حروب “الهلاليْـن” السُـنّي والشيعي: إلى أين؟
حجبُ الشمس بأصبع لم يعُـد جائزا في الشرق الأوسط. أجل، يجب الإعتراف بأن ثمّـة حرباً مذهبية سُنّية - شيعية شامِلة، تدور رحاها بكل أنواع الأسلحة هذه الأيام، على رقعة شاسعة تمتدّ من الهلال الخصيب إلى مِنطقة الخليج، مروراً بشبه القارة الهندية.
أجل أيضا: هذه الحرب الأهلية الإسلامية الداخلية تجري داخل سياق صراع دولي، تقف فيه إيران ونظام الأسد ولبنان – حزب الله، إلى جانب روسيا (الصين لم تقرر بعدُ أن تكون لاعباً دولياً أولا في الشرق الأوسط)، فيما تصطفّ السعودية وبقية دول الخليج وتركيا وراء أمريكا وأوروبا.
وهذا ما قد يوحي بأن لهذه الحرب شكلاً أيديولوجياً، حيث يبدو أن المُعسكر الأول “المُمانع والمقاوم”، يقف ضد إسرائيل والإمبريالية، فيما المُعسكر الثاني يدور في فَـلَـك هاتين الأخيرتين. بيد أن هذه الصورة، لا هي حقيقية ولا هي واقعية.
صحيح أن إيران في حالِ اشتباكٍ مع أمريكا، إلا أن تاريخ ثورتها حافِل بالصّفقات المُذهلة، التي قد لا تخطر على أيّ بال أيديولوجي مع واشنطن: من إيران – غِـيتْ، إلى الحلف غير المقدّس في حرب أفغانستان، ومن تواطُـؤ إيران مع أمريكا في غزْو العراق عام 2003 إلى تقاسُم الغنائم بينهما لاحقاً في بلاد الرافديْن. وبالمثل، صِـدام إيران مع إسرائيل لا يدور بسبب الاختلاف حول الشكل الأيديولوجي للآخرة، بل حول أحوال الدنيا الإستراتيجية في الشرق الاوسط.
محور الخلاف: القوة الإقليمية الإيرانية الصاعدة (أو التي كانت صاعدة على الأقل حتى ما قبل الانتفاضة السورية)، تريد حصّة في نظام الشرق الأوسط، وتل أبيب لا تزال ترفض انطِلاقاً من اعتبارات “أنانية” وإستراتيجية في آن.
“مقاومة وعمالة”
هذه اللَّـوحة الحقيقية للصِّراع من فوْق، تجِد صَداها من تحت، حيث تختلِط صُوَر “المقاومة والعمالة” إلى درجة مُذهلة. فعلى سبيل المثال: كيف نفسّر كون شيعة العراق (أو بالأحرى قادتهم الطائفيِّين) كانوا على تحالُف مع ” الشيطان الأكبر” طيلة حِقبة الاحتلال الأمريكي للبلاد، فيما أشِقّـاءهم في لبنان شكلّوا رأس الحربة في مقاومة “الهيمنة الأمريكية”، هذا على رغم أن “الشيطان” (أمريكا) كما “المرجعية الملائكية” (إيران)، هما إياهما في الحالين؟
على سبيل المثال أيضاً: كيف كان سُـنّة العراق، طليعة المُجاهدين ضد الاحتلال والعولمة والرأسمالية، فيما إخوانهم في المذهَـب في لبنان بقيادة الأسْـرة الحريرية، طليعة المُتحالفين مع أمريكا والدّاعين إلى الاندماج بلا قيد أو شرط بالعولمة الرأسمالية، حتى في شقّها الليبرالي الجديد المتطرّف؟
الأمر هنا أشبه بلعبة “حاول أن تفهم” أو بسيرك فقَـدَ القَـيّمون عليه، السيطرة على برامجه فاختلط المُـهرِّجون بالجمهور والجمهور بالمهرِّجين ولم يعُـد أحدٌ يدري ما يجري.
لكن الصورة ليست كذلك. المسألة ببساطة، تتعلّق بصراعات سياسية، قومية، مصلحية، يتِم خلالها استخدام الإنتماء الدِّيني أو المذهبي، لتبرير الوطنية والخِيانة معاً؛ التقليدية والثورية؛ والرِّجْعية والتقدمية.
