جنيف الدولية: 90 عاما من “الإدارة الجماعية” لقضايا العالم وهمومه
تحتفل جنيف التي تؤوي اليوم 22 منظمة دولية وأكثر من 250 منظمة غير حكومية تنشط في مختلف المجالات، هذا العام بذكرى مرور 90 عاما على اختيارها كمقر لعُصبة الأمم.
ورغم المنافسة التي تجدها من مدن وعواصم أخرى، استمرت المدينة السويسرية المطلة على بحيرة ليمان في تعزيز مكانتها كمركز لمحافل “الإدارة الجماعية” لقضايا العالم، وهو الدور الذي “نحن في أشد الحاجة له اليوم”، حسب تعبير مفوض كانتون جنيف أوليفي كوتو.
وفي هذا العام، تحتفل المدينة الواقعة غرب سويسرا على الحدود مع فرنسا المجاورة بمرور 90 عاما على اتخاذ أول خطوة رسمية لبناء اللبنة الأولى فيما أصبح يُعرف الآن بجنيف الدولية من خلال قرار اختيارها كمقر لعُصبة الأمم في 28 أبريل 1919.
ولكن العودة لحقيقة ظهور النشاط الدولي في جنيف، كما يقول السيد اوليفي كوتو، مفوض كانتون جنيف المكلف بجنيف الدولية “يتطلب الرجوع الى معركة سولفيرينو (بإيطاليا) في يونيو 1859 وهي المعركة التي دفعت الى إقامة حركة الصليب الأحمر والتي أصبحت بمثابة أول أكبر منظمة دولية تطورت على تراب مدينة جنيف والتي ما زالت لحد اليوم معلما هاما في جنيف الدولية”.
عُصبة الأمم أو بداية “الإدارة الجماعية” للعالم
وتعود أهمية اختيار 28 أبريل 1919، للتأريخ لبداية ظهور “جنيف الدولية” لأنه اليوم الذي وقع الإختيار فيه على مدينة جنيف لتكون مقرا لعثصبة الأمم، وهي المنظمة الدولية التي سبقت منظمة الأمم المتحدة بعشريتين تقريبا. وإذا كان هذا التواجد لم يكن يتجاوز حوالي 200 موظف دولي في بداية الأمر، فإن العدد يفوق اليوم 25 ألف موظف.
ومن المنظمات التي رافقت استقرار عصبة الأمم في جنيف في عام 1919 مكتب العمل الدولي (أو منظمة العمل الدولية)، ثم اتحاد جمعيات الهلال والصليب الأحمر. ويؤكد أوليفي كوتو أن من العوامل التي ساعدت على تطوير جنيف الدولية في مرحلة البدايات “تدشين المطار الدولي في جنيف في عام 1922، وإنشاء معهد جنيف للدراسات الدولية العليا في عام 1927”.
وإذا كان المعلم المميز اليوم لجنيف الدولية هو قصر الأمم الذي يحتل إحدى أجمل ضفاف بحيرة ليمان، فإن تشييده يعود الى عام 1936 بعد أن أصبح قصر ويلسون، المقر السابق لعصبة الأمم، (الذي يحتضن اليوم مقر المفوضية السامية لحقوق الإنسان) غير قادر على استيعاب الأعداد المتزايدة من الدول الأعضاء.
وبتشييد مبنى قصر الأمم، رسخت جنيف مكانتها كمركز هام من مقرات اتخاذ القرارات الدولية فيما تبقى من حياة عُصبة الأمم، ثم كمقر للمكتب الأوروبي لمنظمة الأمم المتحدة التي خلفتها منذ عام 1945 وحتى يومنا هذا.
وبالعودة إلى النظرة التي كانت لدى مسؤولي تلك الحقبة بخصوص التطورات المحتملة لجنيف الدولية، يقول أوليفي كوتو، مفوض الحكومة المحلية لكانتون جنيف: “لقد كانت لديهم نظرة وعزيمة لتأسيس ما يمكن تسميته اليوم بالإدارة الجماعية لشؤون العالم. وكان الهدف الأول يتمثل في تحقيق السلم ولكن سرعان ما تم تطويره ليشمل باقي الدعائم الأخرى التي تقوم عليها منظمة الأمم المتحدة مثل التنمية وحقوق الإنسان وأخيرا حماية البيئة”.
