“سقوط النظام السّوري سيُحوّل العراق إلى ساحة حرب مع إيران”
جاء ابتعاد الرئيس العراقي جلال الطالباني عن المشهد السياسي في فترة دقيقة بلغت فيها التناقضات في العراق، إن على الخط الطائفي أم المناطقي أم الحزبي، مستوى من الإحتقان لم تصله منذ الغزو الأمريكي للعراق قبل عشر سنوات.
بل إن غياب الطالباني نفسه كان جزءا من التأزم العام إذ أصيب رئيس الدولة بجلطة دماغية بعد اجتماع عاصف مع رئيس الحكومة نوري المالكي، في أعقاب وصوله من كردستان، حيث استمع إلى دعوات ملحة للتوسط.
وكانت محاولة الوساطة ترمي لوقف الإنزلاق نحو مواجهة ارتدت طابعا طائفيا بين المالكي من جهة والسنة. والأخطر من ذلك أن “وساطة” الطالباني كانت مدفوعة أيضا باستفحال الخلاف بين إقليم كرستان العراق والحكومة المركزية إلى درجة أن الفريقين حشدا قواتهما على حدود الإقليم، وخاصة في المدن والمناطق المتنازع عليها، أي التي لا تسكنها غالبية كردية وتصر حكومة كردستان على ضمها إليها.
وعلى رغم أن عراقيين كثرا يرفضون الإعتراف بأي دور إيجابي لطالباني، انطلاقا من توجّسهم من صداقته مع طهران، مُذكرين بأنه جلس إلى جانب الرئيس الإيراني ولم يوجد بينهما سوى علم واحد هو علم إيران، فإنه ليست هناك في العراق اليوم شخصية قادرة على محاورة المالكي وخصومه في آن معا عدا الطالباني.
وإذا ما ابتعد هذا الأخير نهائيا عن مسرح السياسة، فالظاهر أن الرئيس المقبل لن يملك من الأوراق ما يملكه الطالباني، إذ أن المرشحين لخلافته، إذا ما استثنينا نائب الرئيس خضير الخزاعي (وهو شيعي يحمل الجنسيتين الإيرانية والكندية) وطارق الهاشمي وهو سني ومحكوم بالإعدام غيابيا خمس مرات، هم ثلاثة: برهم صالح (كردي) وهو نائب الطالباني في رئاسة الإتحاد الوطني الكردستاني ورئيس البرلمان أسامة النجيفي (عربي سني) و.. زوجة الطالباني التي تحتل موقعا متقدما في حزبه وهي كردية.
منزلق طائفي
وفي تصريحات لـ swissinfo.ch، قال الإعلامي العراقي سامان عبد الساتر: “إن الدستور العراقي ينص على أن (يحل نائب رئيس الجمهورية بدلا من الرئيس عند غيابه)، وفي هذه الحالة فإن نائبيه لا حظوظ لهما في الصعود إلى سدة الرئاسة بحكم المحاصصة الطائفية” السائدة منذ احتلال البلد في 2003.
ورجح عبد الساتر ألا يفتح السنة ملف استعادة رئاسة الجمهورية التي انتزعت منهم في 2004 وأعطيت إلى رئيس كردي للمرة الأولى في تاريخ العراق، لأنهم يريدون كسب الأكراد إلى صفهم في المعركة التي فتحها عليهم المالكي.
وكرست الهجومات الأمنية والملاحقات القضائية التي أمر بها المالكي ضد شخصيات سنية بارزة بدءا من نائب الرئيس طارق الهاشمي، وانتهاء بوزير المالية رافع العيساوي (الذي اعتقل أفراد حمايته أمام عينيه وفي مكتبه بالوزارة، عندما كان في اجتماع رسمي مع نائب رئيس الوزراء من دون أن يستطيع فعل شيء لحمايتهم) المنحى الطائفي للصراع، والذي بدا أيضا كصراع بين العرب العراقيين سنة وشيعة من جهة وإيران من جهة ثانية. ويتساءل كثير من العراقيين عن الأسباب التي جعلت 95 في المائة من المعتقلين في سجون البلد من السّنة، مؤكدين أنه مؤشر على “الحرب الطائفية” التي تخوضها الحكومة ضدهم بلا هوادة.
