بعد الثورات.. هل تندلع حرب باردة ثانية في المنطقة العربية؟
هل ثمة حرب باردة ثانية في الشرق الأوسط؟ السؤال لوهلة، قد يبدو غريباً.
فالمنطقة لا تشهد “برودة”، بل “سُـخونة” حامية بفِـعل البَـراكين الشعبية العاتِـية، التي تتفجّر الآن في البلدان العربية، من الرباط إلى دمشق، ومن طرابلس إلى صنعاء.
ومع ذلك، فإن أي تدقيق سريع في مُـجريات ما يجري تحت السَّـطح، يكشف فوراً عن بوادِر حربٍ باردةٍ حقيقية، بدأت تشهدها المنطقة، وإن بشكل ضِـمني ومعقّد.
أطراف هذه الحرب: القوى المحافِـظة، التي ترفض تغيير الأمْـر الواقع الرَّاهن، استناداً إلى أيديولوجيا الإسلام التقليدي والقوى التغييرية، التي تنشط الآن لمُـحاولة إقامة نظام إقليمي عربي جديد، يستند إلى الحريات والمُـجتمع المدني والعدالة الاجتماعية.
خطوط المُـجابهة بين هذين المعسكريْـن، متشابكة ومنوّعة. ففي حين نجد في المعسكر الأول، على سبيل المثال، قِـوى إسلامية محافِـظة، كالمملكة السعودية وأنظمة جمهورية كسوريا واليمن وعِـلمانية (كتونس سابقاً) وقوى دينية سلفية، خاصة في مصر، نعثر في المُـعسكر الثاني على كوكتيل من القِـوى الإسلامية، كالإخوان المسلمين في مصر وحزب النهضة في تونس وكوكبة من القِـوى اليسارية والعِـلمانية والليبرالية.
ما نلاحظه هنا، هو أن قِـوى الإسلام السياسي باتت موزَّعة بشكل مُـتباين على لَـوحة الصِّـراع الشرق الأوسطي الجديد، وهذا الأمر لم يكُـن على هذا النحو في الحرب الباردة الأولى، التي نشبت في ستِّـينيات القرن العشرين في المنطقة، بين التيارات القومية والإشتراكية وبين الأطراف الإسلامية، حيث كانت هذه الأخيرة (أو معظمها) مُوحّـدة الصفّ بقيادة المملكة العربية السعودية.
ما بعد الإسلامَـوِية
آصف بابات، بروفسور عِـلم الاجتماع ودراسات الشرق الأوسط في جامعة إيلينويز الأمريكية، يعتقد أن توزُّع القِـوى الإسلامية على هذا النحو، سببه بروز ما يسميه حركة “الثورات ما بعد الإسلامية”، وهو يحدد هذه الظاهرة كالتالي:
– الحركة ما بعد الإسلامية، لا تعني اللاإسلامية أو العلمانية، إذ أنها تتبنَّـى بحماسة وقوّة، الإيمان الدِّيني، لكنها تُعلي أيضاً من شأن الحقوق المدنية للفرد، وهي تسعى إلى إقامة مجتمع ورع داخل دولة ديمقراطية.
– النماذج على ذلك، تشمل الحركة الإصلاحية الإيرانية في أواخر التسعينيات والحركة الخضراء الآن وحزب العدالة المزدهرتين في إندونيسيا وحزب الحرية والعدالة وحزب الوسط في مصر وحزب العدالة والتنمية في المغرب وحزب النهضة في تونس وحزب العدالة والتنمية في تركيا. كل من هذه الأحزاب، كان أصولياً في السابق، بيْـد أنه بات الآن رافضاً للتجاوزات الأصولية ومتمسِّـكاً بالإصلاح الديمقراطي والبراغماتية السياسية.
– هذه القوى ما بعد الإسلامية، تستند إلى ما يسميه بابات: “الطبقة الوسطى الفقيرة”، التي تكوَّنت من الإنفجار الديموغرافي لفئة الشبان الجامعيين والمتعلِّـمين العاطلين عن العمل.
المعسكر الأول المحافظ، يرفض الثورات ما بعد الإسلامية، جُـملةً وتفصيلا، وهو يتحرّك للقيام بثورة مضادَّة توقِـف أو على الأقل تُـعرقِـل نضوج الربيع الديمقراطي العربي، وتتزعم هذا المعسكر المملكة السعودية.