هل يعني هذا التَّسْـيِـيس الشديد للصِّراع أننا ننفي وجود خلافات وإختلافات فِقْـهية تاريخية بين المذهبين، الشيعي والسُنّي؟
كلا بالطبع. لكننا هنا نطرح سؤالاً غيْـر بريء: كيف أمكَن للشيعة والسُـنّة التوّحد في جبهة واحدة متراصّة خلال المُجابهة بين الحركة القومية الناصرية مع الغرب خلال الخمسينيات والستينيات، إلى درجة اعتبار الأزهر الشيعية، المذهب الخامس في الإسلام، فيما المُجابهات الرّاهنة تستند، على العكس، إلى تفجير الصِّراعات بينهما؟
سيُـقال لنا أن هذه مُستلزمات السياسة في هذه المرحلة، وهذا صحيح. لكن، سيتعيّن على مَن يقول ذلك اليوم ثم يقرن قوله بفعل التحريض المذهبي – الدِّيني، أن يقبل غداً سقوط مئات آلاف “الشهداء” من كِلاَ الطَّرفين، من أجل “القضية” السياسية، وأن يسبح في بُحيرات الدّم القاني، التي صنعتها يداه. عليه أيضاً أن يعد من الآن كُـشوف حساباته الكاملة أمام ربّه حول جريمة تجديد الفِتنة الكُبرى في الإسلام، وهي فِتنة تجري رحاها الآن بكثافة، كما أسلفنا، من الهلال الخصيب والخليج إلى شِبه القارة الهندية، بإشراف أمريكي – غربي شامل. كيف؟
هلالان
عبد الله الثاني، ملك الأردن، قد يكون المسؤول العربي الأول الذي تحدّث بصراحة وطلاقة عن عملية الفرْز المذهبي الشيعية – السُنّية، التي تجري على قَدَم وساق هذه الأيام في المنطقة.
فهو كان أول مَن صكّ تعبير “الهلال الشيعي”، المُمتَـد من إيران ولبنان، مروراً بجنوب العراق وسوريا. ثم في ربيع عام 2005، وحين أجرى معه “مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي” مقابلة مُطّولة حول هذه المسألة، لم يتردّد الملك في القول أنه “يخشى أن يتوقّف الصِّراع الفلسطيني – الإسرائيلي، عن كونه جوْهر الصِّراع في الشرق الأوسط وأن يتمحور حول العراق، في إطار صِراع مُـرعب داخل الإسلام: صراع سُـنّي – شيعي، سيكون مُدمِّراً في هذا الجُزء من العالم”.
ما كان يقوله الملك الأردني عَـلناً، ردَّده الكثير من المسؤولين العرب سِرّاً في مجالِسهم الخاصة ورسموا بدورهم خرائط جديدة، ليس فقط للصِّراع، بل حتى للكِيانات الجغرا- سياسية في المنطقة. وهكذا، نُقل عن السيد حسن نصر الله، زعيم حزب الله قبل سنوات، أن الأمريكيين وغيرهم عرضوا عليه قبل فترة شيئاً شبيهاً بـ “الهلال الشيعي” وأن رئيس الوزراء الرّاحل رفيق الحريري، أبلغه أنه تلقّى هو الآخر عرضاً بإقامة “هلال سُنّي” ينطلق من وسط العراق، ليضُـم الأردن ومُعظم سوريا وأجزاء كبيرة من لبنان.
بيد أن “حرب الأهِلّة” (جمع هلال) هذه، لا تقتصر على الأحاديث أو التحليلات، حين ينتقِل الأمر إلى الحركات المذهبية المُتطرِّفة من كِلا الجانبيْن. فبعض الأطراف الشيعية العراقية، على سبيل المثال، تقرن الكلام بالفعل حين تدعو عملياً إلى قيام كِيان شيعي انفصالي مُستقل في جنوب العراق. وجهود أبو مصعب الزرقاوي الدموية، كانت تصبّ كلها في صالح الفرز المذهبي – الجغرافي على أرض العراق، بدعمٍ من غلاة الشيعة والسُنّة.