عصيان مدني
هذه الأجواء المشحونة زادت تلبدا بالصراع الدائر في سوريا المجاورة، والتي يقف فيها المالكي بشكل صريح مع نظام بشار الأسد مُسهّلا نقل الدعم العسكري واللوجستي الإيراني إلى سوريا عبر العراق، بينما تتعاطف الغالبية السنية مع الثوار السوريين. وفي خضم هذا الإحتقان الطائفي خطت المناطق السنية المعارضة للمالكي خطوة جديدة بإعلانها العصيان المدني من محافظة الأنبار ذات الغالبية السنية، واندلاع مظاهرات رفع خلالها المتظاهرون العلم العراقي الذي كان معتمدا في ظل نظام صدام حسين وعلم الجيش السوري الحر.
في سياق متصل، أصدر نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي، الذي صدرت بحقه أحكام غيابية بالإعدام، بيانا أثنى فيه على الإحتجاجات وقال: “إن المالكي أسيرُ عقلية مريضة ومهوُوس بالسلطة.” وامتد هذا الإحتقان إلى بغداد التي تشهد منذ أكثر من أسبوع، تصعيدا في الإجراءات الأمنية، من خلال زيادة عدد نقاط التفتيش المتنقلة تحسبا لأي طارئ.
المحلل جميل الذيابي اعتبر من جهته أن المالكي “يُمارس الدكتاتورية تحت مسميات عدة، فلم يعد يسمع سوى صوته وأوامر طهران، وحوّل قوات العمليات الخاصة العراقية، إلى حراسة له يُطلق عليها اسم” فدائيي المالكي” أسوة بـ (فدائيي صدام)”. واعتبر الذيابي أن ممارسات رئيس الوزراء العراقي “تضع المسمار الأخير في نعش المشاركة الوطنية واستقرار البلاد”.
من هنا جاءت دعوة ائتلاف “العراقية” (السني) أخيراً إلى التهديد بالإنسحاب من العملية السياسية ومقاطعة جلسة الحكومة المقبلة، احتجاجاً على اعتقال حرس وزير المال العيساوي، إضافة إلى الملاحقة الطائفية لنائب الرئيس الهاشمي. وقد أدت هذه السياسات السلطوية المتسمة بمنزع طائفي إلى إبقاء العراق في ترتيب متقدم بين الدول العشر الأولى المصنفة دولياً في خانة “الدول الفاشلة”.
غضب تركي
تركيا دخلت بدورها على الخط مؤيدة للسنة في خطوة تعكس تصاعد الصراع المكتوم بين القوتين الرئيسيتين في المنطقة إيران وتركيا، إذ أرجأ الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد مؤخرا زيارة كانت مقررة لأنقرة، ثم ما لبث رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أن اتهم نوري المالكي بانتهاج سياسة طائفية، مؤكدا أنه سيناقش القضية العراقية بالإضافة للملف السوري خلال زيارته القريبة إلى واشنطن. وهو ما يعني أن إمكانات التهدئة والمصالحة تبتعد أكثر فأكثر، خصوصا في ظل إصرار المالكي على رفض الحوار وتعمّد التصعيد مع خصومه.
الأكاديمي العراقي المستقل الدكتور سيار الجميل استبعد الإتجاه نحو مصالحة سياسية في الأمد المنظور “لأنه لا توجد مبادئ مشتركة يمكن أن يتفق عليها الجميع بوصفها معايير وطنية” على حد قوله. وأكد في تصريح لـswissinfo.ch أن “الصراع أخذ بعدا جديدا لأنه لم يعد صراعا سياسيا وإنما صراع مصالح، والمصالح ليست سياسية فهي إما طائفية أو سلطوية أو مشروعات نهب منظم خاضعة لإرادة الآخرين، سواء أكان الآخرون يعملون للأجندة الأمريكية أم الإيرانية”. وأشار إلى أن المشادة الكلامية بين الطالباني والمالكي سبقتها تهديدات ولغة بذيئة لا تنحو نحو خدمة الصالح العام وإنما لتصفية حسابات.
