تركيا في عام 2010.. بين إنجازات تحققت وتحديّـات قـائـمـة
تطْـوي تركيا سنة حافِـلة بالأحداث والتحوّلات. وفي الواقع، لم تكُـن السنوات الثمانِ حتى الآن مِـن حُـكم حزب العدالة والتنمية، إلا كتابا يوميا مفتوحا على التّجديد والتغيير الدائميْـن في بلد يتمتع بموقع استراتيجي دقيق وينطوي على قدرات اقتصادية وبشرية ضخمة.
وفترة الثمانِ سنوات، ليست كثيرة، قِـياسا إلى إرث عمره ثمانون سنة. ومع ذلك، كان حزب العدالة والتنمية يتقدّم تارة بسُـرعة وتارة ببُـطء وأحيانا، كان يتوقّـف أحيانا، لكنه لم يتراجع مرّة إلى الخلْـف.
اتَّـبع حزب العدالة والتنمية إستراتيجية “الضمّ والهضْـم”، تلك التي اتَّـبعها السلاطين العثمانيين الكِـبار الأوائل، من بَـدء تأسيس الدولة إلى نهاية عهْـد السلطان سليمان القانوني، أي سياسة ضم الأراضي ثم تثبيت السلطة فيها، قبل الانتقال إلى فتح أراضٍ جديدة، وهو ما يفسِّـر امتِـداد عُـمـر الدولة العثمانية إلى سبعِـمئة عام.
المتابعون لتجربة حزب العدالة والتنمية، كانوا أكثر لهْـفة من قيادييه للإسراع في حرْق المراحل وإحداث التغيير الجذري. لكن إذا كان ذلك مُـمكنا، ونسبيا في المجالات العلمية، فإن المجال التاريخي المتَّـصل بالاجتماع الإنساني يحُـول دون ذلك، إلا في حالة إراقة الدِّماء عبْـر الثورات.
لم يلجَـأ حزب العدالة والتنمية إلى خيار الثورة أو التغيير الكلِّـي دُفعة واحدة. فقد حاول من قبْـله نجْـم الدّين أربكان، وفشل. لكن التكتيك الذي اتَّـبعه حزب العدالة والتنمية، لم يخرج أيضا من أن يكون ثورة صامِـتة وديمقراطية.
تذبذبَ مسار الإصلاح في عهد العدالة والتنمية، لكنه كان يعود بعدَ كلّ انتِـكاسة أو جمود، إلى الارتفاع إلى نقطة أعلى من آخِـر أعْـلى نقطة كان قد وصل إليها.
لا مراء في أن الكشف عن فضائح تورّط المؤسسة العسكرية بجنرالاتها الحاليِّـين أو المتقاعدين في مؤامرات الإنقلاب على الحكومة الشرعية منذ 2003 وحتى اليوم، كان عُـنصرا حاسِـما في تعرِية دَور المؤسسة العسكرية، كحامية للجمهورية والعِـلمانية وإضعاف صورتها أمام الرأي العام وصدقيتها. وبَـان أن هذه المؤسسة لا تتوانى عن التخطيط لتفجير جوامِـع او إختراع صِـدام جوي مع اليونان، من أجل تبرير القيام بتحرّك عسكري ضدّ حكومة حزب العدالة والتنمية.
نجح حزب العدالة والتنمية في تشكيل “بيئة حاضنة” للهجوم على المؤسسة العسكرية، كما على المؤسسات التي تأتَـمِـر بأوامرها، ولاسيما المحكمة الدستورية ومجلس القضاء الأعلى، وتعريَـتهم من أوراق القوة التي يتلطون خلْـفها. فكانت الخطوة التاريخية في 12 سبتمبر 2010 مع إقرار الاستفتاء الشعبي، أكبر رُزمة تعديلات دستورية شكّـلت انقلابا في اتِّـجاه تجذير الإصلاح، ولاسيما تقييد نفوذ المؤسسة العسكرية والتِـزام المؤسسات القضائية حدودها القانونية وكسْـر سياج “الدولة العسكرية”، بإخضاعها لرقابة المؤسسات المدنية. وقد اختصر رئيس الحكومة التركية نتائج الاستفتاء، الذي نجح بنسبة عالية هي 58%، حيث اعتبرها “إنهاء لنظام الوصاية العسكرية”.
