعلت طيلة الحرب الباردة، إلا أن البنتاغون صنّـف هذه التحركات تحت خانة “العمليات العسكرية” لا تحت خانة “الحرب”، وكأنه يريد أن يقول إنها لا معنى إستراتيجي لها، وهذا غير صحيح، برأي الكاتب.
فالعمليات العسكرية وحالات الانتشار الحربي، تركّـزت في تلك الأجزاء من العالم المُستبعدة، مما يسمِّـيه “مركز العولمة الفاعل”، وهو يعرف هذا المركز كالآتي:
1- أي دولة أو منطقة تكون فاعلة، إذا ما كانت تتفاعل مع مضمون التدفّـقات التي تتأتّـى من خلال إدماجها، ما هو قومي بما هو إقتصاد عالمي (الأفكار، المال، الإعلام).
2- أي دولة أو منطقة تكون فاعلة، حين تسعى إلى تنسيق “قواعد حُـكمها الداخلي” مع الحكم العالمي الصاعد للديموقراطية، وحكم القانون والأسواق الحرّة.
3- أي دولة تكون “غير متّـصلة” (بنظام العولمة)، حين تفشل في كسْـب ثقة الشركات متعدِّدة الجنسيات بها، وهذا يُـمكن أن يحدُث لأن الدولة تكون ثيوقراطية أو معزولة جغرافياً أو مرتبطة بالعالم عبْـر حكومة فاسدة.
اليمن تنطبِـق عليه جُلّ هذه المواصفات، وهو فوق ذلك، يبدو في وضعية حَـوَلْ حقيقية، حيث تركّـز حكومته عيْـناً عسكرية على الشمال وأخرى استخبارية على الجنوب، قافزة بذلك فوق الأسباب الاجتماعية والاقتصادية، التي تسبّـبت بثورة الحوثيين وتمرّد الحضرموتيين.
بيد أن شيئاً من هذا لا يهُـم الغرب المُـتعولم. القاعدة هي الآن همّـه الوحيد، ولذلك، ومن أجل ذلك، تذكّـر مؤخراً أن ثمة دولة نازفة ومتألِّـمة على خريطة العالم إسمها اليمن وقرّر مدّ يَـد العوْن لها عبْـر تشكيل “مجموعة أصدقاء اليمن”.
العَون لمن؟ للحكومة نفسها، التي تسبّـبت أخطاؤها بكل الانهيارات الرّاهنة، مقابل ما بدأت تفعله مؤخراً، حين بدأت بشنّ حملة أمنية شامِـلة على تنظيم القاعدة في كل أنحاء البلاد، تلبية لطلب أمريكي مباشر. حقّـا، أن هذه عولمة عوْراء، وبامتياز أيضاً.
سعد محيو – بيروت – swissinfo.ch
للمرة الأولى يعير العالم اهتماما لليمن بفضل محاولة فاشلة قام بها تنظيم القاعدة لتفجير طائرة ركاب أمريكية. واجتمع مانحون غربيون وعرب في لندن الأسبوع الماضي ليترجموا قلقهم من التهديد الذي يمثله المتشددون الذين يتخذون من اليمن مقرا لهم إلى مساعدة عملية لحكومة الرئيس علي عبد الله صالح.
وإذا كانوا يريدون تقليل خطر شنّ مزيد من الهجمات، مثل المحاولة التي وقعت في 25 ديسمبر الماضي لتفجير طائرة متجهة إلى ديترويت، سيكون عليهم بذل جهود متضافرة وطويلة المدى لمساعدة اليمن على وضع حدّ للفقر والصراع والفساد، وكلها عوامل يتغذى عليها المتشددون الإسلاميون.
والمهمة حساسة ومثبطة لأن كما لمحت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون، أسلوب الحكم الذي ينتهجه صالح في حدّ ذاته، جزء من الفوضى التي تسود اليمن. وقالت “يجب أن يتصدى اليمن للتحديات التي يواجهها”، وحثت حكومة صنعاء على إجراء إصلاحات ومكافحة الفساد وتحسين مناخ الأعمال والاستثمار، وسعت الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى مساعدة اليمن من قبل، لكن الاهتمام كان يفتر بعد تحقيق مكاسب أولية.
وقال فيليب مكرام، من وحدة التحليل المخابراتية بمؤسسة ايكونوميست في لندن، “القاعدة في جزيرة العرب، ظهرت في اليمن جُـزئيا، لأن الولايات المتحدة أخذت تخفض دعمها بعد النجاح في سجن معظم (الجيل الأول) من الجهاديين”.
وعلى نفس المِـنوال، توقّـفت جهود سابِـقة لتحفيز التقدّم الاقتصادي والاجتماعي في اليمن، الذي يحتل المرتبة 140 من جملة 182 دولة على مؤشر الأمم المتحدة للتنمية البشرية. فقد تعهّـد مؤتمر للمانحين عام 2006 بتقديم 4.7 مليار دولار لليمن، لكن لم يُـنفق إلا القليل من هذا المبلغ، وأرجع هذا جزئيا إلى عدم قُـدرة اليمن على استيعاب التّـمويل.
