رغم تحديات الثورة.. الإستقطاب الأيديولوجي يعود بقوة إلى تونس!
تدُل كل المؤشرات على أن المواجهة بين حركة النهضة وأغلب فصائل اليسار التونسي، مرشحة لكي تتسع دائرتها خلال الفترة القادمة..
ومن غير المستبعَـد أن تطغى هذه المواجهة على مُـختلف محاور الصِّـراع، التي ستبرُز مع قُـرب انطلاق حملة انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، الذي حدَّدت له الحكومة موعِـدا نهائيا هو 23 أكتوبر القادم.
وفي الواقع، يعود الإستقطاب الثنائي بين الإسلاميين واليسار في تونس، إلى عوامِـل متعدِّدة، بعضها مَـوْرُوث عن المرحلة السابقة للثورة، وبعضها الآخر أفرزته المرحلة الرَّاهنة، نتيجة الأحداث والتَّـراكُـمات التي حصلت خلال الأشهر الخمسة الأخيرة.
طيّ مرحلة طويلة من القطيعة والصراع
قبل أربعين عاما، فوجِـئ اليسار الماركسي التونسي بوِلادة الحركة الإسلامية واعتبرها منذ اللحظة الأولى، كائنا غريبا غيْـر مرغوب فيه، وشنّ عليها حربا سياسية وأيديولوجية عاصفة، باعتبارها “رأس حربة للنظام الدستوري وأداة تُـحرِّكها الإمبريالية ضد القِـوى التقدُّمية والثورية في العالم العربي”. وقد شهدت نتيجة ذلك، رحاب الجامعة التونسية منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي معارك طاحِـنة بين الطرفيْـن، اتَّـسمت في بعض الأحيان بتبادُل العنف الجسدي.
استمرت تلك المشاحنات بين الطرفيْـن، حتى بعد استلام الرئيس السابق زين العابدين بن علي السلطة، الذي سعى إلى توظيفها لتعزيز نفوذه. وفي هذا السياق، يتهم “النهضويون” عموم اليساريين أو أجزاء منهم بالتعاون مع أجهزة الأمن في معركتها الشرسة التي خاضتها ضد حركتهم من أجل اجتثاثها، وهي التهمة التي تتبرَّأ منها أطراف يسارية أو محسوبة على اليسار، اعترضت على محاكمة الإسلاميين أو دخلت في مواجهة مبكّـرة مع نظام بن علي، وإن كان ذلك لا يبرِّئ الجميع، حسب اعتقادات البعض وشهاداتهم.
كانت مبادرة 18 أكتوبر (أطلقت خريف عام 2005) بمثابة التحوُّل الكبير في علاقة بعض فصائل اليسار التونسي بحركة النهضة خصوصا، وبالإسلاميين عموما. وإذا كان هناك مَـن لا يزال يصنّـف “الحزب الديمقراطي التقدمي”، الذي كان طرفا رئيسا فيها، ضمن خانة اليسار رغم التطوُّرات النوعية التي شهدها هذا الحزب وقياداته على الصعيديْـن، الأيديولوجي والسياسي، إلا أن “حزب العمال الشيوعي التونسي” لا يشك أحد في محافظته على انتمائه الماركسي اللينيني وخصومته التاريخية مع الإسلاميين. ومع ذلك، فقد قرر ضِـمن تلك المبادرة أن ينسِّـق مع حركة النهضة، طاويا بذلك مرحلة طويلة من القطيعة والصراع. لكن معظم مكوِّنات الساحة اليسارية اعترضت بشدّة على تلك المبادرة وأدانت مَـن قاموا بها من رُفقاء الأمس، واستنكروا ما وصفوه بالتحالف المشبوه مع “قوى الرِّجعية الدينية “.
حسم المعركة نهائيا!
اليوم، يبدو المشهد غيْـر مختلف كثيرا عمَّـا كان عليه في الثمانينات. فقسم واسع من أوساط اليسار وجَـد في العودة القوية للإسلاميين إلى الساحة السياسية – ليس فقط “خطرا داهما” – وإنما أيضا فرصة لإعادة توحيد قوى اليسار من جديد ضد “عدوٍّ مُـشترَك”. وفي المقابل رأى بعض الإسلاميين أن الوقت قد حان لحسْـم المعركة نهائيا مع خصومهم التاريخيين.
