تحدي “الإستقطاب السياسي” يُلقي بظلاله على الربيع العربي
رغم أن شعوب تونس ومصر وليبيا تدخُل عامها الثاني بعد ثورات أو انتفاضات شعبية، خلصتها من دكتاتوريات عتيدة عنيدة، فإنها لم تقطف حتى الآن ثِمار هذه الثورات التي واجهت مصاعب وتحديات جمّة، شاعت من خلالها حالات من عدم الاستقرار والإستقطاب السياسي والانفلات الأمني وتدهْـور الأحوال الإقتصادية وفقدان الثِّـقة.
وبينما يتطلّـع كل عربي لأن يحمل العام الجديد تطوّرات إيجابية، توازي التضحيات الشعبية من أجْل نجاح عملية التحوّل نحو الديمقراطية، يرى خبراء التحوّل الديمقراطي أن العام الجديد يحمل مزيدا من التحدِّيات لثورات الربيع العربي التي يخشى البعض أنها لم ترقَ حتى الآن إلى مستوى ذلك الوصف.
فعلى سبيل المثال، يرى الدكتور دانيال برومبرغ، كبير مستشاري معهد السلام الأمريكي في واشنطن لشؤون التحوّل الديمقراطي وحلّ الصراعات، أن ما شهدته تلك الدول، كان سلسلة من الانتفاضات الشعبية احتجاجا على أوضاع سياسية واقتصادية بالِغة السّوء، قامت بها فئات ومجموعات مُختلفة لا تجمعها نفس الأجندة ولا الأهداف الاستراتيجية، وسُرعان ما انقسمت على أنفسها وأدّت إلى حالات من الإستقطاب السياسي، حالت دُون التوصّل إلى التوافق الضروري واللازم لإحداث التغيير السِّلمي، فيما واصلت فلول الأنظمة السابقة محاولاتها لإجهاض التحول نحو الديمقراطية.
تحدّي العدالة الانتقالية
ويرى الدكتور برومبرغ أن هناك عدّة تحديات لا زالت تواجه الربيع العربي، خاصة في مصر وتونس وليبيا: “أولا في مصر: تم تأجيل التطبيق اللازم لآليات العدالة الانتقالية، أولا بسبب طول مدة إدارة المجلس العسكري للبلاد، ثم نجح الرئيس محمد مرسي ومن خلفِه جماعة الإخوان المسلمين في تأمين وصولهم للسلطة بتحييد المجلس العسكري، ثم لم يهتمُّـوا بتطبيق آليات العدالة الانتقالية، وهو ما جعل التحوّل الديمقراطي يتعثَّـر انتظارا لإصلاح أجهزة الأمن والشرطة ومحاسبة رموز النظام السابق وتعويض المتضرِّرين وأسَـر الشهداء.
ثانيا في تونس: مع أن الحكومة المُنتخَبة ديمقراطيا حاولت اجتِذاب الجماعات العِلمانية وشرعت في السّعي لتطبيق العدالة الإنتقالية، بل وعيَّنت وزيرا مُختَصّا بشؤونها من بين ضحايا نظام بن علي المخلوع، فإن جهوده صادفت مقاومة من عناصر في وزارة الداخلية التونسية، بل وعناصر داخل وزارة العدل ولا زال الصراع دائرا ويشكِّل تحديا واضحا لتونس في العام الجديد.
ثالثا في ليبيا: تنبّهت ليبيا مبكّرا إلى ضرورة الأخذ بتدابير العدالة الانتقالية على طريق التحول نحو الديمقراطية، لكن الحكومة اللبيبة وجدت نفسها في موقِف لا تُحسَد عليه. فقواتها المسلحة ضعيفة وأجهزتها الأمنية في طوْر التّكوين، بينما تعجّ البلاد بميليشيات مدججة بشتّى أنواع الأسلحة وتتصور أن من حقِّها تولّي تطبيق آليات العدالة الانتقالية بنفسها، وما لم تقم الدولة باحتكار استخدام وحيازة السلاح لأجهزتها الأمنية، فإن ليبيا ستُواصل في العام الجديد مواجهة تحدّي عدم تطبيق العدالة الانتقالية”.
تحدِّي الإستقطاب السياسي
في هذا الصدد، يفرِّق الدكتور برومبيرغ بين الحالة المصرية والحالة التونسية ويقول: “لم يبذل الرئيس المصري محمد مرسي أي جهد للحيلولة دون تعميق الانقسام في المجتمع المصري بين معسكر الإسلاميين الذي يضم الإخوان والسلفيين والجماعة الإسلامية وغيرها من حركات الإسلام السياسي، وبين الليبراليين والعلمانيين، بل أسهم في خلق مناخ غيْر صحّي من الإستقطاب السياسي، بتوسيع نطاق سلطاته وإعلانه الدستوري المثير للجدل وزيادة إحكام قبضة الإسلاميين على مفاصل الدولة بشكل إقصائي، انطوى على استبعاد العِلمانيين والليبراليين، مما جعلهم في معسكر مُضادّ يَخشى من أن يُسفِـر التحول الديمقراطي إلى فرض آراء وتوجهات الإسلاميين على المجتمع المصري، ويبدو أن هذا التحدّي سيظل يواجه مصر خلال العام الجديد”.