وفي لبنان، تغلي تحت السّطح قِوى تطرّف مذهبي تقشعِـرّ لها الأبدان. فمثلاً، في الضاحية الجنوبية من بيروت وفي البقاع، ثمَّة حركات “سلفية شيعية” تُكفِّـر، ليس فقط السُنّة، بل حتى “حزب الله”. وفي الأرياف السُنّية في إقليم الخروب في جبل لبنان وعكار والضنية في الشمال، وصيدا في الجنوب ومخيّماتها الفلسطينية، تترعرع أصوليات تكفيرية تدعو إلى اعتبار أن الصِّراع مع الشيعة، هو “التناقض الرئيسي”.
السعودية وإيران
هل ثمّة وسيلة للخروج من هذه المسرحية التاريخية الكارثية، التي يُعيد السُنّة والشيعة، تمثيل مآسيها الآن بحذافيرها تقريباً، بعد أكثر من ألف سَنة من أدائها؟
حين يكون السؤال معقَّـداً إلى هذه الدّرجة ومشحوناً بالذِّكريات التاريخية المريرة إلى هذه الدّرجة، ومُشتبكاً بتوجّهات خارجية لإعادة إنتاج الحرب الأهلية الإسلامية، لن يكون الجواب سهلاً بالطبع.
فضلاً عن ذلك، فإن وجود نظاميْن سياسييْن، كالسعودية وإيران، يستندان إلى المذهب والطائفة ويُبشِّـران بأيديولوجيات مَذهَبية مُغْـلقة، يُوصد الباب أمام أيّ “حوار ثقافات” حقيقي داخل الحضارة الإسلامية، الأمر الذي يُضفي على أيّ صِراع سياسي على النّفوذ في المنطقة، بُعداً دينياً مُلتهباً ومتفجِّرا.
والحال أن الصِّراع بين البلديْن كان مُستعِراً أصلاً، منذ أن انتقلت إيران من كونها الحليف الأكبر للولايات المتّحدة في منطقة الخليج إلى عدوِّها الأكبر، بعد انتصار الثورة الإسلامية فيها عام 1979. ومنذ ذلك الحين، انغمَست الرِّياض وطهران في حمأة مُجابهات، تراوحت بين الحروب بالواسطة، كما حدث إبّان الحرب العراقية – الإيرانية (1980-1988)، التي دعمت فيها السعودية بقوة الرئيس صدّام حسين، وبين “المجابهات الودِّية” في عهديْ الرئيسين رفسنجاني ونجاد.
بيد أن العلاقات تدهْـورت مع وصول الرئيس أحمدي نجاد إلى السلطة، بعد أن ارتدَت السلطة الإيرانية حلّة أيديولوجية دينية كاملة، فردت مملكة السعوديين على هذه التحية بالمثل. وهكذا تبلورت حرب باردة حقيقية بين الطرفين، على النمط الأمريكي – السوفييتي، تضمّنت العدّة الكاملة لمثل هذه الحرب: الجواسيس ضد الجواسيس؛ حملات التضليل الإعلامي؛ الصِّدامات بين القِوى التابعة لهما (في لبنان والعراق، والآن في سوريا)؛ اتِّهامات سياسية مُتبادلة وحادّة وتراقص على حافة صدامات، لا يستبعد البعض أن تصل حتى إلى المستوى العسكري.
وعلى الصعيد الأيديولوجي، كانت الحرب الباردة بين السعودية وإيران لا تقِـلّ حدّة وعنفاً. فقد لاحقت المخابرات السعودية من وُصِفوا بـ “المبشّرين الشيعة” الإيرانيين في المغرب وأبلغت السلطات في الرباط عنهم، فأدّى هذا إلى قطع العلاقات الدبلوماسية المغربية – الإيرانية. كما وصلت المجابهات إلى إندونيسيا، حيث يتسابَق الطرفان، السعودي والإيراني الآن، على كسب قلوب وعقول المواطنين الإندونيسيِّين، عبر ضخّ مئات ملايين الدولارات في المجتمع المدني الإندونيسي، للترويج للصيغتيْن السُنيّة والشيعية للإسلام.