واعتبر الجميل أن الطالباني “يُعول عليه بعد هذه السنوات الطويلة في جمع الفرقاء، لكن يبدو أنه لم يعد قادرا أو بات في موقع ضعيف نظرا لزئبقيته التي تدعو إلى التساؤل: هل هو يريد العراق أم كردستان؟ وهل يريد أن يبقى المالكي في الحكم أم غيره؟ وهل ينوي الإبقاء على تحالف كردي – شيعي ضد الآخرين أم لا؟ّ”. وبعد التذكير بأجواء التراشق بالإتهامات التي سبقت المشادة بين المالكي والطالباني والصراع على كركوك المتنازع عليها بين الأكراد والعرب، استخلص الدكتور سيار الجميل أن “مُجمل ما يحصل الآن لا يصبّ في أي نوع من التوافق فكيف ستستمر الشراكة السياسية التي سادت حتى الآن؟” واعتبر أن كل الطروحات تلبس لبوسا سياسيا لكنها فاقدة لمشروع وطني.
خط التماس مع إيران
ولدى سؤاله عمن يُحرك هذه الصراعات، أشار الجميل إلى أن سنة 2012 أبصرت إثارة زوابع واختلاق مشكلات قد تنطلق من أمور صحيحة لكن نتساءل عمن يُهندسها ويثيرها، ما جعل مسؤولا في منصب رفيع يُتهم بتهم خطرة ويصدر بحقه حكم بالإعدام بينما هو يتمتع بالحصانة، فإن كانت عليه مآخذ كيف يُسكت عليه طوال هذه المدة، وكيف يمارس مهامه طيلة ست سنوات؟ ولماذا في 2012 بينما نحن انتقدناه منذ 2005؟ وأشار إلى أن هناك أناسا متهمين بالقتل منذ سنوات لكنهم لم يُحاسبوا حتى اليوم، فلماذا يُحاسب زيد ويُغض الطرف عن عمرو؟ وعزا الدكتور الجميل ما يواجهه بلده اليوم من أزمات إلى “التأسيس الخاطئ الذي قام على المحاصصة بشكل وزع العراقيين على خنادق طائفية واستبعد أي مشروع وطني”.
أما عن المستقبل القريب، فيعتقد الجميل، الذي ألف عشرات الكتب ونشر مئات المقالات عن تاريخ العراق الحديث، أن الأمر “يتوقف على التطورات في سوريا” لأن البلدين يرتبطان بعلاقات تاريخية عضوية ليس فقط منذ القدم بل أيضا طيلة الخمسين سنة الماضية، إذ كان يحكمهما حزب واحد لكنه منشق على نفسه، كما عاش الشعبان في لهيب نفس الشعارات والممارسات وأساليب الحكم الإستبدادية، فإذا كانت هذه العوامل التاريخية مشتركة فإن “النتائج ستكون متقاربة”، حسب رأيه.
ولا ريب بأن سقوط النظام السوري سيفتح جبهة طويلة ضد نظام الحكم في العراق، فمجيء نظام جديد في دمشق سيكون بالضرورة ضد سياسات النظام الذي سبقه، وبالتالي فلن يكون ممالئا للعراق ولا لإيران اللذين دعما بشار الأسد. وبالمقابل سيكون السنة العراقيون حلفاء للنظام الجديد في سوريا، وهذا يعني أن الصراع الحالي لن يبقى داخل حدود العراق وإنما ستكون سوريا أيضا ساحة له مثلما أن العراق سيكون ساحة للصراع ضد السياسة الإيرانية.
