ثورات شعبية.. ولكن في بلدان الخليج هذه المرة
في عِـلم الثورات، هناك عامِـلان أساسيان وراء ثورة أي شعب. الأول، التهميش السياسي. والثاني، الحِـرمان الاقتصادي. وفي بلادنا العربية، يمكن أن نُـضيف أيضا عامليْـن آخريْن: أولهما، البحث عن الكرامة الإنسانية. والثاني، النفاذية أو لنقُـل سَـريان التأثير عبْـر الحدود بين المجتمعات العربية وبعضها البعض، سواء بفعل الأخُـوّة العربية أو بفضيلة التعلم والتقاط الخِـبرات، وكلاهما أصبح مباحا وبِـلا قيود، بفعل الإتصالات الحديثة أو الفضائيات وما تقدِّمه لحظة بلحظة من أحداث وتطوّرات في الشرق أو في الغرب.
الأسباب الأربعة تفسّـر كثيرا ما جرى وما زال يجري في عدد من بلدان الخليج العربية، كالبحرين والكويت والسعودية وعُـمان. فبالرغم من وفرة الأموال لدى بلديْـن بحجم السعودية والكويت، فإن الدعوة إلى التحوّل إلى مَـلكية دستورية، كما في السعودية والبحرين، أو تغيير آلية تشكيل الحكومة، بحيث تضم أُنَـاسا منتخَـبين وتقليل هيمنة أسْـرة الصُّـباح الحاكمة بالكويت، تصبّـان في أولوية القضاء على التهميش السياسي وإفساح المجال لمشاركة المواطنين في عملية صُـنع القرار والحُـكم، وبالتالي، تأكيد مفهوم المواطنة والمساواة.
فالمسألة لم تعُـد مجرّد وفْـرة الأموال أو سياسات الإحتواء للطبقة الوسطى تحديدا، ولكنها البحث عن دور تحت مِـظلة المواطنة وتكافُـؤ الفُـرص وعُـبور بوابات الفساد وهدْر الموارد، إلى عالم أكثر رشادة في التعامل مع الموارد التي تخصّ كل المواطنين، دون استثناء، وتحقيق أفضل للعدالة الاجتماعية.
احتواء اقتصادى ولكن!
لقد سعت بُـلدان الخليج إلى احتواء بُـؤر الاحتجاجات التي تشكلت نذرها بعد نجاح ثورتَـيْ تونس ومصر الشعبيتيْـن والمُـلهمتيْـن. فالكويت أقرّت صرف بدْل غلاء لكل العاملين ووفّـرت مِـنَـحا مالية كبيرة. وفي السعودية، قدّم الملك بمناسبة عوْدته للديار، بعدَ رحلة علاج طويلة نِـسبيا، مِـنحا ومشروعات وزيادة في الرواتب بقيمة 37 مليار دولار، لعلها تحتوي مطالب السعوديين، التي ترنو إلى حُـكم رشيد يُـواجه مصادِر الفَـساد المالي والإداري، وهدْر الموارد الهائلة النّـاتجة عن النفط لسنوات طويلة، وترْنو أيضا إلى انتخابات لمجلس شورى ذي صلاحيات تشمَـل الرقابة على الجهات التنفيذية ومسارات الصَّـرف المختلفة.
ومع ذلك، فقد بقيت المطالب على حالها. فالإحتواء الاقتصادي قد ينفَـع بعض الوقت، ولكنه لا يُـفيد طِـوال الوقت. وقد بدا ذلك واضحا في الحديث المتكرّر لعددٍ من الناشطين حول ضرورة التحوّل إلى مَـلكية دستورية، وتخفيف قبضة الأسْـرة السعودية الحاكِـمة على مفاصل الدولة. ويُـذكر هنا أن إحدى المجموعات السعودية على شبكة الإنترنت، دعت إلى مَـلكية دستورية في السعودية وأيّـدها 17 ألف سعودي في غضون أقلّ من أسبوع، والعدد في ازدياد مستمر.
المطلب ذاته، أي المَـلكية الدستورية، رفعه قسم من المتظاهرين في البحرين، الذين يروْن أن الوقت قد حان لإعادة هيكلة شامِـلة لنظام الحُـكم في البحرين، على نحْـوٍ يُـتيح فرصة المشاركة في الحُـكم لكل أبناء البلاد، بغَـضِّ النظر عن المذهب أو الطائفة الدِّينية، مع دعْـوة إلى تخفيف قبْـضة أسْـرة حَـمَـد الحاكمة منذ أكثر من 250 عاما.
