تركيا.. من حماية الجمهورية إلى حماية الديمقراطية
لا مراء في أن ما تشهده تركيا منذ أكثر من شهر، يُـعتبر استثنائيا وغير مَـسبوق في العلاقة بين المؤسسة العسكرية والسلطة السياسية والمدنية منذ قيام الجمهورية في عام 1924.
وقد استفاد حزب العدالة والتنمية الحاكم من “هفوة” أو “زلة لسان” زعيم حزب الشعب الجمهوري، العِـلماني المعارض دينيز بايكال، عندما قال إنه مع تعزيز الديمقراطية من أجل محاكمة انقلابِـيي 12 سبتمبر 1982 وأنه مُـستعد لإزالة العَـقبات القانونية أمام ذلك.
التقطت الحكومة الفرصة ودَعت المُـعارضة إلى تأكيد نواياها بالمُـوافقة على مشروع تعديل قانون المحاكم المدنية في اتِّـجاه يُـتيح محاكمة العسكريين أمام محاكِـم مدنية في التّـهم التي ليست لها صِـفة عسكرية صرفة.
ودخل حزب الشعب الجمهوري اللّـعبة بغَـفلة من الزمن وأيّد مع سائر أحزاب المعارضة التّـعديل الذي حصل في ليلة 25-26 يونيو الماضي، وسُـمي بتعديل منتصف اللّـيل، في تلميح إلى أنه تمّ تهريبا بعدَما غادَر مُـمثِّـلو وزارة الدِّفاع، الجلسة.
تعديل قانون المحاكم المدنية
تعديل قانون المحاكم المدنية هدف إلى أمرين: الأول، منع محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية في زمن السِّـلم، والثاني، محاكمة العسكريين أمام المحاكم المدنية في زمن السِّـلم في تُـهم ليست ذات صفة عسكرية صرف وتتّـصل بتُـهم تهديد أمن الدولة أو التآمر للإطاحة بالحكومة أو تهديد رئيس الجمهورية أو التجسس أو إعطاء وثائق الدولة إلى جهات غير معنية، وما إلى ذلك.
لقد مسّ حزب العدالة والتنمية بهذا التّـعديل، أحد محرّمات الجيش، لذا، استشاط رئيس الأركان الجنرال ايلكير باشبوغ غضبا وسارع إلى عقد مؤتمر صحفي، عارض فيه التّـعديل وأبلغ رئيس الجمهورية عبدالله غُـل، أن القانون الجديد يشرع الجيش أمام رياح التدخل السياسي، بعدما كانت الشكوى من أن الجيش هو الذي يتدخّـل في السياسة، كما أن القانون يُـثير اضطرابات تنظيمية داخل الجيش ويؤثِّـر سلْـبا على مهامه العسكرية.
ألقِـيت الكرة في ملعَـب رئيس الجمهورية، الذي كان أمام عدّة خيارات، منها ردّ القانون كلية أو جزئيا او الموافقة عليه. وراهن كثر، على الأقل، على ردّ القانون جزئيا، لكن المفاجأة أن غُـل أظهر تصميما كاملا على الانتصار للديمقراطية وعلى تعزيز الحريات، بالموافقة على القانون مع توصِـية بإجراء تشريع قانوني يلحظ هواجِـس العسكر ويبدِّد قلقهم.
موقف تاريخي
موقف غُـل كان تاريخيا بنظر المراقبين لأنه كان مبدئِـيا، ومِـن ثمّ تعالج الثغرات لاحقا. المبدأ، هو الحريات، والتتمة هي ردْم الثّـغرات. وما كان قائما في السابق، هو تقييد الحريات ومِـن ثمّ البحث في كيفية توسيعها، لذلك اعتُبرت سابقة شجاعة من جانب عبدالله غُـل.
الحكومة وقفت بكاملها إلى جانب القانون الذي اقترحته، وقد ساهمت عدّة عوامل في دفعها لتحيّن الفرصة للدّفع بالتعديل المذكور.
أولا، وصلت فضائِـح تدخل الجيش في السياسة وبطريقة غير مشروعة إلى ذِروتها: اكتشاف منظمة ارغينيكون والكشف عن مخططاتها الإرهابية ضد الحكومة، كان مُـذهلا ولاسيما لجهة تورّط جنرالات كبار، ولو متقاعدين، في المنظمة.
وقبل حوالي شهر، اكتُشفت وثيقة أعدت في رئاسة الأركان (نشرتها صحيفة “طرف”)، تتضمّـن خطةً لضرب حزب العدالة والتنمية والحكومة وجماعة فتح الله غولين الدينية. والضابط السامي المتّـهم بتوقيع الوثيقة، لا يزال في موقعه.
الصورة السلبية للجيش، في عين الرأي العام، كانت فرصة ليضرب حزب العدالة والتنمية ضربته وقد نجح في ذلك أيما نجاح. وقد ساعده على ذلك، أن مثل هذا التعديل هو من شروط الإتحاد الاوروبي وينسجم مع قرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وبالتالي، لا يمكن القول أن الحكومة تريد الإنتقام من العسكر مثلما يزعم مؤيدو الجيش.
كذلك، يبدو العسكر بعد فضائح الوثيقة وارغينيكون، في موقع دفاعي يلجمه من أن يفكِّـر بالقيام بانقلاب عسكري أو التهديد به، فضلا عن أن عهد الانقلابات بفَـم العسكر نفسه “قد ولّى” لأسباب دولية وارتفاع الوعْـي لدى الرأي العام التركي، فضلا عن وقوف غالبية الأتراك وراء تعزيز الحريات وترسيخ الديمقراطية.