بيد أن نقطة الصِّدام التي دفعت الحرب الباردة إلى السطح، كانت الإنتفاضة الشعبية في البحرين، إذ كانت الثورة الشعبية في بلاد القرامِطة انطلقت مع غِيابٍ ملحوظ للشعارات الطائفية ومع تركيز على الإصلاحات الدستورية. لكن، حين أوحت بعض جهات في السلطات البحرينية أنها على وشَـك الرّضوخ إلى بعض مطالب المُنتفِضين، على غرار ما حدث في تونس ومصر، تدخّلت قوات “دِرع الجزيرة”، فتحوّلت الإنتفاضة الشعبية بين ليلة وضُحاها إلى عِـراك إقليمي علني وعنيف بين الرياض وطهران.
وقبل البحرين، كانت السعودية ترى أصابع إيرانية واضحة في الثورة الشعبية اليمَنية، خاصة في أوساط الحوثيين، فتحرّكت للإمساك بمفاصل الوضع هناك لمنع التمدّد الإيراني، عبر توثيق العلاقات المالية مع العديد من القبائل اليمَنية ولعب دور الوسيط بين النظام والمعارضة.
ثم هناك بالطبع لبنان، الذي ترتدي فيه المجابهة بين تياري 8 و14 آذار، طابع الصراع الصريح والمباشر بين السعودية وإيران، منذ أن نجح حزب الله في الإطاحة بحكومة سعد الحريري، الموالية للرياض.
ويبقى الانتظار لمعرِفة كيف ستكون خواتيم هذا التنافُس السعودي – الإيراني في سوريا، التي تحوّلت هي الأخرى إلى نقطة صِدام كُبرى بين الطرفيْن، تُستخدَم فيها كلّ أنواع الأسلحة، بسبب الدوْر المِحوري الذي تلعبه بلاد الشام في استراتيجيات الشرق الأوسط.
أي حلول؟
في ظلِّ هكذا حروب ساخنة – باردة على هذا النحو من الضراوة والتعبِئة الأيديولوجية، من الصعب العثور على حلول، إلا بالطبع إذا ما غيّرت السفينة الإيرانية وِجهتها الرّاهنة وعادت إلى المسار الحواري والإنفتاحي، الذي دشنّه الرئيس خاتمي، وإلا إذا تمّ إسقاط الصيغة الوهَّابية الحالية، التي ترسم خطّـاً من نارٍ بين كل المذاهب الإسلامية تقريبا. لكن السؤال الذي يفرِض نفسه هنا هو: إلام سيؤدّي هذا الصِّدام المروّع؟
إذا ما كان السلفيون السُنّة يعتقدون أنه لا يزال في وُسعِهم إعادة الشيعة إلى وضعية الخضوع بالقوة أو التبعية، فسيكونون واهمين للغاية. هذا لن يحدُث لا في العراق ولا في لبنان ولا في البحرين، ولا حتى داخل المملكة السعودية نفسها. فهذه مرحلة سقطت تاريخياً ولن تعود. وإذا كان المتطرِّفون الشيعة يظنون أن المهدي المنتظر آتٍ لاستِئصال شأفة السُنّة وتسليم سلطة آخِر الزمان إليهم، فالأرجُح أنهم سينتظرون ألف سنة أخرى.
الحصيلة الوحيدة لهذا الصِّدام هي الدّمار. الدّمار الشامل على التحديد. وحين تبدأ أهوال هذه الكارثة الحضارية – الإنسانية بالتكشُّف، سيظهر حينذاك أصحاب الأصوات “العاقِلة” الذين سيتساءلون: كيف سمحنا بأن يجري ما جرى؟ وسيبدؤون بالبحث عن حُلول خارج أطُـر الهلاليْن، الشيعي والسُنّي، وداخل إطار قِيَـم المواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان، لا بل سيُفتِّـشون عن حلولٍ داخل إطار العَلمنة التي ستكون الردّ الوحيد على جنون ما يسميه أوليفيي روا “الجهل المقدّس”.
هذا بالطبع إذا لم تنجح المخطّطات الإسرائيلية – الغربية وتنشأ دُويلات سُنيّة وشيعية في المنطقة، ترتسم حدودها بأنهار دائمة من الدِّماء القانية، وتخوض مع بعضها البعض حروباً دائمة لا تنتهي..
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.