جدل مغاربي يعكس العجز عن إنشاء بنك للاستثمار والتجارة الخارجية
ربما كانت الأزمة المالية العالمية الأخيرة ضرورية لكي تطفو على السطح مجددا الخلافات المغاربية التي ظلت مكتومة طيلة الفترة الماضية وتتبلور الرؤى المتباعدة في شأن مآلات الإندماج الإقليمي أو بالأحرى مستقبل التفكك المغاربي.
المناسبة عفوية، وهي ندوة أقيمت في الذكرى الخمسين لإنشاء البنك المركزي التونسي الذي احتفل منذ أيام بيوبيله الفضي، إلا أنها كانت أيضا إطارا لجدل علني نادر بين محافظي البنكين المركزيين، الجزائري والمغربي، محمد الأقصاصي وعبد اللطيف الجواهري.
“دور البنوك المركزية”
محور الندوة كان مُركّـزا على موضوع “دور البنوك المركزية في بناء المجموعات الإقليمية وإدارة الأزمات المالية”، والخُلاصة التي انتهت إليها الورقات المقدمة في أعمال الندوة، أظهرت العلاقة الوثيقة بين تشكيل التجمعات الإقليمية ومجابهة الأزمة المالية الراهنة والأزمات المماثلة التي قد تندلع في المستقبل. ومن هنا، أتى تشديد المتحدثين، إن كانوا عربا أم أوروبيين، على ضرورة الإسراع ببناء التكامل المغاربي، وهي فكرة ترددت بصيغ مختلفة في المداخلات والتعقيبات، مما حمل ممثلي البلدين الرئيسيين المعنيين، الجزائر والمغرب، على الإفصاح عما في قرارة حكومتيهما في شأن عوائق قيام تكتل اقتصادي مغاربي، وكشف بالتالي، مقدار الخلافات المغاربية – المغاربية على استراتيجية التكامل.
فقد اختلف المحافظون على إعادة الحياة لاتحاد المغرب العربي المعطل منذ سنة 1994 من أجل تحقيق اندماج الإقتصادات الإقليمية، إذ اعتبر محافظ البنك المركزي الجزائري محمد الأقصاصي أن التكامل بين الإقتصادات المغاربية مسار طويل ومعقد، بينما رأى الرئيس التونسي زين العابدين بن علي في خطاب قرأه نيابة عنه محافظ البنك المركزي توفيق بكار، أن الواقع الراهن يستوجب “التعجيل بالتكامل” لأن المبادلات التجارية البينية لا تتجاوز 2% من إجمالي مبادلات المنطقة. وحض القطاع الخاص على دفع الاستثمار وتعزيز دوره في التنمية الاقتصادية لدول المنطقة.
لكن محافظ البنك المركزي المغربي عبد اللطيف الجواهري فاجأ الجميع بالدعوة إلى إطلاق مسار التكامل الإقليمي ببلدين أو ثلاثة فقط، في انتظار نضوج الظروف لالتحاق الباقين بالمسار. واستعار الجواهري صورة بسيطة من خطط كرة القدم ليقول “إذا كان التقدم في قلب الملعب نحو المرمى مُتعذرا، لأن الفريق المقابل يُشكل كتلة متراصة. فالخيار البديل هو التحرك على الأجنحة لبلوغ الهدف نفسه، ولذا يمكن بناء الوحدة المغاربية بطرفين أو ثلاثة، مما سيُطلق مسارا يسحب الآخرين إلى بوتقته لاحقا”.
رؤى متباعدة.. ومسافة كبيرة
ويذكرنا هذا الخيار بأحد مبادئ سياسة الجوار الأوروبية القائمة على سرعات متفاوتة، والتي كان المغرب أول المستفيدين منها بعد منحه أخيرا منزلة “الشريك المُفضل”، ولم يُعط الجواهري الفرصة للآخرين للتعقيب على الرأي الذي أبداه، إذ غادر تونس إلى البقاع المقدسة لأداء فريضة الحج، لكن ذلك لم يمنع محافظ البنك المركزي الليبي، الذي يرأس بلده اتحاد المغرب العربي، من الرد علنا على نظيره، إذ اعتبر أنه “من الأفضل للمغرب أن يبدأ أولا بالوفاء بالتزاماته نحو البنك المغاربي للاستثمار والتجارة الخارجية”، مما كشف الغطاء عن أحد أسباب تأخير إنشاء البنك المؤجل منذ ثمان سنوات، وهو عزوف بعض الأعضاء عن دفع حصصهم المالية في رأس مال البنك.