رغبات التغيير الكلي والجزئي
مطلب المَـلكية الدستورية، وإن لم يكن غالِـبا في مطالب المتظاهرين البحرينيِّـين، فقد عكَـس رغبةً عارِمة للتغيير الكُـلِّـي، جنْـبا إلى جنب مع مطالب التغيير الجزئي، من قبيل إسقاط الحكومة وتغيير نظام الانتخاب للبرلمان وإفساح المجال أمام تكوين أحزاب وفُـرص أفضل للغالبية الشيعية، للمشاركة في الحُـكم عبْـر آليات ديمقراطية وانتخابات نزيهة، فضلا عن تغيير الدستور بآخر أكثر ليبرالية.
عُـمان، المعروفة بهدوء شعبها، شهِـدت بدورها احتجاجات شعبية ومطالِـب محدَّدة، تضمَّـنت تغيير الوجوه المُـعتادة في الحكومة وتقليل قبضة الأمن على الحياة العامة وتوفير فُـرص عمل للشباب وإتاحة المجال أمام انتخابات حرّة، تفرز أجيالا جديدة من قادة العامِـل السياسي والتقني.
وجريا على أسلوب الاحتواء الاقتصادي، قرر سلطان عُـمان توفير 50 ألف فرصة عمل للشباب في الدوائر الحكومية المختلفة، كما قرّر لاحقا تغيير عددٍ كبيرٍ من الوُجوه المُـعتادة في الحكومة، والذين رفضهم الشارع العُـماني لأسباب تتعلّـق بالفساد والهيْـمنة الأمنية.
الإصلاح السياسي ضرورة
وهكذا، تعدّدت عمليات الاحتواء الاقتصادي، ولكنها لم تكُـن كافية بنظَـر المتظاهرين، لكي يوقِـفوا الاحتجاجات، كما هو الحال في البحرين وعُـمان، فما زال هناك الكثير المتعلِّـق بإصلاحات سياسية شامِـلة والمطلوب معالجته.
وإذا كان تغيير السلطان قابوس لعددٍ كبير من الوزراء استهدف تلبِـية جُـزء كبير من مطالب الشباب العماني، فما زال المطلَـب قائما بإحداث إصلاح سياسي يُـتيح فرصة المشاركة الفعّـالة في بناء الوطن الديمقراطي.
ولعلّ البحرين تقدِّم نموذجا مختلفا، حيث دعوة الملك لولي عهده لإجراء حِـوار شامل، للتوصّـل إلى صيغة مُـناسبة للإصلاحات المطلوبة. ولكن الدّعوة تصطدِم بعقَـبات، منها تعدّد الجمعيات التي تمثل قطاعات من البحرانيِّـين، واختلافها حول ضمانات الحوار وجدوله، وهل يتِـم قبل تغيير الحكومة القائمة أم بعْـد إعادة تشكيلها وبما يرضي تطلعات المتظاهرين. لكن آلية الحوار ذاته، ما زالت مطروحة باعتبارها الآلية الوحيدة المتاحة، وبجوارها حقّ مكتسب جديد، يتمثل في الاعتصام الحُـر دُون مُـضايقة أمنية في مكان عام، تعبيرا عن عدم وفاء الحكومة بوعُـودها كاملة وممارسة للضغط الشعبي عليها، حتى لا تفقد زخَـم الرغبة في الإصلاح السياسي.
وتُـستثْـنى هُـنا المملكة العربية السعودية من تفاصيل الإحتجاج والتظاهر، التي عرفتها دول الخليج الثلاثة. فالأسْـرة الحاكمة لديْـها تُـراث تاريخي في منع الاحتجاجات الجماعية، سواء في الأيام العادية أو في موسم الحجّ، إذ ينظر إليها كفِـعل غيْـر شرعي مُـحرَّم تماما، لأن فيه خروج على الحاكِـم المسلم وقد يفتح باباً للفِـتن.
وإلى جانب التحريم، هناك الفعل الأمني الصَّـارم، والذي تمثل في إعلان بيان يُـقِـر بمنع أي تظاهُـرة ويؤكِّـد مسؤولية أجهزة الأمن في اتخاذ الإجراءات اللاّزمة لمنعها، ولَـو بالقوّة.
شبكات الإنترنت .. قوّة دفع للتغيير
منْـع الاحتجاجات، سواء لسبب شرعي أو بفعل التلويح بفعل أمنى صارم، لا يمنع من تبادُل الرسائل النصيَّـة بيْـن السعوديين، ولا يحُـول دون استخدام مواقِـع التواصل الإجتماعية، لاسيما “الفيس بوك” و”تويتر”، وكِـلاهما مواقع للنشطاء والمطالبين بالإصلاح السياسي الشامل.
