سباق محموم بين إيران وأمريكا على وراثة “الجبنة اللبنانية”
في هذه الأيام يبدو التنافس محموماً وعلى المكشوف بين الولايات المتحدة وإيران على وراثة "الجُبنة اللبنانية".
فمساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى جيفري فيلتمان، لم يترك مسؤولاً أو سياسياً لبنانياً واحداً لم يزره (عدا الجنرال ميشال عون) لينقل إليهم جميعاً في بداية شهر مايو الجاري رسالة يتيمة: أمريكا لن تتسامح مع أي محاولة لبنانية لكسر أو خرق العقوبات الأوروبية والأمريكية على سوريا وإيران، خاصة في القطاع المصرفي؛ ولن تقبل بالطبع بأن يتحوّل لبنان إلى منطقة نفوذ صافية لطهران.
في المقابل، كان نائب الرئيس الإيراني محمد رضا رحيمي، الذي وصل إلى بيروت في اليوم نفسه الذي حط فيه فيلتمان الرحال فيها، يجول هو الآخر على القيادات اللبنانية حاملاً في جعبته مشاريع اتفاقات تعاون ضخمة بين البلدين، كانت نسخة طبق الأصل عن الإتفاقات التي وقّعها هو قبل أيام في العراق. لابل يبدو أن المسؤول الإيراني الكبير تعمّد أن يُبقي اسم العراق على نص هذه الإتفاقات بدل لبنان، ربما للدلالة على أن بلاده تعبتر مصالحها الإقليمية في لبنان في أهمية نفوذها الإقليمي الإستراتيجي في العراق.
هذا الإشتباك الأمريكي- الإيراني المكشوف فوق/وعلى أرض الأرز، وضع حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، التي يهيمن عليها تيار 8 آذار/مارس بقيادة حزب الله، في حيص بيص. فلا هي قادرة، بسبب الخلافات السياسية والمالية التي تعصف بها، على قبول الضغوط الإيرانية (والسورية) التي تريد أن تضعها بوضوح في “خندق الممانعة”، ولا في مقدورها تحدي الإرادة الأمريكية حيال مسألة العقوبات، لأن من شأن ذلك تعريض الكيان المصرفي اللبناني إلى عقوبات قد تؤدي إلى تصدعه، وبالتالي إلى تصدُّع لبنان نفسه.
والحصيلة: شلل حكومي لبنان شامل في السياسة الخارجية بسبب الأزمة السورية، تطابق مع شلل شامل أيضاً في السياسة الداخلية حيال القضايا الإقتصادية والمالية والمعيشية، وحتى السياسية.
معسكران.. واستقطاب.. وانتظار
لكن، لماذا هذا الشلل، وإلى متى يمكن أن يستمر؟ هذا سؤال محوري بالطبع. لكن ينبثق منه سؤالان قد يكونا أهم وأدق: هل ينجذب لبنان، في نهاية المطاف، إلى ثقالة جاذبية الأزمة السورية، بحكم دورانه الجيو-استراتيجي طيلة نيف و40 سنة في فلك هذه الجارة الكبيرة، أم سيكون قادراً هذه المرة، وإن نسبياً، على الإفلات من حتميات الجغرافية والتاريخ؟ وهل قرار الإرتباط أو الفكاك من الأزمة السورية، التي لاتزال تبدو حتى الآن طاحنة وفق كل المعايير، في يد الأطراف السياسية اللبنانية المتنازعة أم هو في يد النظام السوري الراهن؟
بداية، يمكن القول أن القوى السياسية اللبنانية التي تنقسم، كما هو معروف، إلى معسكرين كبيرين هما 8 آذار/مارس المدعوم سورياً وإيرانياً بقيادة حزب الله، و14 آذار/مارس المساند سعودياً وأمريكياً بقيادة تيار المستقبل، تُمارس منذ سنة وحتى الآن استراتيجية انتظار إزاء الأزمة السورية في إطار “حرب باردة” حقيقية بينها.
هذه الإستراتيجية، التي أُطلِق عليها اسم مميّز هو “سياسة النأي بالنفس”، تستند عملياً إلى التكتيك التالي: الجلوس بأقصى هدوء ممكن في غرفة الإنتظار، إلى حين اتضاح مصير العملية الجراحية الدقيقة التي تعاينها سورية هذه الأيام في غرفة العناية الفائقة.
بيد أن تكتيك الانتظار السياسي هذا لايعني بالضرورة الحصافة الفكرية المستندة إلى النبض الوطني أو المصلحة الوطنية اللبنانية. إذ أن كلاً من الطرفين ينطلق من قناعة لم تهتز منذ سنة وشهرين (هي عمر الأزمة السورية الراهنة) بأن ثمرة النصر ستقع في النهاية في حضنه، إما عبر خروج النظام السوري حيّاً من الأزمة، كما يعتقد 8 آذار/مارس، أو بسقوطه الحتمي، كما يؤمن 14 آذار/مارس.
