سويسرا… بلد السكك الحديدية تراهن على الطرق السريعة أيضًا
أمام تزايد احتياجات السكان إلى التنقل، تبلغ بعض الطرقات السريعة السويسرية حدّ الاختناق. فقد ضاعت قرابة 50 ألف ساعة العام الماضي، بسبب الاختناقات المروريّة. ومع ذلك، يستثني أهل الاختصاص البنية التحتية، من أصل المشكل.
هل ما نراه هو أن الطرق السريعة السويسرية تدفع ثمن نجاحها؟ لأنه إذا ما استثنينا فترة من التباطؤ التام خلال جائحة كورونا، فإن عدد المركبات التي تستخدم الطرق السريعة في تزايد مضطرد.
ويشير المكتب الفدرالي للطرق (OFROU)، في تحليله السنوي لحركة المروررابط خارجي على الطرق الوطنية، إلى أنه تم قطع ما يقارب 30 مليار كيلومتر على امتداد شبكة الطرق العام الماضي، بزيادة قدرها 1.5٪ مقارنة بعام 2022 – وأكثر من 130٪ منذ عام 1990.
سيُعرض على الشعب السويسريّ للتصويت يوم 24 نوفمبر، أكبر مشروع للطرقات السريعة في العقود الأخيرة.
فتسعى السلطات إلى توسّيع العديد من المقاطع الموجودة، للحدّ من الاختناقات المركّزة أساسا على الطريق السريع (A1)، أطول طريق سريع يعبر البلاد من الغرب إلى الشرق. لكن لم يرحّب أنصار التنقّل المريح بهذا المشروع.
وارتأينا وضع الواقع السويسري في السياق الدولي، لاشتراك العديد من البلدان في مشاكل الازدحام ومستقبل التنقّل.
فهل تدفع الطرق السريعة السويسرية ثمن نجاحها؟ فإذا ما استثنينا فترة من التباطؤ التام خلال جائحة كورونا، لاحظنا تزايدا رهيبا في عدد المركبات قيد الجولان.
ولا يمثّل النمو الديموغرافي سوى سبب واحد من أسباب الظاهرة، لتسارع وتيرة حركة المرور على الطرقات السريعة، التي تفوق عدد السكان بكثير، على مدار الثلاثين عامًا الماضية. فيقول لورنزو كولانتوني، مسؤول الاتصالات في مكتب الطرقات الفدرالي: “وما يفسّر هذه الظاهرة أيضا، النشاط الاقتصاديّ، وتزايد حاجة السكان إلى التنقّل سواء للتجوّل، أو للعمل.”
ويرى ألكسيس غومي، الباحث المشارك في مختبر علم الاجتماع الحضري بالمدرسة الفدرالية متعددة التقنيات في لوزانرابط خارجي، أن الزيادة في حركة المرور الفردية، قد يعود بعضها إلى نوع من “التبعية لمواعيد العمل”، أي إلى إقامة الشخص بعيدا عن مكان عمله، نتيجة تفاقم أزمة السكن في المدن الكبرى.
تتقاسم في سويسرا، الدولة الفدراليّة، والكونفدرالية، والكانتونات، والبلديات، المسؤولية عن بنية الطرقات التحتية. فتسيّر الكونفدرالية الوطنية منها، أي المحاور الرئيسية المهمّة في البلاد. وتتمثل أساساً في طرقات سيّارة (4 حارات وأكثر)، أو طرقات شبه سيّارة (طرقات سريعة ذات حارتين أو ثلاث حارات)، تربط بين المناطق المختلفة، وسويسرا ببقية أوروبا، وتعمل أيضًا كطرقات اجتنابية للمناطق المأهولة بالسكان.
حاليًا، تمتلك سويسرا ما يزيد قليلاً عن 2،250 كيلومترًا من الطرقات الوطنية، منها 1550 كيلومترًا من الطرقات السريعةرابط خارجي، و440 كيلومترًا من الطرقات شبه السريعة. .
اختناقات مرورية قياسية
وترتفع وتيرة الازدحام باطّراد نتيجة هذه الحركة الكثيفة. فقفزت مدة الاختناقات المرورية عام 2023، بنسبة 22٪ مقارنة بالعام السابق، وقاربت 49 ألف ساعة، ما يعتبره مكتب الطرق الفدرالي عددا قياسيا.
