ترحيب محلي ودولي بخطاب مَـلكيّ “تاريخي واستباقي”
لقي خطاب العاهل المغربي الملك محمد السادس حول الإصلاحات الدستورية، ترحيبا محليا ودوليا، وقرأت فيه العديد من الأوساط ثورة استباقية لثورة مُـقبلة على بلاد كانت دائما تحرِص على تقديم نفسها على اعتبار أنها دولة قطعت شوطا بعيدا في ميدان الديمقراطية.
وأعلن الملك محمد السادس في خطاب وجَّـهه للشعب المغربي مساء الأربعاء 9 مارس 2011، أنه سيقترح على الإستفتاء الشعبي في شهر يونيو القادم مشروع تعديلات دستورية تتعلّـق بآليات ومؤسسات الحُـكم، مع المحافظة على ما أسماه الثوابت المقدسية التي هي محلّ إجماع وطني، وتتمثل في “الإسلام كدين للدولة، الضامنة لحرية ممارسة الشعائر الدينية وإمارة المؤمنين والنظام المَـلكي والوحدة الوطنية والترابية والخيار الديمقراطي، الضمان القوي والأساس المتين لتوافق تاريخي، يشكِّـل ميثاقا جديدا بين العرش والشعب”.
وتتعلّـق التعديلات الدستورية، التي حدّدها بتكريس التنوّع ودسترة اللغة الأمازيغية وترسيخ دولة الحقّ والقانون وفصل السُّـلط وتوازنها، من خلال انتخابات نزيهة، وصلاحيات أوسع للبرلمان وسلطات أوسع للحكومة ورئيسها، الذي سيكون من الحزب الفائز بالانتخابات، وتقوية دور الأحزاب والمجتمع المدني وضمان التعدُّدية.
ويعرف المغرب منذ انتصار الثورتيْـن، التونسية والمصرية، حِـراكا للشباب على موقع الفايس بوك، أطلقوا على احتجاجاتهم اسم شباب أو حركة 20 فبراير، نسبة إلى التظاهرات الحاشدة التي شهدتها 23 مدينة مغربية في ذلك التاريخ وشارك فيها عشرات الآلاف من الأشخاص، مدعومين من أحزاب وتيارات يسارية راديكالية وأصولية متشدِّدة، فيما أخذت الأحزاب الممثلة بالبرلمان، موقِـفا مناهضا للحركة، وإن أكَّـدت على أن ما تطالب به من إصلاحات، شكَّـل أرضية نضالها منذ عدّة عقود.
ويطالب شباب 20 فبراير بإصلاحات دستورية وسياسية واقتصادية واجتماعية ومحاربة الفساد واقتصاد الريع وتحريم جمع السلطة والثروة، كما هاجموا في احتجاجاتهم التي تواصلت على مدى الأسابيع الثلاثة الماضية، شخصيات مقرَّبة من الملك واتَّـهموها بالفساد.
“خطاب استجاب لمطالب حركة 20 فبراير”
واعتبر الباحث الحسان بوقنطار، عضو المكتب السياسي للإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (يسار مشارك بالحكومة)، أن خطاب الملك محمد السادس حوْل التعديلات الدستورية، لحظة متميزة في التطوّر الدستوري والسياسي في البلاد.
وقال في تصرحات خاصة لـ swissinfo.ch، إن الخطاب يعكِـس تفاعلا موجودا بين المَـلكية والقِـوى السياسية والمجتمعية المختلفة، التي جاء الخطاب استجابة لمطالِـبها ومطالب حركة 20 فبراير، ولأنه يفتح صفحة جديدة بعد التراجع الذي عرفه المسلسل الإصلاحي الذي باشره المغرب منذ منتصف التسعينات وأخذ نفسا جديدا من خلال مجموعة من الإصلاحات والأوراش الكُـبرى مع تولي محمد السادس العرش. ويتجسد التراجع، حسب بوقنطار، في تشريعيات 2007 وما عرفته من عزوف عن المشاركة دلّ على الهوّة الموجودة بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني وعدم التقاط الفاعل السياسي، إشارة ذلك العزوف.
