خبرة سويسرية للإسهام في تسوية نزاعات قبلية في ليبيا
خلال حفْل التوقيع على اتِّفاق صُلح وسلام بين قبيلتيْ أولاد سليمان، ذات المنابت العربية، والتبّو ذات الأصول الإفريقية، احتضنته العاصمة الليبية طرابلس مؤخرا، بحضور رئيس المؤتمر الوطني العام محمد المقريف ورئيس الحكومة علي زيدان، طفا على السطح للمرّة الأولى اسم منظمة أهلية سويسرية، إذ قام رئيس لجنة المصالحة والشورى – جبل نفوسة، بتوجيه الشكر لها على جهدها في دعم ذلك الصلح.
تلك اللّفتة الخاصة رفعت النِّقاب عن دور دقيق وطويل النَّفَس، لكنه غير مرئي، ساعد على تمكين الليبيين من الإستفادة من الخِبرة السويسرية التفاوضية الطويلة، في الوساطة من أجل التوفيق بين مواقف مُتباعدة أو تسوية نزاعات معقّدة.
في ليبيا اليوم، أكثر من ثلاثة عشرة نِزاعا أهليا، سواء بين قبائل مُتنازعة أو بين مُدن على غِرار الصراع المعروف بين مدينتيْ مصراتة وتاورغاء. إلا أن مركز الحوار الإنساني، اختار أن يضع خِبرته في تصرّف أهالي سَبْها، من أجل الوصول إلى اتفاق إطاري للمصالحة بين التبو وأولاد سليمان.
ويجوز القول أن المركز ساعد على إعادة اكتشاف آلية صالِحة لتسوية الخلافات، وهي ما يُطلق عليه “مجالس الحُكماء”، الرّاسخة في التقاليد البدوية الليبية، والتي يُمكن أن تكون عنصرا حاسِما في حل النزاعات الأهلية الأخرى، التي ما زالت عالقة.
ويقول أعضاء في “مركز الحوار الإنساني”، وهي منظمة غير حكومية سويسرية، تتخذ من جنيف مقرا لها، إنهم بدأوا العمل مع مجلس الحكماء في مدينة سَبها، التي تبعد نحو ألف كيلومتر عن العاصمة الليبية، منذ نحو سنة (وتحديدا اعتبارا من مايو 2012)، وحافظوا على التواصل معهم، لدعم المبادرة الصلحية، التي أطلقوها ومدّهم بالخبرة الفنية في هذا المجال.
من جهة أخرى، يعمل “مركز الحوار الإنساني” كداعم للوساطة في أرجاء ليبيا مع مجالس الحكماء، في كل ما يتعلق بالمصالحة الوطنية، وهو يقوم بدور الوسيط بين الأطراف المُتنازعة، لإعداد اتفاقية لوقف إطلاق النار وتقديم وتبادل الخِبرات مع الخبراء الدوليين المختصّين العاملين مع المركز.
انطلقت أنشِطة مركز الحوار الإنساني في أغسطس 1999 بوصفه جمعية غيْر حكومية سويسرية مقرّها في جنيف، واستطاع من خلال المبادرات التي قام بها، أن يُصبح أحد المنظمات الرئيسية في العالم، المختصة في التوسّط لتسوية النزاعات.
ويتمثل أحد أهدافه الأساسية، في الحد من آلام السكان المدنيين الذين عادةً ما يجِدون أنفسهم رهائن عند اندِلاع صراعات، سواء أكانت تلك الصراعات في قلب اهتمام وسائل الإعلام أم كانت مَنسِية. وفي مثل هذه الحالات، يتدخل المركز بوصفه وسيطا أو يُقدّم الدعم والمشورة لوسطاء آخرين، من أجل ضمان الفعالية لوساطاتهم. ويتولى رئاسة المركز منذ أبريل 2011 النيوزيلندي ديفيد هارلند، وهو يعتقد أن نجاح عمل المركز يحتاج إلى قليل من الكلام وكثير من الفعل، بعيدا عن أضواء الإعلام، من أجل إقناع طرفيْ النزاع بالجلوس حول مائدة الحوار.