وعلى رغم الانتقادات التي أبداها المسؤول الليبي لتعطيل قطار الإتحاد المغاربي منذ سنة 1994، أبدى ارتياحه لتجربة التعاون الثنائي بين تونس وليبيا، وبدا كما لو أنه يعطي مثالا تطبيقيا للنموذج الذي دعا له نظيره المغربي.
وعكس الاجتماع المسافة الكبيرة التي ما زالت تفصل بين البلدان المؤسسة للإتحاد، بسبب تباعد الرؤى في شأن مداخل تشكيل تجمع إقليمي، وإن كان الجميع يُظهر القناعة بضرورته الملحة في ظل الظروف الاقتصادية التي تعصف بالمنطقة والعالم.
وربما السؤال الذي يستحق التوقف عنده هو: هل قرّبت الأزمة المالية موعد الاندماج الإقليمي في المغرب العربي أم أخّـرته؟
المغاربيون على هامش التاريخ
من خلال القراءات التي استمع لها المشاركون لتجارب اندماج اقتصادي في مناطق أخرى من العالم، انكشف الاستثناء المغاربي. ففي عالم يحث الخطى نحو التقارب وتشبيك الإقتصادات المتجاورة، بقي المغاربيون خارج دورة التاريخ.
وتجلت تلك المنزلة الشاذة بشكل ضمني في مداخلتي نائب رئيس البنك الأوروبي للاستثمار فيليب دو فونتان فيف Philippe de Fontaine-Viveوحاكم البنك المركزي الفرنسي كريستيان نوايي Christian Noyer، اللذين أعطيا صورة دقيقة عن مسار التكامل الأوروبي ودور البنوك المركزي في دفعه، إذ أن الخيارات الاقتصادية كانت مرتبطة بمشروع سياسي ينشد التوحيد بوصفه الهدف البعيد من خلال إجراءات التشبيك النقدي والجمركي والتجاري، لكن نوايي أكّـد أن البنك المركزي الأوروبي استمد قوته من استقلاله الذي ضمن له المصداقية والبُـعد عن التأثيرات والنأي عن الضغوط السياسية.
أكثر من ذلك ظهر تدنّـي مستوى التعاون النقدي والاقتصادي المغاربي، لما قورن بالتجارب الإفريقية، إذ قدم حاكم المصرف المركزي لدول غرب إفريقيا، المعروف اختصارا بـ BCEAO، عرضا دقيقا عن ولادة تلك التجربة وسياقاتها المحلية والإقليمية لكي يكتشف الحضور أن تلك البلدان قطعت أشواطا مهمة في تكريس التكامل النقدي بينها، على نحو لا مجال لمقارنته بالجدران الشاهقة التي لا زالت تفصل البنوك المغاربية عن بعضها البعض.
حتى التجارب النقدية العربية التي لا تقل مفارقات عن المنطقة المغاربية، بحكم الدور الهامشي لصندوق النقد العربي، اتّـضح أن فيها بعض العلامات التي قد تصلح للنسج على منوالها مغاربيا. فقد أكد رئيس مجلس إدارة صندوق النقد العربي جاسم المناعي في الورقة التي قدمها للندوة استعداد الصندوق لدعم كل تجربة تكاملية في العالم العربي، مُستدِلا بالمؤازرة التي قدّمها لبلدان مجلس التعاون الخليجي، وهي رسالة غير مباشرة للبلدان المغاربية، مفادها أن “الكُرة في ملعبكم”، لكن محافظي البنوك المركزية المغاربية كانوا يتبادلون الهمز واللّـمز في مناسبة يُفترض أنها كانت فرصة للاحتفالات والمجاملات.
الأزمة المالية.. الغائب الحاضر
ثم أتى الدور على حاكم البنك المركزي المصري، فعزف لحنا مختلفا عن أقرانه، إذ أعاد طرح فكرة توسيع الإتحاد المغاربي إلى مصر وتغيير تسميته إلى “اتحاد شمال إفريقيا”، مشيرا إلى أنه “سيزن” في تلك الحالة مائة وأربعين مليون ساكن، أي ضعف الوزن الحالي للإتحاد، وسيكون كتلة منسجمة ومؤثرة، لكنه لم يُبين كيف يمكن لاتحاد مُفكّـك الأوصال ومُلقى في غرفة الإنعاش أن يستعيد عافيته ويُنهي خلافاته بإضافة عضو جديد إلى باقي أعضائه؟
وسألت سويس إنفو رئيس الوزراء الجزائري الأسبق سيد أحمد غزالي، الذي كان موجودا في تونس في الفترة نفسها، عن رأيه في المداخل المطروحة للوحدة المغاربية، فلاحظ أن الاقتصادي متقدم على السياسي في المسار المغاربي، وشدّد على أن المدخل الواقعي لتكريس التكامل بين بلدان المنطقة، لا يأتي إلا من خلال المؤسسة “فإذا ما توسعت المؤسسة المغاربية وصارت هناك شركات مغربية وجزائرية وتونسية وليبية تعمل في كامل المنطقة، ستتكثف المبادلات والعلاقات الاقتصادية ويتحقق الاندماج بين البلدان، وهذا أسلوب إيجابي لصُنع الإتحاد المغاربي”، كما قال.
