برن: تصريحات الرئيس التونسي “في غير محلّها”
في سابقة غير معهودة في تقاليد الدبلوماسية السويسرية، وجّه وزير الخارجية ديديي بوركالتر يوم 4 يونيو الجاري انتقادا مباشرا إلى الرئيس التونسي منصف المرزوقي، لقيامه الأسبوع الماضي بتوجيه رسالة إلى الحكومة الفدرالية عبر وسائل الإعلام يحثّها فيها على "تسريع إعادة الاموال التونسية المجمّدة في المصارف السويسرية".
وفيما يتزامن هذا اللغط الدبلوماسي مع زيارة يؤديها الدكتور محمد منصف المرزوقي إلى جنيف حيث ينتظر أن يلقي خلالها خطابا يوم الخميس 7 يونيو أمام المؤتمر السنوي لمنظمة العمل الدولية، أكد مدير ديوانه في تصريح لإذاعة تونسية أن تصريحات المرزوقي “كانت مدروسة وليست زلة لسان”.
وكان وزير الخارجية السويسري عبّر في مداخلة قام بها يوم الإثنين 4 يونيو أمام مجلس النواب للرد على تساؤل طرحه نائب عن حزب الخضر عن “استغراب” بلاده مما تضمّنه حوار السيد المرزوقي مع قناة تلفزيونية سويسرية عمومية بُث يوم 28 مايو الماضي، ووصف ما جاء فيه بأنه “في غير محلّه”، مجّددا التأكيد على أن سويسرا “عازمة على إعادة الأرصدة التونسية بأسرع ما هو ممكن”.
في الوقت نفسه، ذكّر ديديي بوركالتر الجهات التونسية أيضا بأن “سويسرا دولة قانون”، وأشار إلى أن الحل الوحيد لتسريع الإجراءات بشأن ملف استعادة الأرصدة المهربة يكمُن في “إرساء شراكة وثيقة، خاصة وأن العلاقات مع تونس جيّدة” مضيفا بأن هذه الشراكة “حققت أخيرا نتائج متقدّمة”.
من جهتها، أوضحت كارول فالتي، الناطقة باسم الخارجية السويسرية ردّا على سؤال توجهت به إليها swissinfo.ch بأن “مرافق المساعدة القضائية في البلدين توصلت مؤخرا إلى إحراز تقدم هام. فقد تم تقديم طلبات مساعدة قضائية من هذا الطرف أو ذاك، بشأن نقاط محددة. ثمّ تم بعد ذلك تبادل الأدلة والحجج بين الطرفيْن. ومثلما سلّمت سويسرا عدد من الوثائق إلى تونس، قامت تونس بتسليم عدد كبير من الوثائق إلى سويسرا، وهذا يُعتبر خطوة هامة في جهود إعادة الاموال المكتسبة بطرق غير مشروعة. وتتم حاليا دراسة وتحليل كل هذه الوثائق”.
بالتوازي مع ذلك، ذكرت الناطقة بإسم الخارجية أنه “تم فتح تحقيق جنائي في سويسرا بشأن الأحداث التي شهدتها تونس تحت إشراف المدعي العام الفدرالي، وتشمل هذه التحقيقات الرئيس السابق (زين العابدين بن علي) والمقرّبين منه للإشتباه في تورطهم في عمليات تبييض أموال”.
الوزير السويسري، أوضح أيضا خلال ردّه على أسئلة بعض البرلمانيين يوم الإثنيْن الماضي في برن، أنه من المستحيل – برغم الجهود المبذولة لتذليل المصاعب – التنبؤ بالوقت الذي سوف تستغرقه العملية الهادفة إلى استعادة الأموال التونسية المنهوبة، وكشف أن لقاءً ثنائيا يتم الإعداد لعقده “خلال النصف الثاني من شهر يونيو” الحالي.
وعن طبيعة الإجتماع المرتقب، أفادت مصادر وزارة الخارجية السويسرية لـ swissinfo.ch أنه “يتعلّق بلقاء ثنائي آخر على مستوى الخبراء لفحص التقدّم الذي تم تحقيقه إلى حد الآن، وللتأكد من إمكانية إعادة الاموال التونسية بأسرع ما يمكن”.
“تصريحات مدروسة”
في ضوء هذا التعاون القوي والتفاهم المشترك بين برن وتونس، ليس من السّهل معرفة الدوافع التي تقف وراء تصريح الرئيس المرزوقي الذي أحرج الطرف السويسري. فهل كان الهدف منه توجيه رسالة إلى الداخل، خاصة وأن البعض يتهم الحكومة التونسية بعدم بذل جهود كافية لإستعادة اموال الشعب المهربة إلى الخارج، أم هو تعبير عن نفاذ صبر الشق التونسي في ظل غياب نتائج محسوسة، على الرغم من الخطابات المطمئنة التي ترددها برن.
الجانب السويسري، يرى أن الضغط الذي يحاول الطرف التونسي ممارسته “غير مناسب”، و”غير مفهوم”، خاصة وأن الكنفدرالية كانت من أوائل الدول التي دعّمت عملية الإنتقال الديمقراطي في تونس، وبادرت باتخاذ إجراءات استثنائية للتوصّل إلى إعادة الأرصدة التونسية المجمّدة في البنوك السويسرية، بل “لم تبذل أي دولة جهودا من أجل إعادة الأموال المهربة التابعة للشعب التونسي مثلما فعلت سويسرا”، مثلما تقول كارول فالتي الناطقة باسم الخارجية السويسرية.
في المقابل، قال عماد الدايمي مدير ديوان الرئاسي في تصريحات أدلى بها إلى إذاعة تونسية خاصة يوم الأربعاء 6 يونيو 2012 إن تصريحات رئيس الجمهورية “كانت مدروسة وليست زلة لسان باعتبار تقديرنا أن الجزء الأكبر من الأموال المنهوبة توجد في البنوك السويسرية”.