العسكر في موقف حرج
تبدو المؤسسة العسكرية في وضع حرج، إذ لم تبطل المحكمة الدستورية القانون، بناء على الطّـعن الذي قدّمه حزب الشعب الجمهوري، فإن النقاش سينحصر في مسألة حِـماية كبار الجنرالات من المُـحاكمة أمام المحاكم المدنية، وهو ما قصده غُـل من التوصية بإصدار ملحق تشريعي، قد يتضمّـن محاكمة القادة الكِـبار للقوات المسلحة أمام هيئة قضائية عُـليا، مثل الديوان العالي أو اشتراط أخذ إذن من رئاسة الأركان وما إلى ذلك.
ومهما يكن، فإن التعديل القانوني أظهر شجاعة ليست غريبة على قادة العدالة والتنمية، تستحِـق الثّـناء من جانب كل دُعاة الحرية والديمقراطية بمعزلٍ عمّـا إذا كان ذلك من ضِـمن شروط الاتحاد الأوروبي أم لا.
لقد كبّل الجيش الطبقة السياسية بقيود تضمَـن هيمنته على القرار السياسي، ومن أهم ذلك المادة 35 من قانون المهام الداخلية للجيش، التي تقول إن من وظائف الجيش “حماية وصِـيانة الجمهورية والعِـلمانية إذا تعرّضت للتهديد”، وهو ما كان يعتبِـره الجيش إجازة له قانونية للتدخّـل والقيام بانقلاباته.
المشكلة الأساسية، أن الجيش كان يظهر في مقدمة المشهد السياسي في تركيا، مؤتمرات صحفية دورية وصلت منذ أكثر من سنة، لأن تكون أسبوعية وانقلابات وإعداد دساتير بكاملها وتهديدات وانذارات وتعليقات سياسية على معظم الأحداث.. وهكذا، وإذا أضفنا ما تمنحه له القوانين والدستور من صلاحيات، لأمكَـن القول عن حق أن تركيا بلد يقع، كما هو شائع، تحت نظام الوصاية العسكرية.
خطوة أولى
يقول الكاتب التركي العِـلماني المعروف حسن جمال، توجد في تركيا مشكلات كبيرة وكثيرة، مثل المسألة العلوية والمسألة الكردية والصِّـراع العلماني -الإسلامي والإنماء غير المُـتوازن والمسألة الأرمينية والقضية القبرصية، لكن الحقيقة، أن كل هذه القضايا ليست إلا وجوه لقضية واحدة، هي الديمقراطية.
ويضيف: بل يُـمكن اختصار كل هذه المشكلات بقضية واحدة: المسألة العسكرية، حيث لم يستطع العسكر الالتزام بالنظام التعدّدي الحزبي وعمل على “عسكرة” السلطة السياسية. وردّا على مقولة العسكر بحماية وصيانة الجمهورية، يدعو حسن جمال منظمات المجتمع المدني إلى حماية وصيانة الديمقراطية.
ومن جهته يذهب الكاتب البارز علي بيرم اوغلو إلى أن “قانون المحاكم المدنية خُـطوة على طريق كسْـر الوصاية العسكرية”.
لقد أنجزت تركيا في عهد حزب العدالة والتنمية الكثير من الإنجازات غير المسبوقة على صعيد الإصلاح الداخلي، كما على صعيد الدور الخارجي. ويبدو أن حزب العدالة والتنمية عاد ليُـدرك (بعد خيبة الإنتخابات البلدية الأخيرة) أن استئناف الإصلاح، بعد جمود سنتين على الأقل، هو الأسلوب الوحيد الذي يحمي الإنجازات ويؤسِّـس لغيرها التي تنتظره وتنتظر تركيا، وهي كثيرة. فثمانون عاما من الوصاية العسكرية تحتاج إلى جُـهد استثنائي لكسرها، ولتكون تركيا بلدا ديمقراطيا مثل الديمقراطيات الغربية، سواء في ظل الاتحاد الأوروبي أو خارجه.
محمد نور الدين – بيروت – swissinfo.ch
انقرة (ا ف ب) – قال بولنت ارينغ، نائب رئيس الوزراء يوم الخميس 9 يوليو، إن الحكومة التركية ستتخذ خطوات قانونية لتبديد مخاوف الجيش بشان قانون يسمح بمحاكمة عسكريين أمام محاكم مدنية.
وقال ارينغ انه “اذا كانت هناك ضرورة لترتيب اضافي، فان الحكومة ستضمنه في اجندتها وترسله الى البرلمان”، عندما يعود البرلمان من اجازته الصيفية في الأول من شهر اكتوبر القادم.
ووافق غُـل على القانون – الذي عارضه الجيش والمعارضة – يوم الاربعاء 8 يوليو، إلا انه دعا حزب العدالة والتنمية الحاكم، الذي له جذور اسلامية، للتحرك بسرعة لتوضيح نطاق القانون وتبديد قلق العسكريين.
ويتيح القانون للمحاكم المدنية ان تحاكم عسكريين في وقت السلم بتهمة محاولة الاطاحة بالحكومة والمساس بالامن القومي وارتكاب جريمة منظمة او انتهاك الدستور.
كذلك، يمنح القانون المحاكم المدنية صلاحية محاكمة مدنيين في زمن السلم بتهم تندرج حاليا في قانون العقوبات العسكرية.
ونقلت صحيفة ميليات الاربعاء، ان الجيش يعتبر ان القانون يخالف الدستور ومبدأ عدم امكانية انتهاك المناطق العسكرية، معتبرة ان هذا القانون سيكون موضع جدل بين المدعين المدنيين والعسكريين.
(المصدر: الوكالة الفرنسية للأنباء بتاريخ 9 يوليو 2009)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.