كتب برنارد هايكيل، بروفسور دراسات الشرق الأدنى في جامعة برينستون الأمريكية مؤخراً في موقع “مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية” ما يلي: “المملكة العربية السعودية، التي تعيش حالة خوْف دائمة من الفوضى واللاإستقرار، هي قوة رئيسية في الثورة المضادّة ضد الربيع العربي. وبما أنها تصنّـف نفسها على أنها دِرْع الإستقرار والمحافظة، فهي لا تريد أي تغيير في البنى السياسية أو في موازين القوى في الشرق الأوسط، كما أنها تشعر بالتهديد من فُـرص بروز أشكال تمثيلية من الحُـكم في الدول المجاورة”.
البعض يرى أن ثمَّـة مُـبالغات في هذا الرأي. فالمملكة دعمت ولا تزال، المعارضة الليبية، وهي ومعها دول الخليج، عرضت على مصر ما بعد مبارك 17 بليون دولار بشكل قروض ومساعدات، كما أنها وقفت إلى جانب المَـطالب الشعبية اليمنية بتنحي الرئيس علي عبدالله صالح.
ويرى أنصار السعودية أنه، إذا ما كانت ثمة حرب باردة في المنطقة، فهي بين إيران والدول العربية، حيث تنتهج الأولى برأيِـهم، سياسات تتَّـسم بالطائفية (الهلال الشيعي) والهيْـمنة (التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية).
بيْـد أن أنصار المُـعسكر الثاني في الحرب الباردة، يردون بأن السعودية شعرت في الواقع بتوتُّـر شديد منذ اللحظة الأولى التي انبلجت فيها الخيوط الأولى لفجر الربيع العربي الجديد في تونس على يَـد محمد البوعزيزي، فسارعت إلى احتضان وحماية الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، على رغم قمْـعه الشديد للحركة الإسلامية في بلاده وثورة شعبه عليه. ثم أتَـبعت ذلك بنشر غسيل خلافاتها علَـناً مع الولايات المتحدة، بسبب تخلي هذه الأخيرة عن حليفها الرئيسي حسني مبارك. وقد وصل الأمر إلى حدِّ تهديد الرياض بالحلول مكان واشنطن في تقديم دعْـم مالي لنظام مبارك بقيمة بليوني دولار.
وبعد ذلك كرّت، برأي هؤلاء، سبحة الهجوم المعاكس الشامل على كل مظاهر التفتُّـح الديمقراطي في المنطقة العربية: من التدخُّـل العسكري المباشر في البحرين لإجهاض الانتفاضة المدنية، إلى الدخول العلني على خط التطورات الداخلية في سلطنة عُـمان (عبْـر الدعم المالي لحكومتها لمواجهة الإضطرابات الشعبية) والكويت والإمارات، مروراً بمحاولة تشكيل “حِـلف ملكي” في مواجهة الثورات الشعبية العربية، يضم إلى دول مجلس التعاون الخليجي كلاّ من الأردن والمغرب.
لمن اليَـد العليا؟
لمَـن ستكون اليَـد العُـليا في هذه المجابهة الباردة الجديدة (والمعقَّـدة كما ألمحنا)؟ يبدو أن الرياح ستهُـبّ هذه المرة، وعلى عكس الستينيات، في أشرِعة رياح التغيير، وهذا لأسباب خارجية وداخلية في آن.
فعلى الصعيد الخارجي، يبرز الإنقلاب الكبير في الموقف الأمريكي إزاء مسألة طبيعة الاستقرار في الشرق الأوسط. فبعد سبعين سنة من اعتماد الولايات المتحدة على التحالف مع الدول المحافظة في المنطقة، على رغم تركيبتها السُّـلطوية، اكتشفت أن الوسيلة الأمثل لمكافحة الإرهاب ووقْـف انتشار أسلحة الدمار الشامل وحماية إمدادات النفط وإسرائيل، تكمُـن في استقرار المجتمعات لا الدول، وهذا لا يمكن أن يتم إلا عبْـر أنظمة ديمقراطية أو شِـبه ديمقراطية، تحظى بقبول شعبي.
حتى الآن، واشنطن سعيدة، لأن رياح الربيع العربي لم تلفح وجه السعودية، ربما يفضل الـ 130 بليون دولار التي نثرها الملك عبدالله بسخاء لتلبية مطالب مواطنيه، ما جعلها تتجنّـب تجَـرُّع الكأس المُـرّة الخاصة بالإختيار بين تحالفها التاريخي المديد مع النظام السعودي وبين دعمها للثورات المدنية العربية. بيْـد أن الصورة قد تتغيّر في حال تحرّكت الطبقة الوسطى السعودية الكبيرة للمطالبة بالحرية إلى جانب الخُـبز.