ولا ينفي الباحث المغربي ربْـط سرعة التجاوب مع مطالب المجتمع المغربي بالتغيير والإصلاحات الدستورية مع ما تعرفه المنطقة العربية من تحوّلات عميقة وتغييرات ملموسة في النظام الرسمي العربي، مكَّـنت من إسقاط أنظمة كان يُـعتقد أنها عصِـيّة على السقوط والتغيير، مثل نظام بن علي في تونس ومبارك في مصر، وما تشهده ليبيا واليمن من انتفاضات واحتجاجات، وأيضا ما تشهده الجزائر وعُـمان والكويت والسعودية من حِـراك اجتماعي، مما جعل الدولة المغربية تقوم بإصلاحات استباقية، وهي خطوة محمودة برأيه لامتِـصاص المطالب التي عبَّـر عنها المحتجُّـون الشباب منذ 20 فبراير.
ويرى الحسان بوقنطار أن محتوى الخطاب المَـلكي أقر تحوُّلا نوعيا في علاقة السلطة بالمجتمع، من خلال هندسة دستورية متميزة، ترتكز على ترسيخ دولة الحق والقانون من خلال دسترة آليات جديدة لحقوق الإنسان وسُـمو القانون والمعاهدات الدولية على القانون المحلي، وتضمين توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة ودسترة الأمازيغية وأيضا إقرار ديمقراطية محلية على أساس حكامة جهوية، تتمّ دسترتها كمؤسسة تتمتّـع باختصاصات كانت في السابق موكولة للوُلاة والعمّـال (محافظين)، وسيكون لذلك انعكاس على مجلس المستشارين (الغرفة التشريعية الثانية)، الذي يوازي في اختصاصاته ومكانته مجلس النواب، بحيث يصبح على شاكلة الغرف الثانية (أو مجالس الشيوخ) في الدول الديمقراطية.
وحرِص العاهل المغربي الملك محمد السادس في خطابه (الذي سارعت الأحزاب السياسية إلى إصدار بيانات وتصريحات تُـعلِـن تأييدها له، وتلته أيضا تصريحات من باريس وواشنطن ومدريد، ترحِّـب بالخطاب ومضمونه) على عدم إفال مسائل كانت محل نقاش صامِـت أو خافِـت، تتعلق بسلطات وصلاحيات المَـلك والخلل في التوازن بين السلطات الدستورية عموما.
الإحتجاجات ستتواصل من أجل تحقيق “كل المطالب”
في سياق آخر، اعتبرت مجموعات شباب 20 فبراير أن ما ورد من إصلاحات، ليس كافيا وأنها ستواصل احتجاجاتها والتي ستكون أكبرها يوم 20 مارس الجاري، من أجل تحقيق كل مطالبها، إن كان من ناحية التعديلات الدستورية وإلغاء بعض الفصول الواردة في دستور 1996، خاصة ما يتعلق بسلطات المَـلك أو الإصلاحات السياسية بحلّ الحكومة والبرلمان ومحاربة الفساد وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين.
وبالنسبة لعضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي، فإن مشروع التعديلات، كما جاءت بالخطاب، يُـؤدي إلى توازن جديد للسُّـلط، من خلال تدعيم مكانة الحكومة والوزير الأول، الذي سيكون من الحزب الفائز بالإنتخابات التشريعية وله اختصاصات فاعلة، وسيُـصبح المجلس الحكومي مؤسسة دستورية تتَّـخذ القرارات، وهو ما يجعل الوزير الأول وحكومته محلّ مُـحاسبة حزبه وأيضا المؤسسات المجتمعية وأيضا محلّ محاسبة ومراقبة مجلس النواب، الذي ستتوسع صلاحياته التشريعية أو الرقابية، بالإضافة إلى استقلالية القضاء بعد تحويله إلى مؤسسة لها استقلاليتها، وتوسيع صلاحيات المجلس الدستوري الرقيب على احترام تطبيق القانون وموافقته مع الدستور وأيضا الرقيب على نزاهة الانتخابات.
“نيات حسنة.. لكنها غير كافية”
ودون أن يقلِّـل علي انوزلا، الكاتب والصحفي من حمولة الخطاب المَـلكي “الذي حمل بين طيّـاته الكثير من النيات الحسنة”، إلا أنه يُـعيد إلى الذاكرة “الكثير من “الإشارات القوية”، التي صدرت عن المؤسسة المَـلكية في السنوات العشر الأخيرة، وكانت وراءها نِـيات حسنة، لكنها لم تكُـن كافية لتحُـول دون تراكُـم بُـركان كل هذا الغضب الذي رأينا دخـانه في الشارع يوم 20 فبراير”. ولا يُخفي خشيته من أن تكون “فترة ثلاثة أشهر التي منحت للجنة إصلاح الدستور، مجرّد مسألة وقت إضافي في انتظار تهدئة النفوس”.
