دور أجهزة المخابرات في الحياة السياسية العربية (2 من 2)
ثورة المصريين والتونسيين، التي تمددت في الأسابيع الأخيرة إلى أجهزة الأمن والإستخبارات في كلا البلدين، قد تكون أخطر وأهَـم حدث فيهما. لماذا؟ الزميل سعد محيو يواصل شرح أسباب ذلك في الجزء الثاني والأخير من هذه الدراسة حول الدور الذي تلعبه أجهزة المخابرات في الحياة السياسية العربية منذ عدة عقود.
هنا ربما يكون من المفيد الاسترشاد بتجارب دول أخرى في العالم الثالث، خاضت ولا تزال غمار الإصلاحيين، الأمني والديمقراطي السياسي، وهما إندونيسيا وتشيلي.
نموذجا إندونيسيا وتشيلي
في إندونيسيا، لعب الجيش وأجهزة الأمن دوراً مُـهيمناً منذ استقلال البلاد عام 1945. لكن أجهزة الأمن لم تتضخم وتبرز لتصبح القوة الرئيسية في السلطة إلا بعد انقلاب سوهارتو المدعوم أمريكياً، الذي ذهب ضحيته نحو نصف مليون مواطن.
فالمنظمات الأمنية التي هيْـمنت على إندونيسيا في عهده، صادرت معظم مناحي الحياة السياسية وأخضعت قطاعات واسعة من السكان إلى رقابتها القوية ومارست “الهندسة الاجتماعية” على نطاق واسع وسيطرت على كل التعيينات، من أصغر موظف في الخدمة المدنية والحكومية إلى أعلى الرتب العسكرية.
في ظل هذه الظروف، كان من الصعب إصلاح قطاع الأمن الإندونيسي، وتطلَّـب الأمر انتظار رحيل سوهارتو وتدشين المرحلة الانتقالية إلى الديمقراطية، للبدء به. ومن ثم، كان هذا الإصلاح جزءاً من عملية أوسع لدمقرطة النظام ونزع عسكرته، وهي العملية التي بدأت بعد الأزمة المالية الآسيوية في يوليو عام 1997، والتي لم تكن لتُقلع لولا دعم ضباط عسكريين إصلاحيين اقتنعوا بأن سيطرة أجهزة الأمن والجيش والشرطة الوطنية (في المقاطعات) على الحياة السياسية، لم يعد ممكنا.
بالطبع، مدى نجاح الإصلاحات في إندونيسيا في قطع العلاقة بين الجيش وبين السياسة، لا تزال موضع تساؤل. فعلى رغم أن الجيش تخلّـى عن مقاعده في البرلمان وبقي محايداً في الانتخابات (عدا انتخابات عام 1999)، إلا أنه احتفظ بدوره ووسّعه في المناطق الإندونيسية المضطربة أمنياً، وأبقى نفوذه في الشؤون المحلية ولا يزال قوة يُعتد بها في السياسة المحلية. ومع ذلك، الإصلاحات شكّلت القاعدة التي تمّ الانطلاق منها لإعادة تعريف أجهزة المخابرات ودورها. وهذا سجّل بداية حِـقبة جديدة انحسرت فيها الممارسات شبه التوتاليتارية لهذه الأجهزة.
التغييرات المؤسسية الرئيسية تمّـت في عهد الرئيس عبد الرحمن وحيد، الذي عمل على إخضاع أجهزة الأمن إلى سلطة الحكومة المدنية ومكّن البرلمان من مراقبة أعمالها وتمويلها. وقد قام هذا الأخير بتشكيل ثلاثة لجان هامة من وجهة نظر السيطرة الديمقراطية على أجهزة الأمن: اللجنة المُـشرِفة على الدفاع والشؤون الخارجية والمخابرات ولجنة تطبيق القانون ولجنة الإشراف على الشرطة الوطنية.