وعلى الصعيد الإقليمي، برز منافسون عديدون للإسلام السعودي على الساحة. فهناك الآن الإسلام الديمقراطي التركي، الذي يطرح نفسه (وربما تطرحه أمريكا أيضاً) كنموذج يُـحتذى في الشرق الأوسط. وخطورة هذا الإسلام الجديد، تنبع من تقاطعه مع القوة الاقتصادية والسياسية الصاعدة لما يسمى الآن “العُـثمانية الجديدة”، حيث باتت تركيا الآن الرقم 16 من حيث القوة الاقتصادية في العالم، والسابعة في أوروبا.
وهناك الإسلام المصري، الذي يتبرعم، وإن ببُـطء، في إطار التجربة الديمقراطية التي دخلتها مصر مؤخراً بعد ثورة 25 يناير، والذي تُـشير معظم التقديرات إلى أنه سيحذو حذو الإسلام التركي، في حال نجح الجناح الإصلاحي في جماعة الإخوان المسلمين في تطويع الأيديولوجيا لصالح الواقعية السياسية.
ثم هناك الإسلام التونسي بقيادة حزب النهضة، الذي يَـعد هو الآخر بتقديم نسخة حداثية وديمقراطية متطوِّرة للإسلام السياسي، والإسلام المغربي بزعامة حزب العدالة والتنمية، الذي قَبل هو الآخر شروط العمل في إطار دولة مدنية.
كل هذه المعطيات الدولية والإقليمية والمحلية، تشي بأنه في الحرب الباردة الأيديولوجية والسياسية الجديدة في الشرق الأوسط، لن يكون الفيصل الحاسم فيها أموال النفط ولا بالطبع الطبعات القديمة من الإسلام السياسي، خاصة إذا ما نمت وتجذّرت “الثورات ما بعد الإسلامية”.
فهذه الطبعات القديمة (بما في ذلك حتى الحركات الأصولية المتطرِّفة كتنظيم القاعدة)، باتت أشبه بقلعة وسط جزيرة تُـحيط بها “تسوناميات” عاتية. جدران هذه القلعة قد تصمُـد لبرهة، لكنها لن تستطيع في خاتمة المطاف أن توقف لا قوة جذب العوامل الجغرافية ولا جاذبية العوامل التاريخية الجديدة.
القاهرة (رويترز) – سارعت الحكومات العربية لادانة الزعيم الليبي معمر القذافي في فبراير الماضي حين حاول سحق انتفاضة شعبية بالبنادق الالية والمدفعية الثقيلة.
والآن يستخدم الرئيس السوري بشار الاسد الدبابات والذخيرة الحية لقمع موجة من الاحتجاجات في الشوارع وسط صمت نسبي من العواصم العربية يكشف الكثير من الخبايا.
وربما تبدو ردود الفعل المتباينة غير متسقة. فسوريا وليبيا دولتان بوليسيتان. وتهكم القذافي على الانظمة الملكية المحافظة في الخليج بينما أقام الاسد تحالفا مع ايران وساعدها على تمويل جماعة حزب الله الشيعية في لبنان.
ولكن انهيار حكومة الاسد سيوحي بامتداد أثر الإنتفاضات التي أطاحت برئيسي تونس ومصر من شمال افريقيا الى قلب الشرق الاوسط مما يزيد من المخاطر بالنسبة لجيران سوريا.
وقال نبيل عبد الفتاح من مركز الدراسات الاستراتيجية بصحيفة الاهرام المصرية في القاهرة “سقوط النظام السوري الى جانب سقوط النظام اليمني سيعني انتقال الثورة لمنطقة قريبة جدا من منطقة الخليج”.
ويبدو التخلي عن القذافي أسهل بعدما احرقت ليبيا جميع الجسور مع الحكومات العربية وحولت اهتمامها للجنوب واطلق الزعيم الليبي على نفسه لقب ملك ملوك افريقيا. ولجأت سوريا لمزيج من التدخل المباشر والدبلوماسية الهادئة في تعاملها مع جيرانها لمواجهة تهديدات متعددة في منطقة متقلبة. والنتيجة صعوبة تصور توازن القوي في الشرق الاوسط في المستقبل بدون سوريا يحكمها الاسد.