ويعتقد أنوزلا أنه، لتحقيق مطالب تظاهرات 20 فبراير على أرض الواقع، “يجب إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وإعادة النظر في أحكام الشباب اللذين حوكموا محاكمات سريعة وصدرت في حقهم أحكام قاسية وطرح تصور واضح لتحييد المحيط المَـلكي من الإنخراط في مجال الأعمال والتدخّـل في الحياة السياسية بنفس القوة، التي يؤطر بها اليوم المجال السياسي ويراقب بها مجال المال والأعمال”.
الخطاب إيجابي.. ولكن؟
في سياق متصل، ورغم إقرار عبد الحميد أمين، نائب رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، بوجود إيجابيات في الخطاب المَـلكي، إلا أنه يرى أن “الإصلاحات، إيجابية بالمقارنة مع الوضع الحالي، لكنها لن تمكِّـن من نزع الطابع المخزني عن الدستور الحالي (وبالتالي، عن النظام الحالي)، الذي يرجع في جوهره إلى نصف قرن (1962) ولن يمكِّـن بتاتا من التأسيس لنظام ديمقراطي عموما، وحتى لنظام المَـلكية البرلمانية في شكلها المتطوّر، الذي يجسِّـده شعار “الملك يسود ولا يحكُـم”، وهو الموقف نفسه لجماعة العدل والإحسان الأصولية شِـبه المحظورة، التي قال فتح الله أرسلان، الناطق باسمها، “إن الخطاب أعلن عن تعديل دستوري، لكن بنفس الأسلوب المطابِـق كليا للدساتير السابقة، أي دستور ممنوح بقرار فردي، بدءا من تعيين اللجنة وتحديد شروطها ومعاييرها وقيودها، ورسم دائرة تحرّكها وسقفها الزّمني والحسْـم في نتائجها، وبهذا تفتقد إلى أبسَـط متطلَّـبات الدستور الديمقراطي”.
على العكس من ذلك، يعتقد الحسان بوقنطار، أن ما ورد بالخطاب يستجيب بعُـمق للمطالب التي رُفعت يوم 20 فبراير وأن تحقيق بعض القضايا يحتاج إلى الحكامة وعدم الاستعجال والتسرّع، مثل حلّ الحكومة والبرلمان، لأن ذلك سيخلق فراغا مؤسساتيا.
ولا ينكر بوقنطار بأن المخاطر على أي إصلاح ديمقراطي، خاصة الاكتفاء بالنصوص دون تطبيقها وعدم مواءمة الممارسة السياسية مع القانون. وقال لـ swissinfo.ch، إن أية تحوّلات ستفقد تأثيرها الإيجابي، إذا لم تترافق بإصلاحات سياسية تهُـم الحقل السياسي وعلاقة المجتمع بالسياسة وأن الإصلاحات المُـقترحة تدعو الأحزاب إلى إعادة النظر بأوضاعها وممارساتها، لأنه بدون أحزاب قوية، تصبِـح النصوص بلا معنى، وكذلك ضرورة ضبط العلاقة بين السلطة والنفوذ والمال وجعل القانون هو المحدِّد لهذه العلاقة لضمان التضامن الاجتماعي من جهة، ومحاربة الفساد والرّشوة واقتصاد الرّيع من جهة ثانية.
ويقترح الباحث والأستاذ الجامعي المغربي على الشباب الخروج من الموقع السَّـلبي والإنخراط بالفعل الإيجابي، وتحديدا بالعملية الانتخابية، لأن الديمقراطية أساسا هي تولِّـي تدبير الشأن العام عبْـر صناديق الإقتراع. وقال: “إن حركة 20 فبراير عبَّـرت عن حقيقة أن الشباب المغربي ليس عازِفا عن السياسة، لكنه عازف عن أشكال الممارسة السياسية”.
الثلاثة أشهر القادمة.. ستكون حاسمة!