الدعم الأمريكي لجنيف الدولية في الماضي والحاضر
اختيار جنيف كمقر لاحتضان عصبة الأمم كان بدفع من الرئيس الأمريكي آنذاك وودروو ويلسون الذي حدد برنامجا من 14 بندا لدعم السلم في العالم والذي كان من ضمنه مشروع تأسيس عُصبة الأمم. ولكن علاقة واشنطن بجنيف تعود في الأصل إلى عام 1872 عندما احتضنت المدينة السويسرية جلسة تحكيم في نزاع بين الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا أو ما عرف بتحكيم “آلاباما”. ولا زالت أجمل قاعة من قاعات قصر حكومة جنيف تحمل هذا الإسم حتى الآن.
ويرى أوليفي كوتو أن هذا الإختيار كان لعدة أسباب تشمل “الحياد السويسري والموقع الجغرافي ولأن جنيف ليست عاصمة سياسية لبلد من البلدان وهو ما يسمح بنوع من الحياد فيما يتعلق بالقضايا السياسية”.
وفي هذه الأيام، تعقد سلطات جنيف والسلطات الفدرالية السويسرية آمالا كبرى على عودة الولايات المتحدة إلى لعب الدور القيادي في إدارة الشؤون الدولية وذلك من خلال مشاركة فعالة في المحافل التي تسهر على هذه “الإدارة الجماعية” لشؤون العالم. وفي هذا الإطار أوضح أوليفي كوتو، مندوب جنيف الدولية أهمية جنيف بالنسبة للإدارات الأمريكية المتعاقبة وذكر باللقاءات التي احتضنتها المدينة سواء بين الرئيس الأمريكي رونالد ريغان ونظيره السوفياتي ميخائيل غورباتشوف بخصوص الصواريخ الباليستية، أو اللقاء الذي جرى بين الرئيس الأمريكي بيل كلينتون ونظيره السوري حافظ الأسد بخصوص موضوع الشرق الأوسط ومرتفعات الجولان.
وقد عادت الولايات المتحدة بقوة في عهد الرئيس الحالي باراك حسين أوباما الى استخدام جنيف كأرضية لتنشيط بعض الملفات مثل الحد من سباق التسلح بين القوتين العظميين من خلال لقاء لافروف مع هيلاري كلينتون قبل أسابيع أو الحديث الدائر عن رغبة الولايات المتحدة في عضوية نشطة في مجلس حقوق الإنسان خلافا للموقف السلبي الذي تمسكت به إدارة بوش السابقة.
جنيف.. المركز العالمي لحقوق الإنسان!
ومع أن الرئيس ويلسون لم تكن لديه نظرة شاملة بخصوص مستقبل جنيف الدولية لاحقا، إلا أن التوسع الذي شهدتها مختلف الأنشطة إثر تأسيس منظمة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، ثم إنشاء المفوضية السامية لشؤون اللاجئين وفيما بعد المفوضية السامية لحقوق الإنسان ومنظمة التجارة العالمية، فإن العامل الذي يعزز مكانة جنيف الدولية يتمثل في تحولها إلى مركز تتجمع فيه بكثافة خبرات متعددة ومترابطة تشمل السياسة وحقوق الإنسان والإقتصاد والتكنولوجيا والبيئة.
وبالرغم من احتضانها لهذه النشاطات المتعددة، يطغى على جنيف الدولية طابع العاصمة العالمية لحقوق الإنسان نظرا لتواجد مفوضية حقوق الإنسان واحتضانها للاجتماعات المتتالية والمثيرة للجدل حول شتى القضايا المرتبطة بحقوق الإنسان (عبر لجنة حقوق الإنسان سابقا، ومنذ عام 2006 من خلال نشاطات المجلس الجديد لحقوق الإنسان).