ولا تنتج معظم الاختناقات المرورية عن حوادث أو أشغال، بل عن اكتظاظ في حركة المرور. وتفوق مدتها الإجمالية، حركة المرور على الطرق. ويرى مكتب الطرقات الفدرالي أن ذاك دليل على أن “الشبكة بلغت مرحلة التشبّع”. وأكد لورينزو كولانتو، المتحدث باسم هذه الهيأة ذلك فقال: “قد يخلّف أدنى اضطراب عواقب وخيمة على تدفّق حركة المرور”.
ولئن شاعت هذه المشاكل في معظم المناطق الحضرية، فقد تصدّرت عدّة مدن سويسرية، المراتب الأولى في أحدث تصنيف لأكثر المدن ازدحاما في العالمرابط خارجي، أعدّه عملاق تكنولوجيا نظام تحديد المواقع العالمي “توم توم جي بي أس” (GPS Tom Tom).
واستناداً إلى حسابات المكتب الفدرالي للتنمية الإقليميةرابط خارجي (ARE)، أضاعت الاختناقات المرورية في سويسرا، من الوقت 73 مليون ساعة عام 2019، وتقدر قيمتها الاقتصادية بنحو 3 مليارات فرنك. كما أوضح لورينزو كولانتوني أنّها تخلّف “عواقب وخيمة على السكان والبيئة” (اللجوء المكثف إلى استعمال طرقات التجنب، وزيادة المخاطر على السلامة، وزيادة الضوضاء والانبعاثات الملوثة، وغيرها).
شبكة طرقات سريعة “فاخرة”
لقد زادت نسبة امتداد الطرقات السريعة الأوروبية عن 70٪ في المتوسط، على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، وفق لجنة أوروبا الاقتصادية التابعة للأمم المتحدة (UNECEرابط خارجي)، مع وجود فوارق كبيرة حسب الدول. بينما لم تمتدّ الشبكة السويسرية،المخطّط لها في ستينات القرن الماضي، وأنجزت تدريجياً، “سوى” بنسبة 14٪ منذ عام 2005.
لكن، تظلّ شبكة الطرقات السريعة السويسريّة كثيفة، مقارنة بعدد سكان البلد، أو مساحته. وبالنظر إلى التضاريس الجبلية، فهي تمتد إلى جميع المناطقرابط خارجي والمدن الرئيسية، وتربطها بأكثر من عشرين مقطعاً، تعبر البلد من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب.
وبينما يرى أناستاسيوس كوفيلاس، مدير هندسة المرور في معهد تخطيط وأنظمة النقل،رابط خارجي في المعهد التقني الفدرالي العالي في زيورخ (ETH Zurich)، أن “اتساع الطرقات السريعة في سويسرا كاف”، يعتبر ألكسيس غومي، من المعهد التقني الفدرالي العالي في لوزان (EPFL)، أن نوعية العروض الجيدة، وقرب الطريق السريع من المنزل، يحفّزان التنقل للعمل. فيقول: “لا شك أن ذلك يعيق حركة المرور على الطرق”.
وتخصّص سويسرا موارد معتبرة لطرقها السريعة. فقد أنفقت عام 2021، أكثر من ملياري فرنك (2 مليار يورو) على الاستثماراترابط خارجي، وهو أعلى مبلغ سُجّل بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية،رابط خارجي التي تتوفر عنها بيانات قابلة للمقارنة. كما تُعتبر من الدول التي دفعت أكثر من غيرها في مجال الصيانة (أكثر من 300 مليون فرنك).
السيّارة تبقى متربّعة على العرش
تُعرف سويسرا بأنّها من أكثر الدول التي يفضّل فيها الناس القطارات على وسائل النقل الأخرى، كما تقلّ فيها نسبة التنقل بالسيارة عن المتوسط الأوروبي، لكنّها تظل مع ذلك، أكثر وسائل النقل استعمالاً على الإطلاق، خاصة للرحلات اليومية.
وتشكّل الأسر التي لا تملك سيارة أقلية، فتملك 80 % منهارابط خارجي سيارة واحدة على الأقل، مقارنة ب 85٪ في فرنسا و62٪ في الدنماركرابط خارجي. وشهد عددرابط خارجي السيارات ارتفاعا متواصلا في العقود الأخيرة، فقارب 4،8 ملايين سيارة في اليوم، أي حوالي 540 سيارة لكل 1،000 نسمة، ما يقرب من المتوسّط الأوروبيرابط خارجي.