ولم يتعهّـد المانحون بمبالغ جديدة في لندن، لكن جيران اليمن من دول الخليج العربية الثرية، قالوا إنهم سيجتمعون في الرياض يومي 27 و28 فبراير الجاري، لبحث “الحواجز التي تُـعوِّق فعالية المساعدات” والتي تشمل الفساد قبل مناقشة الإصلاحات مع حكومة صنعاء.
وقال مكرام، إن الدول الخليجية المُـنتجة للنّـفط مُـعرّضة للمخاطر الأمنية التي تتسرب من اليمن غير المستقر، بشكل أكثر مباشرة من الغرب. وأضاف “ستلحق بها الخسارة الأكبر، إذا فشِـل اليمن، وستَـجني المكاسب الأكبر، إذا استطاعت منعه من السّـقوط من حافة الهاوية”. من جانبه وعد اليمن بالعمل على تطبيق إصلاحات وبدء محادثات بشأن برنامج مع صندوق النقد الدولي.
وقالت بولين بيكر، رئيسة صندوق السلام، ويتخذ من واشنطن مقرا له: “هذه خطوة إلى الأمام، لكنها في الحقيقة لا تتعامل مع قضية انتشار الفساد على نطاق واسع… هذا أساس الخَـلل في الدولة اليمنية ويجب أن يكون جزءا من جدول أعمال للإصلاح، إذا كانت الدولة ستبدأ تتّـجه نحو الاستقرار”.
وظل علي عبدالله صالح رئيسا لليمن لثلاثة عقود، ويرجع هذا جزئيا إلى تلاعبه بشبكة علاقات ومحسوبية معقّـدة، للاحتفاظ بدعم القبائل القوية والنّـخبة، بالجيش وقوات الأمن. وسيكون إقناعه بحلّ تلك الشبكة ووقف الأشكال الفجة للكسب غير المشروع، من بين أصعب التحدِّيات لجماعة إصلاحية دولية جديدة باسم “أصدقاء اليمن”، من المقرّر أن تبدأ عملها في مارس المقبل.
وقال عبد الغني الأرياني، المحلل اليمني المستقل، إن إعادة الاستقرار تتطلّـب آلية للتّـنسيق من هذا النوع بين المانحين الغربيين والخليجيين، خاصة السعودية. وأضاف “بهذا أصبح العالم الآن حليفا لليمن في التعامل مع تشوّهات هيكلية عميقة في نظامه السياسي، هذه فرصة يجب أن لا تُـهدَر”. ويبدو أن الغرب استمع لرسالة الحكومة اليمنية بأن التركيز الأمني المحدود على القاعدة، لا يستطيع إنقاذ دولة تُـعاني من تمرّد الحوثيين في الشمال واضطرابات انفصالية في الجنوب. ويذكي ضعف الاقتصاد هذين الصِّـراعيْـن. ويقدر رئيس الوزراء اليمني علي محمد مجور أن نسبة البطالة تبلغ 35%، ويتراجع إنتاج النفط، كما تهدِّد أزمة للمياه مستقبل 23 مليون يمني، يزيد عددهم بأكثر من ثلاثة بالمائة في العام.
وقالت مذكرة لصندوق النقد الدولي عن اليمن الأسبوع الماضي “إنتاج النفط الخام، الدّعامة الأساسية لعائدات الحكومة وصادراتها، في تراجُـع منذ عام 2000. إذا لم تحدُث اكتشافات كبيرة، فإن احتياط النفط القابل للاستخراج، ستستنفِـد في فترة قصيرة نسبيا”، وأضافت أن صادرات الغاز الجديدة ستخفف حدّة مشكلة تراجع إنتاج النفط، لكنها أشارت إلى أن انخفاض أسعار الخام وإنتاجه، اللذين يتزامنان مع ضعف الاستثمار الأجنبي المباشر والتحويلات من الخارج، عوامل تُـمثل ضغطا على الأوضاع المالية، الداخلية والخارجية لليمن.
وقال كريستوفر بوسيك، الباحث بمعهد كارنيغي للسلام الدولي، إن القوى الغربية اتّـخذت خطوة أولى مهمّـة، عندما اتّـفقت على التعاون في مُـواجهة مشكلة اليمن. وأضاف “يجب أن يتبع هذا إجراءات ملموسة مستمرّة وشاملة. التركيز على التحدِّيات المَـنهجية التي تُـواجه اليمن، بما في ذلك الاقتصاد المتداعي والمِـحن الأمنية المتعدِّدة للبشر، ضرورة لمعالجة المشاكل التي تغذّي التشدد” وقال، بدون مساعدة دولية لحكومة صنعاء، “لن تظل مشاكل اليمن داخل اليمن”.
ويقول مسؤولون يمنيون، إن نحو نصف اليمنيين يعيشون على أقل من دولارين في اليوم، ويستغلّ تنظيم القاعدة يأسهم. وقال مكرام، المحلل في وحدة معلومات المخابرات بمؤسسة إيكونوميست: “في اليمن، المال يغلب الأيديولوجية… وبالتالي، الاقتصاد أساسي للاستقرار. تُـفضِّـل القبائل اليمنية أن تتوفّـر لها الخدَمات العامة على أموال تنظيم القاعدة في جزيرة العرب والتشكّـك الذي يُـصاحبها.
(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 1 فبراير 2010)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.