وفي هذا السياق، يقوم المركز بنشاطات عديدة لإدارة الأزمات والوساطات في العالم، إذ ساعد الإتحاد الإفريقي في كينيا وكذلك في السودان، لتسهيل وصول المساعدات الإنسانية للمدنيين. كما حاول المركز منذ أكثر من عشر سنوات، إقناع الحكومة الإندونيسية بالتحاوُر مع المتمرِّدين الذين كانت تصِفهم بالإرهابيين، وأفضى الحوار إلى تسوية سِلمية، جعلت قائد الثوار السابقين يصبح اليوم محافظ الإقليم المتمرّد.
الفيليبين شهدت بدورها مسارا مُماثلا، حيث رافق مركز الحوار الإنساني المفاوضات بين الحكومة وجبهة مورو الإسلامية، للوصول إلى حلٍّ سِلمي للنزاع، تم التوقيع عليه في مايو 2012.
جزء مُهمل من ليبيا
منطقة سَبها كانت مُهمَلة ومهمَّشة في عهد معمر القذافي، الذي حكمها بالحديد والنار، فلم تصل إليها المشاريع التنموية، في مقابل حضور أمني وعسكري مكثّف لفرض الإنضباط على أهلها. ومع سقوط النظام وضعف السلطات الإنتقالية بعد الثورة، تفجّرت الأوضاع، فتأزمت العلاقات بين الجماعات المسلحة والسلطات المركزية، كما طفت على السّطح الصِّراعات والأحقاد القديمة.
منذ انطلاق مهمّة الفريق في ليبيا، جاب أعضاؤه عدة مناطق، حيث توجد نزاعات مفتوحة أو كامِنة، ولاحظوا بعد تلك الجولات، ظاهرة تتكرر في المجتمع الليبي أينما كان، وهي وجود حكماء لديهم سلطة معنوية على أفراد القبيلة.
ويقول عضو الفريق كريس ثورنتون في هذا المعنى “أدركنا أن هؤلاء الحكماء يمكن أن يلعبوا دورا مؤثرا في إصلاح الأوضاع، خاصة أنهم حريصون على القيام بذلك الدور، لأنه يندرج في إطار مسؤولياتهم المعنوية”.
في هذا السياق، أحصى الفريق ما بين 20 و30 شيخَ قبيلة يُعتبرون من المؤثِّرين، ومن هنا، ساعد على تشكيل مجلس حكماء، ليس ليكون مؤسسة رسمية، وإنما ليكون مِظلّة ومرجِعا، وهذا يعني أن مجلس الحكماء هو عبارة عن مجموعة غيْر مُهيْكلة لا تملك طاقما إداريا ولا بيروقراطية، وإنما تعتمِد على شيوخ متقدِّمين في السِنّ، إلا أنهم يتّسمون بحيوية استثنائية، إذ يقطعون مسافات تفوق الألف كيلومتر أحيانا، للقيام بالوساطات و”تبريد” النِّزاعات الناشبة هنا وهناك، تمهيدا لتسويتها.
في الصف الخلفي
كان واضحا منذ البداية أن “مركز الحوار الإنساني” لن يحلّ محلّ اللاعبين الليبيين ولن يفرِض حلاّ من الخارج. فقد نظم اجتماعات عديدة مع الحكماء الذين كانوا وسيطا بين الفريقيْن وناقش معهم المشاكل القائمة وكيفية تشخيصها وسُبل تجاوزها.
بدأت الخطوة الأولى بنصّ، كما شرح أحد المشاركين في تلك الإجتماعات لـ swissinfo.ch، تمّ تبادُل الآراء في شأنه. وما جعل الحوار يسيرا، هو أن الليبيين لم يشعروا بأن هناك خِبرة دولية تُفرَض عليهم، بل انطلق الأمر من التجربة الليبية في تسوية النزاعات، التي تستند على التقاليد البدوية وقِيم الثقافة الإسلامية. وأتاح هذا التبادل، إحلال الثقة بين الطرفين وتعميقها تدريجيا. مع ذلك، أقرّ أحد أعضاء فريق المركز في ليبيا مُبتسِما بأن “بعض الليبيين اعتقدوا في البدايات الأولى بأننا جِئنا إلى هنا لنفرِض حلاّ دوليا”.