وفي ختام حديثه، استدرك الدكتور الجميل قائلا: “هذه رؤية أتخوف منها، وهو خوف لا يبعث عليه القلق على مصير أنظمة الحكم بل على المُجتمعين العراقي والسوري من حرب أهلية وتمزق داخلي وزيادة التدخل الإيراني في الشأن العراقي، بحجة الحماية أو ما شابه ذلك، والخوف أيضا من المدى الزمني الذي ستأخذه تلك الفترة الصعبة، فبالمقارنة مع لبنان مثلا الذي عرف مشاكل عويصة وعاش حربا أهلية بين 1975 و1990 يبدو وضع العراق أعقد وأصعب، لأن لبنان لا يقع على خط تماس مع إيران طوله 1200 كيلومترا”..!
تظاهر الاف العراقيين في مدينتي الرمادي وسامراء يوم الاربعاء 26 ديسمبر 2012 مطالبين الحكومة المركزية بوقف ما اعتبروه “استهدافا للسنة” في البلاد، وفقا لمراسلي وكالة فرانس برس.
وتجمع آلاف المتظاهرين وبينهم شيوخ عشائر واعضاء في مجلس محافظة الانبار ومواطنون على الطريق الرئيسي في الرمادي (100 كلم غرب بغداد) الذي يربط العراق بسوريا والاردن حيث يواصلون قطعه منذ ايام بالاتجاهين.
وشارك في التظاهرة وزير المالية رافع العيساوي الذي كانت قضية اعتقال بعض افراد حمايته الاسبوع الماضي شرارة انطلاق الاحتجاجات التي بدات مطالبة باطلاق سراحهم واتسعت الى المطالبة بوقف “استهداف السنة” والافراج عن معتقلات نساء.
ورفع المتظاهرون لافتات كتب على احداها “ثورة ضد الظلم والاستبداد”، و على اخرى “جماهير الانبار تستنكر استهداف الرموز السياسية والدينية السنية”.
وشاركت وفود اتت من اقليم كردستان ورفعت لافتات مناهضة للحكومة كتب على احداها “اهالي كردستان يتضامنون مع اهالي الانبار”.
وطالبت النائب ناهدة الدايني في كلمة امام المتظاهرين السكان السنة الذين يقطون في بغداد بالانضمام الى “ثورة الانبار”.
وفي سامراء (110 كلم شمال بغداد)، تجمع المئات وبينهم اعضاء برلمان ومسؤولون محليون امام مسجد الرزاق في وسط المدينة، وقد رفع بعضهم اعلام النظام السابق التي تحتوي على ثلاث نجمات.
وردد المتظاهرون هتافات مناهضة لرئيس الحكومة الشيعي نوري المالكي، بينها “يا مالكي يا جبان يا عميل ايران”، قبل ان يتلو النائب شعلان الكريم بيانا طالب فيه باطلاق “سراح المعتقلين والمعتقلات، وتعديل قانون المساءلة والعدالة”.
كما دعا الى “ايقاف الاستملاك حول ضريح الامامين” العسكريين في سامراء التي تسكنها غالبية سنية، والعودة الى طاولة الحوار “من اجل الوصول الى اسرع الحلول للقضاء على الفتنة”.
وقال امام وخطيب جامع سامراء محمد السامرائي “هذا استهداف سني صرف (…) الحكومة المركزية تستهدف السنة فقط”.
وكان المالكي الذي يحكم البلاد منذ 2006 دعا السبت الى مواجهة فتنة طائفية جديدة “يراد للعراق ان يعود اليها”.
ويشهد العراق منذ الانسحاب الاميركي قبل عام ازمة سياسية متواصلة حيث يواجه المالكي اتهامات من قبل خصومه السياسيين بالتفرد والتسلط.
وعاش العراق بين 2006 و2008 نزاعا طائفيا داميا بين السنة والشيعة قتل فيه عشرات الآلاف.
(المصدر: وكالة الصحافة الفرنسية أ ف ب بتاريخ 26 ديسمبر 2012)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.