وانطلاقاً من هذا الإيمان وذاك الاعتقاد، يبني كل طرف حساباته إما لتكريس واقع موازين القوى الراهنة في لبنان التي تميل لصالح حزب الله وحلفائه (مسيحيو ميشال عون وسليمان فرنجية، ودروز طلال أرسلان ووئام وهاب، وبعض أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية سابقاً)، أو لتغيير هذه الموازين كما يأمل تيار المستقبل وحلفاؤه (مسيحيو سمير جعجع والكتائب، ودروز وليد جنبلاط، وبعض أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية السابقة).
هذا الإستقطاب الإنتظاري يفسّر أسباب الجمود الكامل في مشاريع الحوار الوطني في لبنان التي كانت تجري طيلة سنوات عدة برعاية رئيس الجمهورية ميشال سليمان. فحزب الله رفض كلياً الوثيقة التي أصدرها تيار 14 آذار/مارس مؤخراً والداعية إلى “الحوار والانفتاح، وبناء السلام الداخلي، والدولة الجامعة”. كذلك، حين دعا رئيس الحكومة السابق سعد الحريري الطائفة الشيعية إلى “أن نصنع مصيرنا معا”، رد عليه زعيم حزب الله السيد حسن نصر الله بالقول: “لستم في موقع يسمح لكم بمنح الضمانات في لبنان والمنطقة، لأن اللعبة أكبر منكم”.
وتيار 14 آذار/مارس، بدوره، رفض دعوات الرئيس سليمان المتكررة إلى استئناف ما انقطع من حوار وطني، طارحاً شرطاً لم يكُ يتمسك به سابقاً قبل الحوار، وهو إعلان حزب الله استعداده لتسليم سلاحه إلى الدولة، في إطار استراتيجية جديدة للدفاع الوطني.
الدافع في كلا الحالين لدى الطرفين معاً واحد: الرهان على التغيير أو اللاتغيير في سورية التي كانت لها اليد الطولى في رسم معالم موازين القوى الراهنة في لبنان، منذ أن استلم الرئيس حافظ الأسد زمام السلطة في دمشق العام 1970، ومنذ أن تبنى استراتيجية تثبيت استقرار سورية عبر ممارسة نفوذ إقليمي كاسح خاصة في لبنان والقضية الفلسطينية (ولاحقاً “القضية” الإيرانية).
أربع احتمالات
هكذا، إذن، يبدو مشهد موازين القوى السياسة في لبنان إزاء الأزمة السورية. فماذا عن احتمالات تغيّر الأوضاع، وإلى متى يمكن أن تستمر لعبة الانتظار الدقيقة هذه، التي تشبه إلى حد بعيد لعبة الرقص على رؤوس الأفاعي (وفق تعبير الرئيس اليمني السابق علي صالح)؟
السيناريو الأول: استمرار حالة الانتظار الراهنة، بالتزامن مع تحوّل الوضع السوري إلى أزمة مديدة وممتدة تتراقص على تخوم الحرب الأهلية لكنها لاتقع تماماً في وهدتها. وفي هذه الحالة، ستتواصل وضعية “اللاحرب وااللاسلم” بين الأطراف اللبنانية المتنازعة، مع مايرافق ذلك من شلل شبه تام في عمل الحكومة وشلل تام في عملية بناء الدولة.
السيناريو الثاني: احتمال تغيُّر موقف النظام السوري من سياسة النأي عن النفس اللبنانية، وتحوّله من الضغط الناعم على لبنان إلى الضغط الخشن عليه، بهدف حرف أنظار الشعب السوري عن الأزمة الداخلية، وفي الوقت نفسه تحويل لبنان مجدداً (وكما اعتادت دمشق أن تفعل طيلة الحرب الأهلية فيه التي كانت هي أحد عواملها المحرِّكة الرئيس) إلى ساحة صراع وإلى صندوق رسائل إلى القوى الإقليمية والدولية حول استمرار قدرة النظام على تفجير الأوضاع في المنطقة في حال استمرار الضغط عليه. وحينها، قد يعمد النظام إلى جر حزب الله المتمنِّع إلى معمعة داخلية لبنانية لايريدها.