وقال شادي حامد مدير الابحاث في مركز بروكينجز الدوحة “ربما لا يكون الأسد أكثر الزعماء العرب المحبوبين ولكنه شخص يرتبط بعلاقة عمل مع كثير من الحكومات العربية وفي بعض الحالات تكون العلاقة وثيقة”.
وعلى مدار عقود من الزمن حركت أسرة الاسد الأحداث في المنطقة لصالحها من خلال المزج بين تمويل جماعات متعاطفة معها في الخارج ومعاقبة جماعات اخرى. وأبرز مثال للعبة النفوذ في لبنان حيث يقول معارضوها أنها تتلاعب بسياسة البلاد لتتسق واجندتها الخاصة. وتتهم السعودية دمشق بإصدار أمر اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري.
وفي يونيو الماضي، أعرب الامين العام السابق للجامعة العربية عمرو موسى عن “قلقه” إزاء الاشتباكات في سوريا المستمرة منذ شهور ولكنه أشار لانقسام أعضاء الجامعة التي تضم 22 دولة بشأن معالجة الوضع.
وقالت لاليه خليلي من معهد الدراسات الشرقية والافريقية في لندن “حتى السعودية التي كانت على خلاف مع سوريا لعقود التزمت الصمت لأن الإطاحة بالأسد تعني انتصارا آخر للشعوب العربية قد يمتد الى شبة الجزيرة (العربية)”.
ومثلما هو الحال في العديد من الدول المجاورة يقود الاسد نظاما شموليا في بلد يضم مزيجا من طوائف دينية وقبلية تمتد عبر الحدود التي وضعت إبان الحقبة الاستعمارية. ومعظم سكان سوريا البالغ عددهم 20 مليون نسمة من السنة ولكن الاسد والكثير من العسكريين البارزين من العلويين. وفي سوريا ايضا مسيحيون وعرب واكراد. ويقول معارضو الأسد انه يعتمد بشكل متزايد على القوات العلوية الموالية له والشبيحة لكبح الاحتجاجات.
وبالنسبة لدول مثل السعودية والكويت والأردن فإن ثورة أخرى تطيح بالأسد قد تكون أكثر مما يمكن التغاضي عنه.
وقال عبد الفتاح “قد يعني سقوط النظام السوري انهيارا كاملا للموازين الطائفية والدينية في المنطقة الجنوبية”.
وربما يشجع جيران سوريا على البقاء على الحياد الخوف من ان ينتهي بهم المقام على الجانب الخاسر.
وكان القذافي قد فقد السيطرة على المنطقة الشرقية بالفعل حين ابدت الجامعة العربية تأييدها لقرار الامم المتحدة تكليف الغرب بقيادة عملية عسكرية لحماية المدنيين.
ويتوقع معارضو الاسد انتفاضة وطنية ما لم توقف الحكومة نزيف الدم ولكن يبدو ان بعض المحتجين يريدون اصلاحات وليس ثورة فيما لا تظهر دلائل تذكر على تشكيل حكومة اصلاحية.
وفي ليبيا ظهرت قيادة منظمة للمعارضة خلال ايام من اندلاع الانتفاضة ولكن الجماعات المعارضة في سوريا منقسمة بشان خطواتها في المستقبل. وأدانت حكومات غربية تقودها فرنسا إراقة الدم في سوريا ولكن لم تبد رغبة لتدخل عسكري يقلب الموازين لغير صالح الحكومة.
وقالت خليلي: “ترى القوى الغربية أن دور سوريا محوري جدا لاستقرارها وهو في النهاية أهم من الحديث عن التحرر ونشر الديمقراطية. لهذا السبب تلتزم اسرائيل الصمت المطبق”.
جاءت الإنتفاضة في ليبيا بعد اسابيع من الثورتين في تونس ومصر ولمحت الى أن مدا ديمقراطيا بدأ يجتاح المنطقة. ووُجهت ضربة لهذا الإحساس بحتمية الأمور حين أاخمدت البحرين انتفاضة شعبية بمساعدة الجيش السعودي. وقال حامد من مركز بروكينغز الدوحة “لم يعرف الزعماء العرب يقينا بعد في أي اتجاه تهب الرباح. ربما يجد الاسد سبيلا للبقاء ولا يريدون تقويض العلاقة معه ومن يحيطون به”.
(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 10 يوليو 2011)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.