لكن الصورة التي بقيت منطبعة في أذهان الذين استمعوا إلى الأوراق المختلفة المقدمة لندوة البنوك المركزية، تمحورت حول خط بياني يفصل المنطقة المغاربية عن باقي مناطق العالم، التي أبصرت تجارب اقتصادية إقليمية ناجحة، من بينها الإتحاد الأوروبي واتفاقية مجموعة جنوب شرق آسيا والسوق المشتركة في أمريكا اللاتينية “مركوسور” واتفاقية التجارة الخارجية لدول أمريكا الشمالية ومجلس التعاون الخليجي… على علاته.
ويمكن القول أن المحور الآخر من الندوة المتعلق بالتعاطي مع الأزمة المالية العالمية لم ينل حظه من البحث والمناقشة، لكن يجوز اختزال جديد الأصوات الجنوبية التي تطرقت للموضوع خلال الندوة في الدعوة إلى تكريس التنسيق بين الدول، لمجابهة الأزمات قبل حدوثها بمراجعة الأسس التي يقوم عليها النظام المالي العالمي، وإشراك البلدان النامية في عملية المراجعة.
وحثت غالبية محافظي البنوك المركزية الجنوبية، على مراجعة دور صندوق النقد الدولي في معالجة المسائل المالية والنقدية العالمية ومنحه صلاحيات شمولية تكون البلدان النامية طرفا فيها، والتزام جميع الدول، بما فيها البلدان المصنعة، بعمليات تقويم القطاع المالي التي يُنجزها البنك، لكن هل للبلدان الجنوبية القدرة على التأثير في القرار وحمل صندوق النقد الدولي على مراجعة آلياته فعلا في هذا الاتجاه؟
رشيد خشانة – تونس
التطور التدريجي وروزنامة إنشاء الاتحاد النقدي
بالنظر إلى التجربة التي مرّ بها الاتحاد الأوروبي فإن التطور التدريجي للتحول حتى إنشاء الاتحاد النقدي بصفة نهائية يمر بعدة مراحل مع أهداف مدققة.
المرحلة الأولى: حرية تنقل الأموال مع الأهداف التالية:
* بلوغ أكثر ما يمكن من التقارب لوضع مخططات تقارب مقبولة من قبل بلدان المنطقة،
* إنجاز سوق مشتركة بإزالة الحواجز التقنية والمادية والجبائية التي تعوق تنميتها،
* إزالة كل الحواجز لحرية تنقل الأموال.
يمكن أن تستغرق هذه المرحلة 3 أو 5 سنوات.
المرحلة الثانية: التحول ومطابقة السياسات النقدية وتصليح اختلال الميزانيات مع الأهداف التالية:
* تدعيم وتقوية التعاون بين المصارف المركزية، تنسيق السياسات النقدية والإستعداد لشروط إنشاء وبعث مصرف مركزي مشترك،
* ضمان استقلالية المصارف المركزية،
* تكييف وتنسيق التشريعات الوطنية والأنظمة الأساسية للمصارف المركزية،
* توفير الشروط المطلوبة لعوامل التقارب،
* تحديد التمويل الممتاز والإعانات للقطاع العام.
يمكن أن تستغرق هذه المرحلة ما بين 3 و 5 سنوات.
المرحلة الثالثة: الشروع في الاتحاد النقدي مع الأهداف التالية:
* تحديد نهائي ولا رجوع فيه لسعر الصرف،
* إدخال المصرف المركزي للمنطقة إلى حيز العمل،
* إعطاء السيادة في مجال السياسة الاقتصادية للمصرف المركزي للمنطقة،
* إدخال العملة الموحدة وانتهاء العمل بالعملات الوطنية.
تقدر مدة هذه المرحلة بثلاثة سنوات.
يكتمل التطور التدريجي نهائيا في مدة 10 سنوات.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.