ولا ينكر أوليفي كوتو، مفوض كانتون جنيف هذه الواقع ويرى أنه “حتى ولو أن كل هذه الآليات لحقوق الإنسان تُواجه بانتقادات شتى فإنها هي التي تضع القوانين والأسس لمعايير حقوق الإنسان” ويضيف مشددا “إنها قامت بعمل جبار في هذا الميدان”، إلا أنه يُذكّـر بأن “جنيف هي عاصمة القانون الإنساني الدولي بالدرجة الأولى نظرا لأن نشاطات اللجنة الدولية (للصليب الأحمر) انطلقت منها”.
التزامات ومسؤوليات
في مقابل هذه الإستفادة من نشاطات المؤسسات المتواجدة في جنيف الدولية، تتحمل الحكومة المحلية لكانتون جنيف والحكومة الفدرالية مسؤولية يُلخصها أوليفي كوتو في “توفير ظروف إقامة هذه المنظمات الدولية وذلك عبر مؤسسة FIPOA التي تساعد المنظمات على إيجاد مبنى لمقرها، أو مساعدتها في بناء مقر جديد عبر استثمارات منخفضة التكاليف أو بدون فوائد تقدمها السلطات الفدرالية في حين تقدم سلطات كانتون جنيف الأراضي الضرورية لذلك”.
وهناك مسؤولية أخرى تتمثل في تأمين سلامة هذه المنظمات الدولية والعاملين فيها من خلال وحدة أمنية خاصة يُطلق عليها إسم “وحدة الأمن الدولي”.
ونظرا لأن جنيف مدينة باهظة التكاليف، انتهجت السلطات المحلية منذ فترة أسلوب عمل يقضي بمساعدة الدول الأقل نموا التي ترغب في إقامة ممثلية لها في جنيف. كما أنشأت مصلحة تسهر على استقبال المنظمات غير الحكومية وتوجيهها ضمن مركز الإستقبال الدولي. كما تقوم منظمة “ماندا إنترنسيونال” بتأمين استقبال ممثلي المنظمات غير الحكومية المشاركين في الإجتماعات الدولية وتوفير وسائل إقامة لهم بأسعار معقولة.
ضرورة بذل الجهد لتفادي النقائص
في سياق متصل، يعترف مفوض كانتون جنيف المكلف بجنيف الدولية بأن “هناك حاجة لمزيد من الجهود لتحسين التعايش بين الموظفين الدوليين وسكان جنيف وأن هناك حاجة لمزيد من الشرح والتوعية في اتجاه جمهور جنيف”.
وأشار إلى أنه قد تم الشروع في تنظيم نشاطات ثقافية واجتماعية للسماح باختلاط هذين الجمهوريين في جنيف مثل تنظيم حفلات موسيقية ومسرحية وغيرها.
من جهة أخرى، يظل نجاح نشاطات جنيف الدولية مرهونا بتوفير الظروف الملائمة لمشاركة ممثلي المجتمع المدني فيها. ويكفي إلقاء نظرة على “ساحة الأمم” الواقعة قبالة قصر الأمم التي تكتظ كل يوم تقريبا بمدافعين أو مؤيدين لقضية ما يرغب أصحابها في جلب الانتباه لها.
لكن المشكلة التي تواجه البعض من نشطاء المجتمعات المدنية في بعض مناطق العالم تتمثل في صعوبة الحصول على التأشيرة. وفي هذا الصدد يقول السيد أوليفي “رغم أن (هذا الملف) ليس من اختصاصي إلا أنه يمثل إحدى الأولويات التي نوليها أهمية كبرى على مستوى السلطات في الكانتون وعلى المستوى الفدرالي والتي أبدى الجميع بشأنها التزاما قويا واهتماما كبيرا نظرا للأهمية التي تكتسيها (هذه المسألة) بالنسبة لسمعة جنيف الدولية”.