السيناريو الثالث: حدوث “إنقلاب قصر” (علوي) في سورية، برعاية روسية- أميركية هذه المرة، يتضمن إطاحة الترويكا السورية الحاكمة حالياً (الرئيس الأسد وشقيقه بشار وصهره آصف شوكت) ، وتدشين مرحلة انتقالية تعددية على النمط اليمني، أو إبرام اتفاق طائف سوري (تيمناً باتفاق الطائف اللبناني) لتقاسم جديد للسلطة بين السنّة والعلويين. وفي هذه الحالة، قد تتفاقم الأزمة في لبنان، أو حتى تنفجر، لأن فريق 14 آذار/مارس سيفسّر هذا التطور على أنه سحب للبساط الإقليمي والدولي من تحت أرجل حزب الله، وسيحاول فرض تنازلات عليه تحت شعار “خضوع الجميع إلى سلطة الدولة”.
السيناريو الرابع: يتضمن احتمال وصول الأطراف اللبنانية في لحظة ما إلى استنتاجات خاطئة إزاء مآل النظام السوري، إما بالاعتقاد باحتمال نجاحه الوشيك (8 آذار/مارس) أو سقوطه الوشيك (14 آذار/مارس)، فتقوم بعمليات تصعيد بدعم من قوى إقليمية ودولية، تسفر في خاتمة المطاف عن جر لبنان عملياً إلى أتون الأزمة السورية.
هل هي البداية؟
كما هو واضح من هذه السيناريوهات، ليس ثمة ماهو إيجابي فيها بالنسبة إلى لبنان، على المدى القصير على الأقل. وهذا أمر غير مفاجيء في الواقع. فكما أسلفنا، لا تنبع منطلقات القوى السياسية اللبنانية من نبض وطني ولا حتى من مصلحة لبنانية، بل من حسابات براغماتية باردة لموازين قوى في الداخل ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتحالفات عُضوية مع القوى الإقليمية والدولية في الخارج.
ولأن الصورة على هذا النحو، لامناص من توقّع سقوط لبنان في لحظة ما ضحية التنافسات الإقليمية – الدولية على النفوذ فيه، في إطار الصراع الإيراني- الأمريكي العام في الشرق الأوسط. ومثل هذه التنافسات ستزداد ضراوة بين طهران وبين واشنطن (والسعودية) في حال أيقن الإيرانيون والأمريكيون أن نهاية النظام السوري، التي تبدو حتمية، باتت وشيكة.
وزيارتا فيلتمان ورحيمي المتزامنة إلى لبنان، تشي بأن رحلة هذه التنافسات الضارية، بدأت بالفعل!
أجرى السيناتور الاميركي جو ليبرمان يوم الأربعاء 2 مايو 2012 جولة في شمال لبنان وصولا إلى الحدود مع سوريا والتقى ممثلين عن اللاجئين السوريين في لبنان، بحسب ما أفاد مسؤول محلي وكالة فرانس برس.
وقال محمود خزعل الرئيس السابق لبلدية المقيبلة الحدودية في وادي خالد شمال لبنان والذي يتابع شؤون النازحين السوريين إن السيناتور ليبرمان وصل على رأس وفد الى المنطقة الحدودية بمواكبة من الجيش اللبناني.
والتقى السيناتور الأمريكي حوالى 25 ممثلا عن اللاجئين في منزل خزعل واستعلم عن الظروف التي يعيشون فيها، وما اذا كانت المساعدات التي تصلهم كافية.
واكتفت السفارة الامريكية في بيروت باصدار بيان قالت فيه ان ليبرمان الذي يقوم بجولة اقليمية “ناقش العلاقات الثنائية (اللبنانية الاميركية) والأوضاع في سوريا” اثناء لقائه الرئيس اللبناني ميشال سليمان ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي.
ويُعدّ السيناتور ليبرمان مقربا من السيناتور الجمهوري جون ماكين، وهما يدعمان خيار تدخل عسكري في سوريا ينطوي على توجيه ضربات عسكرية ضد القوات السورية النظامية.
وتتزامن زيارة السيناتور ليبرمان مع الزيارة التي يقوم بها جيفري فيلتمان مساعد وزيرة الخارجية الاميركية لشؤون الشرق الاوسط هيلاري كلينتون.
وقال مصدر حكومي لبناني لفرانس برس إن “الأمريكيين قلقون حول مستقبل المسيحيين الذين تتناقص اعدادهم في العالم العربي ويراقبون عن كثب تبعات الوضع في سوريا على لبنان”.
وينقسم لبنان بين مؤيدين للنظام السوري ومعظمهم في قوى الثامن من آذار وأبرز أركانها حزب الله، ومناهضين لدمشق ومعظمهم من قوى الرابع عشر من آذار المعارضة.
(المصدر: وكالة الصحافة الفرنسية فرانس برس بتاريخ 2 مايو 2012)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.