والمعنى هنا، أن التطوّر التكنولوجي في وسائل الاتِّـصال، كفيلة بأن تؤسّـس لحركة احتجاج عابِـرة للقرى والمُـدن السعودية. فهذا هو الدّرس الأبرز في حالتيْ تونس ومصر، حيث شكّـل نشطاء الإنترنت الوَقُـود الحقيقي للثورة، سواء بتشكيل المجموعات وتبادُل المعلومات والتعارف ووضع الخُـطط التنفيذية وصياغة بيانات ومطالب الثَّـورة وشِـعاراتها المُـختلفة وجذْب الأنصار.
وما دامت تِـقنيات الاتِّـصال تعرف الوصول للأفراد، أيا كانت العقبات التي تضعها الحكومات والتي أثبتت فشَـلها الذّريع، سيظلّ هناك احتمال كبير في تكرار نفس المشاهِـد والمسارات التي عرفتها ثورتَـا تونس ومصر، سواء في السعودية أو في أي بلد خليجي آخر، ما دامت عملِـيات الإصلاح جامِـدة بلا حِـراك.
لقد أكَّـدت أحداث السنوات العشر الماضية، أن حدوث ثورة شعبية في بلد ما يعني أنه لابُـد للشعوب الأخرى، لاسيما المجاورة، أن تلتقِـط العدوى وأن تتطلّـع إلى القيام بنفس الدّور، خاصة إذا ما نجحت الثورة في تحقيق طموحاتها بتضحيات بشرية معقولة، كما حدث في تونس ومصر، ذلك أن فضيلة التعلّـم لم تعُـد حِـكرا على النخب الحاكمة وما حوْلها من نُـخب تكنوقراطية، تستجيب للأوامر أيا كانت.
فالأجيال الشابّـة الصاعِـدة في بلدان الخليج العربية، كما في غيرها، بات لها عالمها الافتراضي الحُـر وتعمل بكل بساطة على أن تحوِّل الحرية من المجال الافتراضي إلى المجال الواقعي، ولم تعُـد تُـخيفها أجهزة الأمن أو المباحِـث أو الترويع والتّـهديد، وهي كلها قد سقَـطت في كلٍّ من مصر وتونس سقوطا مُـدوِّيا وفاضحا، وهو ما يحفِّـز على اتِّـباع نموذج الثورة نفسه، وصولا إلى لحظة حرية غيْـر مسبوقة.
ولذا، لا يبقى أمام النُّـخب الحاكِـمة والحكومات سوى الإقدام على الإصلاح السياسي المنهجي والمنظَّـم، دون مُـناورة أو التِـفاف أو احتواء لحظي لن يُـفيد كثيرا. فالتَّـغيير سُـنَّـة الحياة ولم يظهَـر بعدُ مَـن يستطيع أن يُـوقف عجلة دوَران التاريخ.
دبي (رويترز) – قد تكون البحريْـن صغيرة الحجْـم والغير مؤثرة إلى حد كبير كمنتج للنفط، لكن وجود أكثر من عشرة مليارات دولار في صناديق استثمار في المملكة، يعني أن الكثير قد يكون معرَّضا للخطر، إذا خرجت الاحتجاجات المستلهمة ممّا حدث في مصر وتونس على نطاق السيطرة.
والبحرين، هي الدولة الخليجية التي يُـعتقد أنها الأكثر عُـرضة للاضطرابات بسبب الاستياء المتأصِّـل بين الأغلبية الشيعية من عائلة آل خليفة الحِـاكمة السُـنِّـية. ويشكو المحتجّـون من مصاعب اقتصادية والافتقار للحريات السياسية وتمييز في الوظائف لصالح السُـنّـة.
وكان ذلك يتعارض دائما مع وضْـع البحرين كمركز إقليمي للأنشطة المصرفية والتجارية والتمويل الإسلامي، لكن ميزاتها المتمثلة في تنوع الاقتصاد وتحرّر المجتمع نسبيا، كانت تفوق المخاطر.. حتى الآن.
وقال سفين ريشتر، رئيس الأسواق الناشئة الجديدة في “رنيسانس أسيت مانجمنت”: إذا كنْـتَ تريد أن تكرِّس نفسك لتُـصبح مركزا ماليا، يتعيَّـن عليك تحقيق الأمن والاستقرار قبل أي شيء”.
