تجنبت تونس الإضراب العام لكن أسباب الصّراع لا تزال قائمة
بعد الإعلان عن إلغاء الإضراب العام الذي دعت له المركزية النقابية، تنفس التونسيون الصعداء، وقدّر الكثيرون الشعور بالمسؤولية لدى النقابيين من جهة ولدى حركة النهضة والحكومة من جهة أخرى.
فالإضراب العام كان سيُكلف الإقتصاد التونسي خسارة لا تقل عن 700 مليون دينار (حوالي 500 مليون دولار أمريكي) وذلك في ظرف دقيق تعاني فيه أوضاع البلاد هشاشة غير مسبوقة. كما أن هذا القرار جاء مفاجئا للجميع بمن في ذلك القيادة النقابية التي عللت ذلك بالقول أنها كانت “مُضطرة”.
الآن، وبعد الإتفاق على الإلغاء الذي تم التوصل إليه في آخر لحظة بين الطرفين، ما هي الدروس المستخلصة؟ وكيف يبدو مستقبل العلاقة بين الإتحاد العام التونسي للشغل (أهم مركزية نقابية في البلاد) من جهة وبين حركة النهضة (الطرف الرئيسي في الإئتلاف الثلاثي الحاكم) والحكومة من جهة أخرى؟
قضايا خلافية
قضايا خلافية أدت إلى الأزمة الراهنة. أولها، اعتقاد حكومة الجبالي وقيادة حركة النهضة بأن الإتحاد لم يراع الظروف الاقتصادية والإجتماعية الصعبة التي تمر بها تونس ما بعد انهيار حكم الرئيس السابق، وبدل أن تعمل قيادة المنظمة النقابية على توعية العمال والحد من جنوحهم نحو المطالبة بتحسين ظروفهم في انتظار إعادة إنعاش الدورة الاقتصادية، انخرطت بدورها في التشجيع على المطلبية المُجحفة، وتأييد الحركة الواسعة من الإضرابات والإعتصامات التي ارتفعت وتيرتها منذ تولي الحكومة الجديدة مهامها في 26 ديسمبر 2011.
في المقابل، تنفي قيادة الإتحاد هذه التهمة، وتؤكد من جهتها على أنها بذلت جهودا كبيرة لتهدئة حالات الإحتقان المتجدد، وأنها أمهلت الحكومة وقتا كافيا لاتخاذ إجراءات عملية على الصعيدين الإقتصادي والإجتماعي، وبناء عليه يتهم النقابيون الحكومة بالتقصير وسوء إدارة الملفات، وهو ما أدى إلى تراجع القدرة الشرائية للعمال والأجراء عموما بسبب تصاعد نسبة التضخم، وتوسع حركة التهريب للبضائع التونسية نحو البلاد الليبية.
اتهامات وردود
الخلاف الثاني يتعلق باتهام حركة النهضة الإتحاد بأنه قد سقط في أيدي اليسار الراديكالي، وهو ما يفسر حسب اعتقاد مسؤوليها الضغوط المتزايدة على الحكومة من أجل إضعافها بهدف إسقاطها. وهم يشيرون في ذلك إلى المؤتمر الأخير الذي عقده الإتحاد العام التونسي للشغل خلال الصائفة الماضية، وأسفر عن صعود بعض النقابيين المحسوبين على اليسار إلى تشكيلة المكتب التنفيذي.
وبما أن الصراع بين الإسلاميين واليساريين يعود تاريخ اندلاعه إلى ساحات الجامعة التونسية منذ منتصف سبعينات القرن الماضي، فقد تجددت الإشتباكات الأيديولوجية بعد أن أسفرت انتخابات المجلس الوطني التأسيسي (23 أكتوبر 2011) عن فوز الإسلاميين وانتقالهم إلى السلطة، في حين وجد اليساريون أنفسهم في المعارضة. وعلى هذا الأساس، شن النهضويون حملة قوية ضد اليسار الراديكالي، متهمين إياه بالسيطرة على النقابات وتوظيفها من أجل إسقاط النظام. كما تمت المطالبة بضرورة الفصل بين الدور الإجتماعي للإتحاد والدور السياسي، الذي هو من مهام الأحزاب وحدها.
من جهتها، رفضت قيادة الإتحاد هذه التهمة، وارتكز خطابها على القول بأن من خصوصيات الحركة النقابية التونسية عدم الفصل بين النقابي والسياسي، وذلك منذ أن اشترك الإتحاد بفعالية في النضال الوطني ضد الإستعمار الفرنسي، مما أدى إلى اغتيال زعيمه الكبير والمؤسس فرحات حشاد في 5 ديسمبر 1952 من طرف عصابة اليد الحمراء الإستعمارية. كما أكدت هذه القيادة على استقلالية قرارها، والتشديد على أن الإتحاد هو بمثابة “الخيمة” التي تجمع تحتها كل التيارات السياسية بما في ذلك النقابيون المنتمون لحركة النهضة، واعتبرت أن مسألة الدفاع عن الديمقراطية والحريات العامة والفردية “لا تنفصل” عن الدفاع عن حقوق العمال.
التهدئة.. مؤقتة؟
اليوم، تغلبت الحكمة لدى الطرفين وتم تجنب الإضراب العام، لكن مع ذلك بقيت هذه المسائل الخلافية تنتظر معالجتها بكثير من الذكاء والتروي. لقد تعرض الإتفاق الذي تم التوصل إليه بين الحكومة والاتحاد إلى مسألة رابطات حماية الثروة دون ذكرها بالإسم، حين نص على أن من مسؤولية الحكومة حماية حق النشاط السياسي والمدني والنقابي و”سواها”. كما “تعبّر الحكومة عن إدانتها للاعتداء الذي تعرّض له الإتحاد ونقابيوه”، مع الدعوة “للتعجيل بالإجراءات القضائيّة لتتبّع كلّ من تثبت إدانته”.
وبالرغم من أن بعض الأطراف النقابية لم يعجبها نص الإتفاق، ورأت فيه محاولة لتمييع الخلاف، إلا أن الأسابيع القليلة المقبلة قد تشهد تصعيدا من قبل أطراف سياسية وحقوقية ونقابية ترمي إلى تحجيم دور هذه الرابطات التي أصبح لها فروع في مختلف المدن والأحياء، والتي اتهمت بالقيام بعنف في أكثر من مكان، وخاصة في حادثة تطاوين التي أدت إلى موت ممثل حزب “نداء تونس” المعارض بالجهة، وهي القضية التي سيترافع فيها بعد اختتام التحقيقات ما لا يقل عن 300 محام.
في الأثناء، يرى مُراقبون أن الحكومة مدعُـوّة إلى تنشيط الحياة السياسية لإخراجها من هذا المأزق الذي هيمن عليه الصراع “النقابي – النهضوي”. ولعل تصويت المجلس الوطني التأسيسي على قانون الهيئة العليا المستقلة للإنتخابات يوم 13 ديسمبر الجاري، من شأنه أن يُـولّـد حركية بناءة، باعتباره الخطوة الأولى نحو بداية رسم خارطة طريق واضحة تعيد الإطمئنان للتونسيين، وتضع حدا للإحتقان السياسي والإجتماعي في البلاد.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.