ففي مقال نُـشِـر على صفحات الإنترنت، اعتبر (بوعبد الله بوعبـد اللـــــــه) أن “اليسار لا قوَّة له أمام الجماهير، وقوَّته الحالية، هي بقاء بعض أتْـباعه في مواقع القرار يخطِّـطون لانتصاره أو أخف الأضرار الممكنة، اليساري الشيوعي في تونس، ميزته الدَّهاء والتوافق معه، يحتِّـم علينا أن نكون أكثر دهاء منه ولا نخدع مرّتين، فكل الحركات الشعبية في تونس، يجني دوما اليسار التونسي ثمارها”، ويختم مقاله بالتساؤل التالي “لماذا نترك له الفرصة هذه المرة ولا ندخل معه في مواجهة حاسمة؟”.
ما الذي حدث حتى تتدَحْـرج العلاقة بين الطرفين إلى هذا الطريق المسدود؟ بعد 14 يناير 2011، تاريخ فِـرار الرئيس السابق، بدت العلاقة بين النهضة واليسار عادِية ولم تُـوحِ باحتمال حُـدوث مواجهة عاصفة بينهما. فالحركة من جهتها، تجنَّـبت كل ما من شأنه أو يُـوحي بأنها ترغَـب في تغيير سريع للمشهد ولموازين القوى، من ذلك، أنها حرِصت على أن تكون شريكا فاعلا في مختلف المبادرات السياسية.
في البداية، أيَّـدت إنشاء مجلس لحماية الثورة، وعندما فشلت تلك الصيغة واقترحت الحكومة إنشاء (الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي)، قبلت الحركة الانخراط فيها، حتى بعد أن تمَّ توسيعها لتضُـم عددا واسعا ممَّـن وُصِـفوا بالشخصيات المستقلِـَّـة، صحيح أنه أثار جدلا واسعا قد حصل حول الهوية السياسية أو الفكرية لهذه الشخصيات، إلا أن ذلك لم يحل دون التوافق حول التركيبة النهائية للهيئة.
“مؤامرة”!
بعد التصويت على القانون الانتخابي، الذي حال دون هيْـمنة أي حزب على أغلبية مقاعد المجلس التأسيسي، وبعد أن تم انتخاب الهيئة العليا المستقِـلة لتنظيم الانتخابات بعيدا عن منطق الوفاق، وبعد أزمة تأجيل موعد هذه الانتخابات إلى 23 أكتوبر وتزامـن ذلك مع انطلاق مناقشة مُـسودّة (العهد الجمهوري)، التي فجَّـرت خلافات واسعة، هزَّت كثيرا من صورة أعضاء الهيئة لدى التونسيين، وصولا إلى فتح ملف قانون الأحزاب، وبالأخص مصادر تمويلها.
في ظل كل هذه التَّـراكُـمات، سيْـطرت فِـكرة محورية على قادة حركة النهضة وأنصارها، مفادُها وجود “مؤامرة” تحاك ضدّها من قبل خصومها “التاريخيين” (أي اليسار)، وأن أداة تنفيذ تلك المؤامرة، هي الهيئة العُـليا لتحقيق أهداف الثورة والهيئة الفرعية التي انبثق عنها. وعلّـلت اتهامها بأن كِـلا الهيئتيْـن “يسيْـطر عليهما تيار أيديولوجي واحد هو “حركة التجديد”، ذات التوجُّـه اليساري.
انتقادات واتهامات وتشكيك
في خط مُـوازٍ لذلك، صعَّـدت مختلف الأحزاب من انتقاداتها لحركة النهضة، وفي مقدمتها الحزب الديمقراطي التقدمي، متهمة إياها بـ “ازدواجية الخطاب” و”تكريس توجه ديني غيْـر ديمقراطي” و”التهرّب من التقيُّـد بقواعد اللعبة الديمقراطية”، وهو ما نفتَـْـه حركة النهضة بشِـدَّة، مُـعتبِـرة أن ما يجري هو “محاولة أقلية سياسية، فرض إرادتها على أغلبية شعبية”، كما جاء على لسان عدد من قياديِّـيها، وفي مقدمتهم الشيخ راشد الغنونشي.