كما تُعتبر السيارة غالبًا أقرب وسائل النقل إلى القدرة الشرائيّة. فيشير الباحث إلى أن “استعمال البنية التحتية للطرق السريعة في سويسرا، ليس مكلفا كثيراً مقارنة بدول أخرى”. إذ تسمح قسيمة الطرق السريعة السويسرية باستعمال الشبكة كاملة بلا حدود، لمدة عام مقابل 40 فرنكًا، وهو مبلغ أقلرابط خارجي ممّا هو مفروض في بلدان أخرى تطبّق نظام القسيمة، وتلك التي تفرض رسوماً حسب المسافة المقطوعة.
ويعتبر ألكسيس غومي التنقل المستدام في الوقت نفسه، “باهظ الثمن، وليس متاحاً للجميع”.
كما تتخذ المسألة بعدا بيئيّا، فرغم انخفاض انبعاثات الغازات الدفيئة الناتجة عن النقل البري للفرد الواحد خلال ثلاثين عامًا في سويسرا، لا تزال تقارب ثلث إجمالي الانبعاثات، التي التزم البلد بتخفيضها في إطار اتفاقيات باريس.
هل الحلّ في توسيع الطرقات السريعة؟
يساهم كل ذلك في استمرار تكثّف السيارات على الطرق، وتفاقم الاختناقات، التي ترى السلطات أنّها لا يمكن أن تخفّفها إلّا “أشغال توسيع مدروسة ومحددة”. لكن هل يمثّل ذلك حلّا فعلاً؟ لا يعتقد العديد من أهل الاختصاص ممن استجوبتهم سويس إنفو (SWI swissinfo.ch)، ذلك. بل ترى “حركة المرور المستحدثة”، إمكانيّة وقوع العكس في غضون سنوات قليلة. فقد أثبتت عدّة دراسات أجريت في مدن كبرى مختلفة (توجد ملخّصة في مجلةرابط خارجي صادرة بالفرنسية عام 2012، وفي أخرىرابط خارجي أحدث، صادرة بالإنجليزية)، أن توسيع الشبكة يؤدي إلى تخفيف الازدحام فعلا، لكن على المدى القصير فقط، أيّ لفترة تتراوح بين سنتين وخمس سنوات، لأنّ سهولة السفر بالسيارة تحثّ على التنقل والسفر.
يقول ألكسيس غومي: “عموماً، سنعود بعد عشر سنوات إلى الازدحام، لكن بأربعين ألف مركبة إضافية، أي بتوسيع الطريق السريع من جديد، فهي حركة مرور محكومة بالامتداد على بقية الشبكة، ما يهدّد بتشكيل عُقد في أماكن أخرى، خاصة عند المخارج.”
ولا يشكّك مكتب الطرق الفدرالي في ازدياد حركة المرور على الطرقات السريعة، إذا أُنجِزت مشاريع التوسيع. لكن، يوضح لورينزو كولانتوني، أنّها لن تكون حركة مرور جديدة، “بل مجرد إرجاع تدفق المركبات إلى الطرقات الوطنية، وهو الذي يدفعه الاختناق الحالي نحو الشبكة الفرعية.”
فما هي الحلول إذن، في ظلّ تزايد الطلب الحتميّ على التنقل في المستقبل؟ يرى أناستاسيوس كوفيلاس، المتخصّص في تحسين بنية الطرقات التحتية، إمكانيّة الاستمرار في استغلال التكنولوجيا الذكية “لمراقبة البنية التحتية، والتدخل الديناميكي في حال الازدحام”، لا سيما من خلال فتح حركة المرور على حارات الطرق السريعة في الاتجاه المعاكس. فتخصّص سويسرا حارة الطوارئ، والتكييّف الديناميكي لحدود السرعة في أماكن معيّنة منذ مدة، لكن يرى الباحث أنّهما في ألمانيا مثلا، أكثر تطورًا.
وتقتضي الخيارات العمل حسب الطلب، سواءً من خلال اللجوء إلى أشكال أخرى من وسائل النقل، خاصة الجماعية منها (مشاركة المركبات والنقل العمومي)، أو من خلال تشجيع حركة المرور خارج ساعات الذروة.
وفي كلّ الاحوال، يعُدّ أليكسيس غومي إمكانيّة الحدّ من مشاكل الازدحام عن طريق البنية التحتية، حلّا هامشياً، إذ “لها جذور بنيوية، وتدلّ قبل كلّ شيء على أنه قد آن أوان التخطيط لشيء آخر، وإن عادت سيولة الطريق يومًا ما، فذلك يعني أننا قد أحرزنا تقدّمًا كبيرًا في أشكال التنقل الأخرى.”
تحرير: سامويل جابرغ
ترجمة: موسى آشرشور
مراجعة: أمل المكي
التدقيق اللغوي: لمياء الواد
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.