وذكّـر الدايمي أن مطلب الرئيس المرزوقي في استرداد الأموال المنهوبة “شرعي باعتبار أنه مطلب شعبي” مضيفا “لدينا معطيات جديدة للضغط على السلطات السويسرية من أجل التسريع في تسليم الأموال المنهوبة”.
من جهة أخرى، أكد مدير ديوان الرئيس التونسي أن تصريحات المرزوقي سبقت زيارته الى سويسرا للمشاركة في الإجتماع السنوي للمنظمة الدولية للشغل في جنيف “حتى يكون موضوع الأموال المنهوبة مركز الحديث مع المسؤولين السويسريين”.
أشكال دعم متنوعة
رغم كل شيء، يمكن القول بأن علاقات التعاون التي تربط بين البلديْن منذ ثورة 14 يناير 2011 تعززت وأضحت أكثر متانة حيث يقول بيار كونبرنوس، سفير سويسرا لدى الجمهورية التونسية في تصريحات نقلتها على لسانه صحيفة “لوتون” الصادرة بجنيف يوم 2 يونيو الجاري: “لقد فهمنا مبكّرا أننا مدعُـوّون إلى لعب دور أساسي في تونس ما بعد الثورة”.
وقد تُرجم هذا الدور أوّلا بتخصيص سويسرا إعانة مباشرة لإنجاح التحوّل الديمقراطي بلغت 60 مليون دينار تونسي (35 مليون فرنك سويسري) موزّعة على الفترة الممتدة من 2001 إلى 2016، ومن خلال افتتاح مكتب للوكالة السويسرية للتنمية والتعاون في العاصمة التونسية، يتكفّل بالإدارة والإشراف على عدد من البرامج الداعمة لمؤسسات المجتمع المدني، ولوسائل الإعلام، ولباعثي المشروعات الصغرى والمتوسطة خاصة في المناطق الداخلية المحرومة.
ومن الناحية العملية، لم يتوقف الدعم السويسري لتونس عند مجال دون غيره، فقد اختارت برن مباشرة بعد الإطاحة بالنظام السابق وضع عدد من آليات التمويل على ذمّة الطرف التونسي، حيث شرع صندوق سويسري خاص في توفير الدعم والتوجيه لأصحاب المشروعات من الشبان خاصة في المناطق الداخلية المحرومة، عبر تقديم القروض الميسّرة والخبرة والمتابعة اللازمتيْن.
في هذا السياق، يشير يعقوب عجرودي، رئيس مؤسسة دعم وتأطير أصحاب المشاريع إلى أن “الصندوق السويسري يُقدم حلولا مجدية وفعّالة لسد النقص الذي كان يعرقل دائما الشبان التونسيين من أصحاب المشروعات الصغرى والمتوسطة”. كما تفيد المعطيات المتاحة إلى أن عدد المشروعات التي استفادت من هذا الدعم تقدر بالمئات في جهات مختلفة من البلاد.
بدوره، شهد التعاون الإقتصادي الثنائي على مستوى أعلى، توسّعا ونموا، حيث تم تأسيس أول غرفة تجارية تونسية – سويسرية قبل ثلاثة أشهر من أجل تأطير الجهود الإستثمارية السويسرية في تونس. وفي تصريحات صحفية، قال طاهر القطاري، نائب رئيس هذه الغرفة “لقد عانت الشركات السويسرية والتونسية كثيرا بسبب البرودة التي كانت تطبع العلاقات التونسية السويسرية قبل الثورة، وتحاول هذه الشركات تدارك ذلك حاليا”.
أخيرا، تعدّ سنة 2012 مهمّة على مستوى آخر، حيث تُشرف البعثة السويسرية في تونس على تسيير “الصندوق الأوروبي لدعم وسائل الإعلام في تونس”، ويؤكد ألكسندر دالفو، أحد أعضاء البعثة أن “كل جهودنا في هذا المجال سوف تنصبّ على تكوين الإعلاميين، لأن غياب الخبرة هي نقطة الضعف الأساسية في منظومة وسائل الإعلام التونسية”، على حد قوله.
احتضنت مدينة لوزان لقاءً يومي 23 و24 يناير 2012 بدعوة من وزارة الخارجية السويسرية حضره خبراء دوليون وتركزت المحادثات خلال هذا اللقاء على قضية إعادة الأموال المنهوبة من طرف الشخصيات العامة الدولية إلى أصحابها، وتحديدا الأرصدة التي توجد بحوزة القادة العرب السابقين الذين اطاحت بهم ثورات الربيع العربي خلال عام 2011.
تعتبر سويسرا أن إعادة هذه الأرصدة إلى أصحابها الشرعيين إجراء رئيسي لحماية ساحتها المالية، وخطوة لابد منها لمكافحة الجرائم المالية على المستوى الدولي.
خلال عام 2011، كانت سويسرا أوّل بلد يبادر إلى تجميد الأرصدة التي هي على ذمّة زين العابدين بن علي، ومحمد حسني مبارك، والمقربين منهما، وتريد سويسرا اليوم أن تعيد تلك الأرصدة من خلال آليات التعاون القضائي مع الحكومتيْن التونسية والمصرية.
هدفت الدورة السابعة من “مسار لوزان” الذي انطلق في الواقع منذ عام 2001 إلى استخلاص الدروس الأولى من الجهود التي بذلت إلى حد الآن، ورصد الخطوات التي يجب اتخاذها في هذا المضمار في المستقبل، وتعزيز وتمتين التعاون بين جميع الأطراف المعنية بهذا الملف الحساس.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.