بالطبع، الأجهزة لم تقف مكتوفة الأيدي حيال هذا الانقضاض على سطوتها ودورها. ويعتقِـد الكثيرون في إندونيسيا بأن الأجهزة، خاصة جهاز المخابرات العسكري (BIAS)، قام بإثارة الإضطرابات الأمنية في البلاد بهدَف إحياء دور الجيش في الحياة السياسية، وانتهجت أجندتها لاستعادة هيمنتها وسيطرتها على المجتمعين، المدني والسياسي. كما أنها تحاوِل الإفادة حتى الثمالة من تفاقم ظاهرة الإرهاب الأصولي الإسلامي في البلاد، لوضع القادة السياسيين بين خيار من إثنين: إما الأمن بإشرافها أو اللاإستقرار.
ومع ذلك، ثمة مؤشرات عديدة على أن أجهزة الأمن الأندونيسية لن تستطيع بعد استعادة العديد من مواقعها السابقة، لأنها باتت تعمل في مجتمع أكثر تعددية وانفتاح وشفافية، مجتمع بات يرفض بقوة كل خروقات حقوق الإنسان والحريات المدنية، وهذا الرفض يقيّد بشدة قدرات الأجهزة. وعلى رغم أن هذا التقييد ليس مُـطلقاً، إلا أنه أفضل ضمانة حتى الآن ضد عودة الممارسات اللاديمقراطية السابقة.
في تشيلي، حدث تطور مماثل للتجربة الإندونيسية. فلأن أجهزة المخابرات لعبت في عهد الجنرال بينوشي، الذي نفّذ انقلاباً دموياً ضد الحكم الديمقراطي عام 1973، الدور الرئيسي في القمع السياسي، كان إصلاح قطاع الأمن الأولوية، ليس فقط لتصحيح العلاقات المدنية – العسكرية، بل أيضاً لمدى صِـدقية الحكومة المدنية وشرعيتها. وهنا أيضاً، كان ثمة تغيّر في موقف الجيش من العملية السياسية، ما سهَـل اندفاع الحكومة المُنتخبة للإسراع بإصلاح قطاع الأمن. وبالتالي، لا يمكن فهم كيفية فرض السيطرة المدنية التدريجية على أجهزة الأمن، من دون أن نضع بعيْـن الاعتبار أولاً تطور العلاقات المدنية – العسكرية في حِـقبة ما بعد ديكتاتورية بينوشي لصالح المدنيين، وإن بالتدريج.
دروس وعبر
الدروس المستقاة من التجربتين الإندونيسية والتشيلية، هي كالتالي:
– إقامة السيطرة المدنية الديمقراطية على أجهزة الأمن، هي عملية طويلة المدى. فهي استغرقت في تشيلي، على سبيل المثال، 14 سنة، وهو لم يتحقق إلا بعد أن نجح المدنيون في تعديل موازين القوى مع العسكر. ولذلك، الوقت عامل هام في نجاح وديمومة أي إصلاح.
– إصلاح المؤسسات يجب أن يكون متطابقاً مع حقائق النظام السياسي، إذ يجب أن يكون هناك تمييز بين العملية الديمقراطية وبين حقيقة موازين القوى بين المدنيين والعسكريين. فمن دون أخذ هذه الحقيقة بعيْـن الاعتبار، قد تتمكّـن الحكومة المدنية من فرض السيطرة المؤسسية على أجهزة الأمن، لكن الفعالية العملية لذلك، ستكون محدودة وغير ذي ديمومة.
– الجيش يجب أن يتعاون: لم تنجح أي عملية دمقرطة من دون موافقة ومشاركة القوات المسلحة. وبالتالي، لم يحدُث أبداً أن تمّـت السيطرة على أجهزة الأمن من تعاون الجيش أو على الأقل موافقته، وهذا ما دلّت عليه تجربتا إندونيسيا، حيث كان الجيش وراء “إقناع” الجنرال سوهارتو بالاستقالة، وفي تشيلي، حين أعدّت القوات المسلحة نفسها عملية الانتقال إلى الديمقراطية.
– المجتمع المدني ضروري لتحقيق السيطرة الديمقراطية على قطاع الأمن. وحين يتوقف هذا المجتمع عن التغاضي عن تجاوزات الأجهزة الأمنية، يصبح الطريق ممهَّـداً أمام تفكيك أكثر الأجهزة قمعا.