تحديات حزب العدالة والتنمية
سجَّـل حزب العدالة والتنمية هدفا غالِـيا في مرمى القِـوى العِـلمانية والعسكرية المتشدِّدة، لكن المباراة مع ذلك لم تنته بعدُ. فأمام حزب العدالة والتنمية الكثير لكي يخرج ويقول إن الثورة الدستورية اكتَـملت.
فرغم المبادرات الكثيرة التي تقدّم بها الحزب، ما زال التَّـعاطي مع مُـشكلات الأقليات المسيحية والعَـلوية والكُـردية تُـراوِح مكانها. ويظهر التحدّي الأكبر مع الأكراد، الذين بات يجمعهم كلّهم شِـعار”الحكم الذاتي الواسع”، بل دعا بعضهم إلى تشكيل قوات دفاع عن المناطق الكُـردية واعتماد اللّـغة الكردية إلى جانب اللغة التركية في المناطق الكردية. كذلك، لا يزال العَـلوِيون يبحَـثون عن “دولة تركية” ،تعترف بخصوصيتهم وتُـساويهم بشركائهم في الوطن من السُـنّة.
ومع أن مشكلة الحِـجاب مثلا عرفت خَـرقا مُـعيَّـنا من خلال قرارات داخلية لمجلس التعليم العالي، إلا أن الإطار القانوني لحلّ المشكلة، لا يزال ينتظر تعديلا دُستوريا يحسم نهائيا الجَـدَل حوْل هذه القضية.
لا تغيب عن بال قادة حزب العدالة والتنمية مصيرية استِـكمال الإصلاح. لكن الفترة الفاصِـلة عن الانتخابات النيابية المُـقبلة في يونيو 2011، أقصر من أن تكون كافية للقيام بخطوات خلالها. لذا، فإن استِـكمال الإصلاح مؤجَّـل إلى ما بعد الانتخابات النيابية، وهذا أمر مقصود من جانب رجب طيب اردوغان، الذي يريد أن يخرج بانتصار كبير، يُـجدِّد الثقة بسُـلطته ويُـفوِّضه القيام بخُـطوة أكبر، هي الإعداد لدستور جديد مدني، يعزِّز الحريات والديمقراطية ويُـتيح لتركيا أيضا أن تلبِّـي شرطا أساسيا للإتحاد الأوروبي، لفتح باب الانضمام إليه.
وما لم تطرَأ مفاجآت غيْـر متوقَّـعة، فإن المشهد السياسي الحالي في تركيا، يجعل حزب العدالة والتنمية يُـحافظ على قوته الشعبية، وبالتالي، احتمال أن يفوز في الانتخابات المُـقبلة ومُـنفردا مع الرِّهان على أن يزيد من النِّـقاط التي يحصُـل عليها.
ورهانات الحزب على الفوز، تعود إلى مجموعة عوامِـل، منها ضعف المعارضة، بل حتى الهزّات الداخلية في حزب المعارضة الرئيسي، حزب الشعب الجمهوري. ويُـراهن اردوغان على الانْـجازات في المجال الاقتصادي، الذي يشهد نُـمواً كبيرا وتراجُـعا في نسبة التضخّـم وارتِـفاعا هائلا في حجم التجارة الخارجية والاستثمارات الأجنبية في تركيا، والتي قاربت الـ 200 مليار دولار.
السياسة الخارجية
غير أن المشهد في السياسة الخارجية قد يكون مُـغايِـرا بعض الشيء. كان عام 2010 عام التوتُّـرات الخطيرة في علاقات تركيا مع بعض القِـوى الإقليمية والدولية الأساسية.
تابعت تركيا سياسة “التورّط” في المشكلات الإقليمية والدولية ومحاولة القيام بدوْر وسيط لحلِّـها، انطلاقا من أن التوتر في مُـحيط تركيا، لا يخدِم الاستقرار ولا بالتالي المصالِـح التركية. ولقد نجحت تركيا (بالتعاون مع البرازيل) في تسجيل أكبر إنجاز لها على الساحتيْـن، الاقليمية والدولية، من خلال إقناع إيران بالتوصّـل إلى اتِّـفاق حول برنامجها النووي وتوقيع ما عُـرف بـ “إعلان طهران” في 17 مايو 2010، الذي يقضي بتبادُل تخصيب اليورانيوم على الأراضي التركية.
تجاوز الإنجاز التركي كل التوقُّـعات وبدَت تركيا بلدا “عالميا” تنْـجُـز ما لم تستطِـع القِـوى العظمى إنجازه، فكان إعلان طهران، بداية لمرحلة جديدة تحمِـل الكثير من الدّلالات والدّروس للإستراتيجية التركية المُـتَّـبعة منذ عام 2002.