وحتى الآن، ليس هناك ما يُـشير إلى خروج أموال. لم تسجل سوق الأسهم تغيُّـرا يُـذكر هذا الأسبوع. وتقول الصناديق إنها ما زالت تنتظر لترى ما ستتكشّـف عنه الاحتجاجات، التي قتل فيها ثلاثة أشخاص يوم الخميس 17 فبراير، ليصبح مجموع القتلى منذ بدْء الاحتجاجات التي اندلعت يوم 14 فبراير، خمسة أشخاص.
وقال عبد الرحمن محمد الباكر، المدير التنفيذي لرقابة المؤسسات المالية في مصرف البحرين المركزي يوم الأربعاء 16 فبراير الماضي، إن الاحتجاجات لن تؤثر على الاقتصاد أو القطاع المالي. وتابع أن تلك الاحتجاجات تمثِّـل أسلوبا ديمقراطيا ولا علاقة لها بالقطاع المالي، مضيفا أن المستثمرين ليس لديهم أي مخاوف من ذلك الأمر. والأسواق مفتوحة والبنوك تعمَـل بشكل طبيعي في المملكة، التي يسكنها 1.3 مليون نسمة، نصفهم من الأجانب.
غير أن تكلفة تأمين ديُـون البحرين ارتفعت إلى أعلى مستوياتها منذ أغسطس 2009، إذ ارتفعت مُـبادلات الالتزام مقابِـل ضمان لأجَـل خمْـس سنوات بنسبة 13% في يومين إلى 275 نقطة أساس.
وفي السعودية، التي يربطها جِـسر بالبحرين، انخفض المؤشر الرئيسي للأسهم 1.2% يوم الأربعاء 16 فبراير.
وقال أكبر نقوي، وهو مدير صندوق يعمل مع الماسة كابيتال في دُبي، إنه قد يفكر في تحويل استثماراته بعيدا عن البحريْـن إذا زادت الاضطرابات وأضاف “إذا كانت هناك تداعيات لهذه الاحتجاجات، فإننا قد نتحرك… لكن حتى الآن من السابق لأوانه القول”.
ويمثل القطاع المالي نحو 25% من الناتج المحلي الإجمالي في البحرين، وهو قطاع مهِـم في توفير فُـرص العمل. وزادت أصول بنوك البحرين إلى أكثر من ثلاثة أمثالها في الفترة من 2002 إلى 2008 لتبلغ 252 مليار دولار، لكنها تراجعت منذ ذلك الحين إلى 217 مليار دولار حتى أكتوبر 2010.
والعامِـل الرئيسي سيكون معدّل التدفُّـقات الخارجية، إذا حدثت أي تدفقات. ونظرا لربط العُـملة بالدولار، يمكن بسرعة كبيرة استنفاد الاحتياطيات البحرينية بالعُـملة الأجنبية والذهب البالغة 3.77 مليار دولار.
واستقرار البحرين مهِـم للسعودية المجاوِرة، وهي مسانِـد رئيسي للأسْـرة الحاكمة في البحرين وتوجد فيها حقول نفط رئيسية في منطقة تقطنها أقلية شيعية. وتستضيف البحرين كذلك الأسطول الخامس الأمريكي.
ويشكو الشيعة من إهمال الحكومة لهُـم ومن التمييز منذ وقت طويل قبل أن تشجع الاحتجاجات في تونس ومصر النشطاء في المنطقة. وظهر هذا الاستياء في اضطرابات متفرِّقة منذ منتصف تسعينات القرن الماضي.
ونظرا لأن البحرين لا تملك الكثير من احتياطيات النفط الخاصة بها، فإنها لا تملك فوائض مالية كافية لدفعها لحلّ المشكلات الاجتماعية، لكنها قالت الأسبوع الماضي إنها ستنفِـق 417 مليون دولار إضافية على بنود اجتماعية، منها دعم المواد الغذائية.
ويريد المتظاهرون عزْل رئيس الوزراء الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة، الذي يحكم البلاد منذ انتهاء الحُـكم البريطاني لها عام 1971. وحتى الآن لم يطلب أحد تغييرا على مستوى القمّـة، أي لابن أخيه الملك حمَـد بن عيسى آل خليفة، الذي يملك السلطة المُـطلقة على البلاد.
وأعلن الملك الأسبوع الماضي أنه سيمنح كل أسْـرة ألف دينار (2650 دولارا). وأشارت الحكومة إلى أنها قد تطلق سراح القُـصَّـر الذين اعتقلوا في إطار حملة أمنية خلال العام الماضي قُـبيل الانتخابات البرلمانية.
وقال ريشتر من رنيسانس: “لا يبدو أن ذلك أفلح في تهدِئة الوضع”.
(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 17 فبراير 2011).
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.