لكن، هل قضى زوال ذلك التوجّس الأول على جميع الأحكام المُسبقة وبدّد كل الشكوك؟ ما يُستشفّ من كلام أعضاء الفريق السويسري، هو أن الحكومة الليبية منحتهم ثقتها منذ البداية، بل ونصحتهم بالتعامل أساسا مع المؤسسات غير الرسمية، وخاصة الحكماء، لتأثيرهم الكبير في مجتمعهم، وهذا ما أتاح بدوره تعميق التعاون بين الحكومة والحكماء في المراحل اللاحقة.
وأفضل مثال على ذلك، أن حفل التوقيع على الإتفاق الإطاري للصّلح بين أولاد سليمان والتبو في طرابلس، تم الإعداد له بالإشتراك بين رئاسة الأركان ومجلس الحكماء، وهو تجسيد لأهمية وجود تفاهم وانسِجام بين المؤسسات الرسمية من جهة، والهياكل الأهلية القائمة والمتوارثة طيلة قرون، من جهة ثانية.
يشكِّل الجنوب الليبي وعاصمته سَبها، العقدة التي تلتقي عندها جميع التناقضات والصّراعات في ليبيا. فقد عانى من إهمال السلطات المديد في عهد القذافي، مما جعل سكّانه يتمرّدون على السلطة المركزية بعد اندلاع الثورة، فانهار الأمن والنظام العام، وباتت المِنطقة مَعبَرا للأسلحة نحو إفريقيا جنوب الصحراء وسيناء وغزة.
وطَفت على السّطح أيضا، الصراعات القبلية التي كان القذافي يُطفِئها بالحديد والنار، كلما التهبت، فتكاثرت تصفِية الحسابات وعمليات الاغتيال والمعارك بين القبائل، وانتشر السلاح الثقيل وسيْطرت الميليشيات على المعابِر وأقامت نقاط تفتيش، لا تخضع لسلطة الدولة. كما صار الجنوب مَعبَرا للمُهاجرين غير الشرعيين، الذين اتخذوا من ليبيا نقطة عبور إلى أوروبا.
وأشار موفد صحيفة “لوس أنجلس تايمز” إلى سبها في تقرير نشره أخيرا، إلى أن “مهمة المحافظة على الأمن في عاصمة الجنوب، أوكلت إلى رجال القبائل وجنودهم غيْر المُدرَّبين والذين لا يملِكون أسلحة كافية”. ومن اللاّفت أن موكِب رئيس المؤتمر الوطني العام محمد المقريف لإطلاق نار، لكنه نجا، بينما جُرح عدد من حرّاسه.
وحتى في المستشفيات، جرت عمليات انتقام، إذ تتم تصفية المنافسين والغرماء، وهم على أسِرّة العلاج، بل في غرفة العِناية المركّزة أحيانا، مثلما ذكر تقرير الصحيفة الأمريكية.
خبرة في الوساطة الإنسانية
اعتمدت الجمعية الأهلية السويسرية في إنجاز مهمّتها، التي توجت بالنجاح، على فريق مؤلّف من عشرة أشخاص فقط، ممّن يملكون خِبرة واسعة في مجال الوساطة الإنسانية. وربما حِرصا على تيسير التواصل مع المجتمع المحلي، اختيرت شخصية دبلوماسية سودانية لقيادة الفريق. وكان رئيس الفريق قد عمل طيلة خمسة عشرة سنة مع الأمم المتحدة، بالإضافة لعشرين سنة أخرى أمضاها في الدبلوماسية السودانية. غير أنه غادَر الفريق الآن وحلّت محلّه مساعدته، وهي سيدة تحمل الجنسيتين الهولندية والفرنسية، لكنها تتحدّث العربية بطلاقة.
والأرجُح، أن فريق مركز الحوار الإنساني – ليبيا سيُتابع مهمّته في دعم جهود مجالس الحكماء والوقوف خلفها في عمليات الوساطة، خاصة أن دور “مركز الحوار الإنساني” هذا، يحظى بدعم من الإتحاد الأوروبي، وتحديدا من آلية “أداة الإستقرار” Instrument pour la stabilité التابعة له.
ومع أن “مركز الحوار الإنساني” يعتزم الإستمرار في جهوده بالنظر لوجود نحو عشرة صراعات مُلتهبة أو خامدة في أنحاء مختلفة من ليبيا، فإنه ظل حريصا في جميع المراحل على عدم الظهور على الشاشة والبقاء خلْف الحكماء، لدعم جهودهم وتقديم المَشورة والخِبرة الدولية لهم.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.