وفيما يتعلق بالحالة التونسية يرى الدكتور برومبرغ أن المجتمع التونسي، يدخل العام الجديد وسط حالة لم يسبق لها مثيل من الإستِقطاب بين السلفيّين والعِلمانيين. ومع أن الحكومة التونسية المُنتخبة ديمقراطيا، حاولت أن تشمل الإسلاميين والعلمانيين، فإن ظاهرة السلفيِّين التونسيين المُنادين بسياسات متشدِّدة تتَّفق مع توجُّهِهم الإسلامي، وضعت الحكومة في موقِف بالغ الحرج. فإذا حاولت إشراكهم في الحُكم، ستُـثير مخاوف العِلمانيين وتدفع بهم إلى صفوف المعارضة، وإذا استبعدتْهم، فلن تسلَم من الإضطرابات والقلاقِل.
الدكتور دانيال برومبرغ، كبير مستشاري معهد السلام الأمريكي في واشنطن
ستحتاج عملية التحوّل إلى الديمقراطية في مصر والإنطلاق الاقتصادي إلى ما بين عشرين إلى ثلاثين عاما
تحدّي بوعزيزي
من جهة أخرى، يشدِّد الدكتور برومبرغ على أن الشغل الشاغل للتونسيين في العام الجديد، هو خلق فُرص عمل ووظائف جديدة، حيث انطلقت شرارة الثورة الأولى من عدم قُـدرة بوعزيزي على توفير لُقمة العيش لأسرته ويقول: “رغم أن هناك تحسُّنا طفيفا في الأحوال الاقتصادية في تونس، فأنه لم يصل إلى القَـدر الكافي لمواجهة التحدِّيات الإقتصادية والإجتماعية، مما يُعزِّز التطرّف الإسلامي ويُـؤجِّج جذوة التذمّر والقلاقل، ومما يصعب التحدِّي الاقتصادي على الحكومة التونسية، هو أن يد المجتمع الدولي أصبحت مغلولة بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية، مما يُـقلِّص من فُـرص تقديم مساعدات مالية سخِية تمسّ الحاجة إليها في تونس”.
غير أن الخبير الأمريكي ينبِّه إلى أن بوُسْع الحكومة التونسية الشروع في إجراء تغييرات هيكلية، تولي أهمية أكبَر لقطاع التجارة والصناعة لإصلاح الخلَل الهيكلي، المتمثل في الإعتِماد بشكل مُتزايد على السياحة، وهو ما ضاعف من المشكلة الاقتصادية حين حَرم عدم الاستقرار في تونس من جانب كبير من عائدات السياحة، وأكّد أن التحدي الاقتصادي سيُلقي بظِلاله على تونس، ليس فقط في العام الجديد، بل وربما العام القادم أيضا، ولكن ما يُطمئِن، حسبما يري الدكتور برومبرغ، هو أن الحكومة التونسية لديها تصوّر واضح لِما تُريد الوصول إليه وما ترغب في تحقيقه.
أما التحدّي الاقتصادي الذي يواجه مصر، وهي تحتفل هذا الشهر بالعيد الثاني لثورة الخامس والعشرين من يناير، فيراه الدكتور برومبرغ أكبر بكثير مما تواجهه تونس، بحُكم ضخامة حجم الدُّيون الخارجية والآثار السلبية للانفِلات الأمني على السياحة والاستثمار، بل وعلى عجلة الإنتاج، بالإضافة إلى انخِفاض احتياطي البلاد من النَّقد الأجنبي وهروب رؤوس الأموال المصرية للخارج وعدم إقبال الاستثمار الأجنبي وضخامة عدد السكان.
ويقول الدكتور برومبرغ: “ستحتاج عملية التحوّل إلى الديمقراطية في مصر والإنطلاق الاقتصادي إلى ما يتراوح بين عشرين إلى ثلاثين عاما، ولذلك فإن مصر لا تزال في مراحل التحوّل الأوَّلي، وهناك من المشاكل الاقتصادية ما لن تستطيع حكومة الدكتور قنديل والرئيس مرسي عِلاجه في السنوات الأربع القادمة، وهكذا فإن أبرز تحدِّيات العام الجديد في مصر ستكون ذات طبيعة اقتصادية”.
كبير مستشاري مركز تحليل الصراعات والتحول نحو الديمقراطية والإصلاح السياسي في الشرق الأوسط، التابع لمعهد السلام الأمريكي في واشنطن.
أستاذ مساعد في جامعة جورج تاون وعضو في مجلس تحرير مجلة الديمقراطية ومستشار في المنتدى العالمي لدراسات التحوّل الديمقراطي والسياسي في الشرق الأوسط،
متحصل على درجة الدكتوراه من جامعة شيكاغو بالولايات المتحدة.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.