– وأخيراً، يعتبر الإطار الدولي عاملاً حاسماً في عملية الانتقال الديمقراطي، وبالتالي، لتحقيق السيطرة الديمقراطية على الأجهزة الأمنية. وهذا العامل يمكن أن يكون إيجابياً، كما يمكن أن يكون سلبياً أيضا. وعلى سبيل المثال، لولا نهاية الحرب الباردة، لَـما كان في إمكان الحركات الديمقراطية في أمريكا اللاتينية تحقيق هذا الكمّ الهائل من الانتصارات والإنجازات في طول القارة وعرضها. (20).
هل لا زال الإصلاح ممكنا؟
ربما اتّـضح في متون هذه الدراسة، أن الإصلاح الديمقراطي في المنطقة العربية مُتعذِّر أو على الأقل سيكون “خارج السياق”، ما لم يتطرّق أولاً إلى مسألتي إصلاح الأجهزة الأمنية وإعادة تصويب توجّـهاتها كي توازن بين استقرار النظام وبين أمن المواطن وحرياته. كما من الضروري أولاً أيضاً، التركيز على طبيعة العلاقات المدنية – العسكرية في البلدان العربية، مع تشديد خاص على حفز القوات المسلحة على لعب دور داعم أو مُسهّـل للإصلاحات.
أما بالنسبة إلى المقولة بأن فتح ملف قطاع الأمن في مثل ظروف التفتيت والتشظي التي تمرّ بها العديد من الأقطار العربية، قد يؤدي إلى الفوضى واللااستقرار، فهي لا تبدو لا منطقية ولا واقعية. العكس هو الصحيح، حيث يؤدّي إصلاح هذا القطاع إلى ضمان الاستقرار على المدييْـن، المتوسط والطويل، لأنه يُوفّر للأنظمة المعنية مشروعية ومقبولية أكبر بكثير من الضمانات الآنية التي تقدمها ثقافة أمن تستند إلى القمع والعنف ومصادرة الحريات.
تجربة العراق في عهد الرئيس الراحل صدّام حسين، قد تكون نموذجاً كاملاً لصحة هذه الفرضية. فحين وهنت سطوة الأجهزة الأمنية بفعل الغزوات الخارجية، لم يكن البديل هو التكاتف الوطني القائم على المصالح المتبادلة في الدفاع عن الحقوق والحريات، بل كان انهيار النسيج الوطني برمته.
اليمن نموذج آخر، حيث أدى القمع الأمني – العسكري للجنوب والشمال إلى دفع مشروع الوحدة اليمنية إلى شفير الانتحار، ووضع الكيان السياسي اليمني نفسه في خانة “الدول الفاشلة”.
وقل الأمر نفسه عن فلسطين، حيث أجهزة الأمن المُمولة أمريكياً في الضفة وأجهزة الأمن المدعومة إيرانياً في غزة، تهيمنان على الحياة السياسية وتعزّزان تشظي حركة التحرير الوطني الفلسطينية. وعن الأردن والسودان والجزائر وغيرها. لكن، هل إصلاح أجهزة الأمن ممكن حقاً؟ إنه ممكن، على رغم أنه ليس سهلاً، بسبب العوائق التالية:
– المصالح الاقتصادية والتجارية الكبيرة التي أشرنا إليها لكل من الأجهزة الأمنية والعسكرية، والتي يجب وضعها في عين اعتبار الحسابات السياسية حين تتم المطالبة بإصلاح الأجهزة. فالحرب على هذه الجبهة تبدو طبقية، وفق كل المعايير.
– الإدراك بأن تصويب عمل الأجهزة الأمنية سيكون مستحيلاً ما لم يُحسم أولاً دور الجيش في هذه العملية. فهذا الأخير، وعلى رغم النفوذ الكبير للأجهزة فيه، لا يزال هو خط الدفاع الأول والأخير عن أجهزة الأمن، ومن دونه، ستفقد هذه جُلّ قدرتها وسطوتها.