حمل إعلان طهران في داخله، بداية الهجوم المُـضاد من جانب القِـوى الغربية والدولية الأخرى وإسرائيل. ورفض الغرب مباشرة إعلان طهران، واعتبرته إسرائيل مجرّد “خِـدعة”، وجاءت حملة قافلة أسطول الحرية، ذريعة ذهبية لتوجيه رسالة مغمسة بدِماء 9 أتراك في 31 مايو، من جانب القوات الإسرائيلية المدعومة بتغطِـية دبلوماسية كبيرة من الولايات المتحدة وروسيا والصين، الذين مرّروا قَـرارا بفرْض عقوبات جديدة على إيران، هي أيضا عقوبات على دوْر تركيا في إعلان طهران.
حادثة أسطول الحرية، كانت محطة فاصلة بين مرحلتيْـن. فالخطوات التركية بعدها، لم تكُـن بحجم الهجوم الإسرائيلي، حيث قتل مواطنون مدنيون أتراك للمرة الأولى في هجوم في المياه الدولية على يَـد جنود دولة أجنبية.
كان واضحا أن تركيا قد فهمت رسالة أسطول الحرية، فامتنَـعت عن التّـصعيد مع إسرائيل وكثَّـفت اتصالاتها بالولايات المتحدة، بل إن حركتها الشرق أوسطية، ولاسيما على صعيد القضية الفلسطينية، قد شهِـدت بعض التراجع، وإن بقي الخطاب الأيديولوجي التركي مُـرتفعَ النَّـبرة، لأسباب داخلية وإقليمية.
ومن خلال الحركة الدبلوماسية التركية، بدا واضحا أن قيادة حزب العدالة والتنمية ترى جيِّـدا أن الدور التركي في الشرق الأوسط، لا يُـمكن أن يُـحقِّـق المزيد من الإنجازات في ظِـلّ استمرار التوتُّـر مع إسرائيل وازديادة حِـدةّ الخطاب التركي تُـجاه إسرائيل، وأن عودة علاقات طبيعية مع إسرائيل، ضرورية لاستِـمرار “وسطية الدّور” و”الدور الوسيط”، سواء فيما يتّـصل بالقضية الفلسطينية أو بالمفاوضات بين سوريا وإسرائيل أو بالمفاوضات بين إيران والغرب. لذلك، تعدّدت مبادرات “حُـسن النية” التركية تُـجاه إسرائيل، من دون تلبية إسرائيل لأي شرطٍ تركي لحلّ المشكلة بينهما، من اجتماعيْـن رسمييْـن إلى مشاركة طائرات تركية إخماد حرائق في شمال إسرائيل بأمر مباشر من اردوغان.
الإدراك التركي للرسالة الأمريكية والرغبة في الحِـفاظ على العلاقات مع الولايات المتحدة والغرب وإسرائيل، تُـرْجِــم أيضا في مُـوافقة أنقرة على نشْـر الدِّرع الصاروخي على الأراضي التركية وما يحمله من مخاطِـر على الأمن القومي الإيراني، على الرغم من كلّ التعديلات التركية التي طالَـت المشروع الأصلي للدِّرع.
“الدور الوسيط”
على الرغم من كل الظروف المعقَّـدة التي تحيط به، يُـواصل الدّور التركي حضوره في مُـحيطاته الإقليمية، فيُـعزِّز العلاقات مع اليونان ومع روسيا ومع إيران، ويدفع سوريا ولبنان والأردن إلى اتحاد جُـمركي مع تركيا. ومع أن التقدّم على المسار الأوروبي، لم يشهَـد قفزات كبيرة، مثل التي شهدها عامي 2003 و1994، إلا أن المسار الأوروبي لا يزال يتقدّم، وإن بخُـطوات بطيئة، وهو مِـلفّ لا يُـمكن لتركيا، ولاسيما لحزب العدالة والتنمية، التخلِّـي عنه، بل يشكِّـل ضرورة لاستِـكمال الإصلاح في الداخل، حيث لا يزال التغيير يحتاج إلى الرافعة الخارجية الأوروبية، وعلى هذا، يُـفترَض أن يعود الزّخم إلى ملف المفاوضات التركية – الأوروبية بعد إنجاز إعداد وإقرار دستور جديد بعد الانتخابات النيابية المقبلة.