وبالتزامن مع ذلك، وجدت الحركة نفسها متَّـهمة أيضا من قِـبل خصومها، بالوقوف وراء ما تشهده الساحة الإسلامية العريضة في تونس من تجاذُبات وممارسات غيْـر ديمقراطية ترتكبها هذه الجهة أو تلك، وكان آخرها أحداث العنف الخطيرة التي شهدتها يوم الأحد 26 يونيو قاعة سينما شهيرة بقلب العاصمة التونسية، والتي أعقبتها من الغد اعتداءات غير مسبوقة على عدد من المحامين من قِـبل أشخاص زعم البعض أنهم منسوبون إلى حزب التحرير والتيار السلفي.
ورغم أن موقف النهضة من العنف معروف، كما أنه من الثابت عدم وقوفها وراء هذا الإنزلاق نحو المساس بحرية التفكير والتعبير، غير أنه – في أجواء الشحن الأيديولوجي – يجوز تبادُل التُّـهم من أجل عزْل الخصوم والتشكيك في نواياهم، لهذا “يتوجَّـس الفاعلون السياسيون خيفة من أن يتحول الإستقطاب إلى شرخ في مسار الحراك السياسي، الذي حافظ نسبيا منذ الثورة على حدٍّ أدنى من التوازن”، كما ورد في افتتاحية جريدة “الصحافة” (حكومية).
أجواء مشحونة
وفي خِـضَـمِّ هذه الأجواء المشحونة، أخذ الصراع السياسي يفقِـد مضامينه الأساسية، ذات العلاقة العضوية بأهداف الثورة وإشكاليات الإنتقال الديمقراطي، ليغرق تدريجيا في “هوامش أيديولوجية” بعيدة عن هموم التونسيين وأوليـاتهم.
وبشكل عام، يشعر التونسيون بقلق شديد تُـجاه ما يحدث في هذه الزاوية أو تلك من بلادهم، وكلَّـما أحسوا بعودة الإستقرار، إلا وباغتتهم أحداث تُـشعِـرهم من جديد بأن ثورتهم لا تزال في خطر وأن نُـخبتهم تفتقِـر لشروط القيادة الحكيمة.
وما العودة إلى الاستقطاب الأيديولوجي في مستوياته “البدائية”، ليس سوى مؤشِّـر على عمق المسافة بين الوعْـي والخطاب، ومع أن مثل هذه التجاذُبات قد تكون مفهومة في المراحل العادية، لكنها قد تكتسي طابَـعا كارثيا في مراحل الإنتقال الثوري والديمقراطي في بلد بحجم تونس، وهو ما يستوجِـب تدخُّـل العقلاء، عساهُـم يعيدوا البَـوْصلة إلى موقع الوسطية ويقرِّبوا المعتدلين من الطرفيْـن، حتى لا ينجح الغلاة بمختلف ألوانهم في مصادرة الثورة ويمهِّـدوا الطريق إلى عودة الدكتاتورية. ومن المؤكد أن ذلك لن يحصل – بحسب كثيرين – إلا بإعادة بناء التوافُـق الوطني من جديد وعلى أسس متينة.
حذر راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة الإسلامية التونسية الثلاثاء (28 يونيو) من أن أي حكومة تونسية قادمة لا تضم إسلاميين “ستكون بالتأكيد ضعيفة”. وأوضح الغنوشي في مقابلة مع وكالة فرانس برس أن “الحركة الإسلامية الوسطية، تمثل التيار الرئيسي في العالم العربي”.
وأضاف “وهو ما يجعل أي عملية ديمقراطية صادقة ستقود الحركة الإسلامية إلى السلطة، منفردة أو مشاركة مع غيرها”، مؤكدا تفضيل حزبه لتقاسم السلطة مع قوى سياسية أخرى. وقال الغنوشي إن حركته “تعد أكبر حزب في البلاد”، محذرا من أن “أي حكومة لا تضم ممثلين عن الحركة، ستكون بالتأكيد ضعيفة”.
وفي السياق ذاته، قال الغنوشي إن انسحاب حزبه من “الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والانتقال الديمقراطي والإصلاح السياسي”، أبرز الهيئات الاستشارية التي شكَّـلتها السلطات الانتقالية بُعيد الإطاحة ببن علي لتأطير الانتقال الديمقراطي في تونس، “يقلِّـص من شرعية هذه الهيئة”.