– دور العوامل الدولية، الخفية كما العلنية، في ترسيخ دعائم ما يمكن أن نُسميه “النظام الأمني الإقليمي” في الشرق الأوسط العربي، والذي يستند أساساً إلى العلاقات الوثيقة (لا بل الأحلاف الحقيقية) بين واشنطن وبين هذه الأجهزة.
كما هو واضح، العقبات ليست بسيطة. لكن، حين ينجح المرء في تحديد طبيعة المشكلة، يصل سريعاً إلى ثلاثة أرباع الحل. بكلمات أوضح: إذا ما أدركت حركات الإصلاح الديمقراطي طبيعة الدور الذي باتت تلعبه أجهزة الأمن العربية في الحياة السياسية العربية، فوضعته على رأس جدول أعمالها، وأيضاً إذا ما شدّدت على تصحيح وترشيد العلاقة بين المدنيين والعسكريين وكذلك العلاقة بين أجهزة الأمن العربية والغربية، واستخدمت سلاح ضغط المجتمعات المدنية لإعادة التوازن إلى هاتين العلاقتين، فإن الأبواب ستكون مُشرعة أمام وضع مشروع الإصلاحات الديمقراطية العربية على الصراط المستقيم، هذه المرة.
وحينها، لن يكون اجتماع كوندوليزا رايس مع قادة أجهزة الأمن العربية في القاهرة في فبراير 2007، أهم من مؤتمر قمة الملوك والرؤساء العرب المنعقد في العام نفسه في الرياض.
القاهرة (رويترز) – قررت مصر يوم الثلاثاء 15 مارس 2011 حل جهاز مباحث أمن الدولة الذي تسببت ممارسات وحشية نسبت اليه على مدى سنوات في اندلاع انتفاضة أطاحت بالرئيس حسني مبارك من حكم البلاد الشهر الماضي.
وقالت وكالة أنباء الشرق الاوسط ان وزارة الداخلية ألغت الجهاز “بكافة اداراته وفروعه ومكاتبه في جميع محافظات الجمهورية وأنشات قطاعا جديدا بالوزارة بمسمى (قطاع الامن الوطني).”
وأضافت أن القطاع الجديد “يختص بالحفاظ على الامن الوطني والتعاون مع أجهزة الدولة المعنية لحماية وسلامة الجبهة الداخلية ومكافحة الارهاب وذلك وفقا لاحكام الدستور والقانون ومبادئ حقوق الانسان وحريته.”
وكان حل جهاز مباحث أمن الدولة أحد المطالب البارزة للنشطاء الذين انتفضوا على مبارك وأجبروه على التنحي في 11 فبراير شباط ونقل سلطاته الى المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
وقالت الوكالة “سوف يجري اختيار وتسكين ضباط القطاع الجديد خلال الايام القليلة القادمة ليؤدي ذلك الجهاز دوره في خدمة الوطن دون تدخل في حياة المواطنين أو ممارستهم لحقوقهم السياسية.”
وكانت لجهاز مباحث أمن الدولة مثل نظيره السابق في ألمانيا الشرقية سلطات واسعة تمتد من التدخل في انتخابات اتحادات طلاب الجامعات الى التعيين في مناصب شركات القطاع العام.
وزادت الضغوط من أجل حل الجهاز بعد اقتحام مقار له من قبل محتجين في محافظات مختلفة أوائل الشهر الحالي. وعثر المقتحمون على كميات كبيرة من الوثائق السرية المدمرة والسليمة وأدوات وأماكن التعذيب مما بين الى أي حد كان الجهاز موغلا في التنصت على المواطنين.
وألقي القبض على مدير الجهاز للتحقيق معه في قتل متظاهرين خلال الاحتجاجات. وتم القبض على 47 من ضباط الجهاز للتحقيق معهم في حرق وتدمير الوثائق.
ووصف متحدث باسم جماعة الاخوان المسلمين قرار حل الجهاز بأنه ” خطوة في الاتجاه الصحيح.” وقال نشطاء ان بقاء جهاز مباحث أمن الدولة كان خطرا على امالهم في تحول مصر من دولة شمولية قمعية الى نظام ديمقراطي.
(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 15 مارس 2011)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.