وإذا كانت لمؤسسي جنيف الدولية نظرة بعيدة في وقت لم يكن يتحدث فيه أحد عن آليات العولمة أو عن الإدارة الجماعية لقضايا العالم، فإن السيد أوليفي كوتو يرى أن “العالم اليوم في حاجة أكثر إلى محافل تعمل على تنسيق جهود الدول لمواجهة ظواهر ومشاكل عالمية كظاهرة الانفلونزا المعروفة بأنفلونزا الخنازير أو A N1H1”. وهي ضرورة يمكن تعميمها الى ميادين حماية البيئة أو التجارة أو الهجرة أو الميدان الإنساني. لذلك فإن المهمة التي وضعتها سلطات جنيف على عاتقها باحتضان كل هذه المحافل تتلخص في “توفير الظروف الملائمة للسماح لهذه المنظمات بالقيام بعملها على أحسن وجه”، حسب تأكيد المفوض المكلف بجنيف الدولية.
محمد شريف، جنيف swissinfo.ch
عين اوليفي كوتو في منصب مندوب حكومة جنيف المكلف بجنيف الدولية في مايو 2008. ويقول في معرض شرحه لهذه المهمة “إنها تتمثل أولا في السهر على معرفة احتياجات الشركاء في جنيف الدولية من بعثات الدول المعتمدة لدى المقر الأوروبي لمنظمة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية التي اتخذت مقرا لها في جنيف ومنظمات المجتمع المدني المتابعة لأشغال القضايا الدولية انطلاقا من جنيف، ونقل ذلك للسلطات في كانتون جنيف لكي توفر الظروف الملائمة لإقامة وعمل هؤلاء الشركاء. كما لنا مهمة التنسيق بين مختلف المصالح في دويلة جنيف المعنية بالسهر على إقامة ونشاط الشركاء في جنيف الدولية، سواء فيما يتعلق بالأمن أو التعليم أو أماكن الإقامة. وأخيرا هناك عمل إعلامي لشرح وتوضيح ماهية جنيف الدولية وأهميتها بالنسبة لجمهور جنيف”.
الحديث عن جنيف الدولية يعني الحديث عن 22 منظمة دولية اختارت جنيف كمقر رئيسي لها. نذكر منها المكتب الأوروبي لمنظمة الأمم المتحدة بكل ما يحتوي عليه من فروع لحقوق الإنسان ونزع السلاح والاقتصاد والتنمية، ومنظمة الصحة العالمية، ومنظمة العمل الدولية، والاتحاد الدولي للاتصالات، ومنظمة التجارة العالمية، والمنظمة العالمية للهجرة، والاتحاد الدولي للبرلمانات، والاتحاد الدولي لجمعيات الهلال والصليب الأحمر، واللجنة الدولية للصليب الأحمر.
تضاف إلى ذلك ممثليات 162 دولة معتمدة لدى المقر الأوروبي لمنظمة الأمم المتحدة تسهر على متابعة وتمثيل بلدانها في مختلف الإجتماعات التي تفوق 800 إجتماع سنويا في شتى الميادين الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتكنولوجية والإنسانية.
وهناك أيضا 250 منظمة غير حكومية لها طابع استشاري من طرف المجلس الاقتصادي والاجتماعي لمنظمة الأمم المتحدة. وهذا كله يمثل حوالي 25000 موطن شغل. وتشير تقديرات إلى أن هذا التواجد يدر على جنيف ومراكزها التجارية مداخيل تقدر بحوالي 5 مليار فرنك سنويا.
لكن جنيف الدولية لا تقتصر على محافل العلاقات المتعددة الأطراف بل تتعداها الى معاهد التكوين والدراسات. وفي هذا الإطار تتوفر المدينة على معاهد ذات سمعة عالمية مثل معهد الدراسات الدولية العليا ومعهد التنمية اللذين انصهرا منذ بداية عام 2008 لتشكيل معهد الدراسات الدولية العليا والتنمية بعد أن سهرا لعشريات طويلة على تكوين العديد من الإطارات التي تسير العديد من بلدان العالم. وتوفر هذه المعاهد من خلال خريجيها العديد من الخبراء والإطارات العليا لفائدة منظمة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.