الأشهر الثلاثة القادمة مغربيا، ستكون شهور تحوّل حقيقي، قد لا يرضي جميع أطراف المجتمع المغربي، لكنها إذا ما سارت بالرّوح التي وردت في الخطاب المَـلكي، فإن المغرب يكون قد تجاوز بنجاح ما كان يهدِّده من حالات توتُّـر ومواجهة بين الدولة والشباب من أجل التغيير، على غِـرار ما عرفته تونس ومصر وما تشهده الآن ليبيا واليمن والبحرين. فقد التقط العاهل المغربي – حسبما يبدو – الإشارات التي جاءته من الشباب ورغْـبتهم بالتغيير الديمقراطي السِّـلمي، واتَّـخذ ما يراه ملائما في الوقت المناسب، وليس بعد فوات الأوان.
“لقد حقّـق المغرب مكاسب وطنية كبرى، بفضل ما أقدمنا عليه من إرساء مفهوم متجدّد للسلطة ومن إصلاحات وأوراش سياسية وتنموية عميقة ومصالحات تاريخية رائدة، رسَّـخنا من خلالها ممارسة سياسية ومؤسسية، صارت متقدمة بالنسبة لما يُـتيحه الإطار الدستوري الحالي.
كما أن إدراكنا العميق لجسامة التحديات ولمشروعية التطلعات ولضرورة تحصين المكتسبات وتقويم الاختلالات، لا يعادله إلا التزامنا الرّاسخ بإعطاء دفعة قوية لدينامية الإصلاح العميق، جوهرها منظومة دستورية ديمقراطية.
ولنا في قدسية ثوابتنا، التي هي محطّ إجماع وطني، وهي الإسلام كدِين للدولة والضامنة لحرية ممارسة الشعائر الدينية وإمارة المؤمنين والنظام المَـلكي والوحدة الوطنية والترابية والخيار الديمقراطي، الضمان القوي والأساس المتين لتوافق تاريخي، يشكِّـل ميثاقا جديدا بين العرش والشعب.
ومن هذا المُـنطلَـق المرجعي الثابت، قررنا إجراء تعديل دستوري شامل، يستند على سبعة مرتكزات أساسية:
أولا: التكريس الدستوري للطابع التعدّدي للهوية المغربية الموحدة، الغنية بتنوّع روافدها وفي صلبها الأمازيغية، كرصيد لجميع المغاربة.
ثانيا: ترسيخ دولة الحق والمؤسسات وتوسيع مجال الحريات الفردية والجماعية وضمان ممارستها وتعزيز منظومة حقوق الإنسان بكل أبعادها، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية والثقافية والبيئية، ولاسيما بدسترة التوصيات الوجيهة لهيئة الإنصاف والمصالحة والالتزامات الدولية للمغرب.
ثالثا: الارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة وتعزيز صلاحيات المجلس الدستوري، توطيدا لسمو الدستور ولسيادة القانون والمساواة أمامه.
رابعا: توطيد مبدأ فصل السُّـلط وتوازنها وتعميق دمقرطة وتحديث المؤسسات وعقلنتها، من خلال: برلمان نابع من انتخابات حرّة ونزيهة، يتبوّأ فيه مجلس النواب مكانة الصدارة، مع توسيع مجال القانون وتخويله اختصاصات جديدة كفيلة بنهوضه بمهامِّـه التمثيلية والتشريعية والرقابية. حكومة منتخبة بانبثاقها عن الإرادة الشعبية، المعبَّـر عنها من خلال صناديق الاقتراع، وتحظى بثقة أغلبية مجلس النواب. تكريس تعيين الوزير الأول من الحزب السياسي، الذي تصدَّر انتخابات مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها، تقوية مكانة الوزير الأول، كرئيس لسلطة تنفيذية فعلية، يتولى المسؤولية الكاملة على الحكومة والإدارة العمومية وقيادة وتنفيذ البرنامج الحكومي، ودسترة مؤسسة مجلس الحكومة وتوضيح اختصاصاته.
خامسا: تعزيز الآليات الدستورية لتأطير المواطنين، بتقوية دور الأحزاب السياسية، في نطاق تعددية حقيقية وتكريس مكانة المعارضة البرلمانية والمجتمع المدنيز
سادسا: تقوية آليات تخليق الحياة العامة وربط ممارسة السلطة والمسؤولية العمومية بالمراقبة والمحاسبة.
سابعا: دسترة هيئات الحكامة الجيدة وحقوق الإنسان وحماية الحريات”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.