وعزا هذا الانسحاب إلى “تخلي الهيئة عن مبدإ الوفاق والتشاور التي انبنت عليها والانحراف بها عن مهامها باتجاه انتحال صفة برلمان منتخب وتعطيل البت في المسائل ذات الأولوية التي لها علاقة مباشرة بإنجاز الانتخابات المقبلة في موعدها”.
وثار خلاف داخل الهيئة في الآونة الأخيرة حول مسألة تمويل الأحزاب وضوابطه التي جاءت في مشروع المرسوم المتعلق بتنظيم الأحزاب السياسية، وسط اتهامات متبادلة في الساحة السياسية التونسية بتلقي “تمويلات مشبوهة”.
وشكلت هذه النقطة، إضافة إلى معارضة بعض القوى والشخصيات في الهيئة تنصيص عقد سياسي بين الأحزاب التونسية، على تجريم التطبيع مع إسرائيل، موضع جدل كبير داخل الهيئة والمنابر السياسية والإعلامية في تونس في الأيام الأخيرة.
كما اعتبرت بعض الأحزاب السياسية، بينها النهضة، أن سعْـي الهيئة العليا غيْـر المنتخبة إلى وضع قوانين، يشكل “استباقا” ومحاولة لمصادرة دوْر المجلس الوطني التأسيسي المنتخب من الشعب.
ونفى الغنوشي أن يكون قانون تمويل الأحزاب ومسألة التطبيع مع إسرائيل، مبررا لخروج حزب النهضة من الهيئة العليا. وقال “ليس لدينا مشكل خاص يتعلق بالتمويل. فنحن حزب يعمل في إطار قانون الأحزاب ومستعدُّون للكشْـف عن حساباتنا، كما أن العقد الجمهوري يتضمَّـن نصّـا صريحا حول مسألة التطبيع”.
وفي تونس اليوم، أكثر من 90 حزبا، أغلبها نالت ترخيصها بعد “ثورة الكرامة والحرية”. وحول إمكانية العودة إلى الهيئة، أجاب الغنوشي “نعتبر أن الهيئة توشك على استكمال وإنجاز عملها بعد أن اختارت قانونا انتخابيا ولجنة عليا للانتخابات، ولم يبق إلا تحديد قوائم الممنوعين (من انتخابات المجلس التأسيسي) وينتهي عملها”.
وحول مسار “الربيع العربي”، قال الغنوشي “نحن متفائلون. فقد نجحت الشَّـرارة التي انطلقت من تونس في إضاءة سماء العالم العربي، التي ظلَّـت معتمة لنصف قرن، بسبب الأنظمة الديكتاتورية المدعومة غربيا”. وأضاف “هنالك ثورات نجحت وأخرى في الطريق”.
بيد أنه شدد على أن “هنالك قوى تدفع بالثورة إلى الأمام من أجل إنتاج نظام ديمقراطي عادل في تونس وقوى تشد إلى الوراء”، مشيرا إلى التجمع الدستوري الديمقراطي، حزب بن علي المنحَـل وإدارة البوليس السياسي وقسم من الإعلام في البلاد. غير أنه بدا واثقا من قدرة شباب تونس على حماية الثورة. وقال في هذا الصدد “النظام القديم لم يذهب حتى يعود، لكننا واثقون من أن الشباب الذي صنع الثورة، سيضع القطار من جديد على السكة”.
ومن المقرر أن تنظّـم في تونس في 23 أكتوبر انتخابات مجلس وطني تأسيسي، تتمثل مهمته الأساسية في صياغة دستور جديد للجمهورية الثانية في تاريخ تونس المستقلة، ليحل محل دستور 1959.
وعاد الغنوشي، الذي امضى 20 عاما في المنفى بلندن، إلى تونس في شهر يناير الماضي بُـعيد الإطاحة بنظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، الذي كان قمع بشدة الإسلاميين. وحصل حزب النهضة على ترخيص العمل القانوني في مارس الماضي.
(المصدر: وكالة الصحافة الفرنسية أ. ف. ب بتاريخ 28 يونيو 2011)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.