توجه الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد ووزير خارجيته الجديد على اكبر صالحي يوم الخميس 23 ديسمبر 2010 الى اسطنبول للمشاركة في قمة اقتصادية اقليمية في الوقت الذي يزداد فيه التقارب بين طهران وانقرة منذ سنوات على الصعيد الاقتصادي وكذلك السياسي حيث اصبحت تركيا حليفا له ثقله للايرانيين في مفاوضاتهم النووية الحساسة.
وجاءت هذه الزيارة في الوقت الذي تستعد فيه تركيا، التي تقوم بدور الوسيط بين طهران والغرب في خلافهما بشان الملف النووي، لان تستضيف في نهاية شهر يناير المقبل المباحثات بين ايران ومجموعة 5+1 (الولايات المتحدة، فرنسا، بريطانيا، روسيا، الصين والمانيا) بعد استئناف المفاوضات النووية في جنيف مطلع كانون الاول/ديسمبر الحالي.
وقال صالحي ان “تركيا دولة قوية لديها وضع استراتيجي ونقاط التقاء ايديولوجية وثقافية مع ايران”، مشيرا الى ان تعزيز العلاقات مع تركيا من “الاولويات”.
وبعد ان كانت لفترة طويلة حليفا استراتيجيا بل وعسكريا لاسرائيل في المنطقة سعت تركيا للتقارب مع الدول العربية وايران، وخاصة بعد الهجوم الاسرائيلي على قطاع غزة في ديسمبر 2008 ثم هجوم البحرية الاسرائيلية على “اسطول الحرية” الذي كان يريد كسر حصار غزة وقتل خلاله تسعة اتراك الامر الذي اثار نقمة تركيا على اسرائيل.
ومن علامات هذا التغيير حذف ايران من قائمة الدول التي تشكل تهديدا لتركيا، وفقا للوثيقة التي تحدد الامن القومي للبلاد. كما صوتت انقرة في 9 يونيو 2010 ضد قرار مجلس الامن الذي شدد العقوبات الاقتصادية الدولية على ايران.
وكانت قبل ذلك بقليل قدمت مع البرازيل وايران عرضا بتبادل الوقود النووي بين طهران والقوى العظمى من اجل تسهيل التوصل الى تسوية بشان الملف النووي الايراني الا انه لقي رفضا من جانب القوى العظمى.
كذلك ترافق التقارب بين تركيا وايران، اللتين يزيد عدد سكانهما معا عن 150 مليون نسمة، مع تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية التي بلغ حجمها عشرة مليارات دولار وفقا للارقام الرسمية والتي يريد البلدان ايصالها الى 30 مليار دولار بين 2013 و2015.
وفي شهر سبتمبر الماضي دعا رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان الى “تقارب اقتصادي مع ايران” وخاصة مع توقيع اتفاق تفضيل تجاري رغم الضغوط الغربية.
واستنادا الى الصحف الايرانية فان طهران تريد ايضا تعزيز علاقاتها التجارية مع تركيا لخفض حصة دولة الامارات العربية في تجارتها الخارجية بعد القيود المصرفية التي فرضتها عليها ابوظبي بموجب العقوبات الاقتصادية الدولية.
وفي يونيو الماضي وقعت ايران، التي تصدر ما بين 15 الى 18 مليون متر مكعب من الغاز يوميا الى تركيا، عقدا بقيمة مليار يورو مع شركة تركيا لبناء خط انابيب غاز بطول 660 كلم سيتيح لها خلال ثلاث سنوات ان تصدر يوميا 60 مليون متر مكعب الى تركيا واوروبا.
واخيرا وفي لفتة ذات مغزى كبير شارك اردوغان، الذي يرأس حكومة محافظة منبثقة من التيار الاسلامي، يوم الخميس 23 ديسمبر في اسطنبول في مراسم احياء ذكرى عاشوراء الشيعية في حضور علي اكبر ولايتي المستشار الرئيسي للمرشد الاعلى للجمهورية الايرانية آية الله علي خامنئي للشؤون الدولية.
وكانت هذه المشاركة سابقة من نوعها في هذه الدولة السنية تحدثت عنها وسائل الاعلام الايرانية باستفاضة.
وتوجد في تركيا اقلية علوية شيعية تمثل اقل من 20% من سكانها السنة في غالبيتهم وفقا للتقديرات.
(المصدر: وكالة الصحافة الفرنسية أ ف ب بتاريخ 22 ديسمبر 2010)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.