سويسرا والوساطـة لحل النـزاعات في إفـريقـيا
إذا كانت النزاعات المسلحة تعصف بالقارة السمراء اليوم، فإن ذلك لا يعني أن الأفارقة مولعون بمقاتلة بعضهم بعضا. بل على العكس من ذلك، هم يطوّرون تقـليدا عريقا لديهم في مجال الحوار والتفاوض. هذه الحقيقة لفت الأنظار إليها مؤخرا المؤتمر السنوي لقسم الأمن الإنساني بوزارة الخارجية السويسرية.
توجه يوم الثلاثاء 14 أكتوبر إلى قاعة المؤتمرات بـ “ملعب سويسرا” الحديث ببرن حوالي 400 شخص من دبلوماسيين وموظّفين دوليين وأعضاء منظمات غير حكومية، سويسريين وأفارقة، جاؤوا للاستماع والمشاركة في الحوار حول “الوساطة في النزاعات الإفريقية”، وهو المحور الذي أختاره قسم السلام الإنساني هذه السنة.
وفي كلمتها الافتتاحية، أشارت وزيرة الخارجية السويسرية ميشلين كالمي-ري إلى أن على سويسرا، قبل كل شيء، أن تـضع خبرتها في مجال الوساطة تحت تصرف “الوسطاء الأفارقة، والمنظمات الإفريقية الإقليمية، والإتحاد الإفريقي”.
وبالنسبة لجبريل يبيني باسـُولي، رئيس بعثة المفاوضين بالإتحاد الأوروبي وبالأمم المتحدة من أجل السلام في دارفور، تُعتبر القارة الإفريقية أرض تفاوض قبل أن تكون مسرح نزاعات. وفيها يعقد الأهالي مجالس شعبية يُطَوّر فيها تقليد الحوار وحل النزاعات بطرق سلمية.
ونـظرا لتجربته في الميدان، يوجد السيد باسـولي في وضع يسمح له بالتأكيد على أن الحلول المستوردة لا تنفع في معالجة النزاعات الإفريقية. فالوساطة في إفريقيا يجب أن يتكفّل بها الأفارقة في المقام الأول.
السلام أو العدالة؟
هذه الوساطة لا يجب أن تقصي أحدا. وبالنسبة لجوليان هوتنغر: “إذا كنت ترغب في الحصول على شيء، عليك أن تتكلم مع الطرف الذي يسبب لك أكبر قدر من المشاكل”.
فهذا الوسيط السويسري المحنّك، إلتقى مرات عديدة جوزيف كوني، زعيم حرب في شمال أوغندا، الذي اشتهر خصوصا بخطف الأطفال لتجنيدهم عنوة في قواته، أو استعبادهم واستغلالهم جنسيا.
هل يجوز التفاوض إذن مع أشخاص مثل هؤلاء تتهمهم محكمة العدل الدولية بارتكاب جرائم ضد الإنسانية؟ الجواب لأسف نعم، بالنسبة للمشاركين في المؤتمر من السويسريين وغيرهم.
والسبب أن أي اتفاق سلام يقصي أحد أطراف النزاع لا يساوي شيئا. و”الأشرار”، ليسوا بالضرورة دائما متمردين، فقد يكونوا أيضا في هرم السلطة.
بطء، تواضع، إذعان
ومع ذلك، لا يجب على الوسطاء بيع ضمائرهم. لا مجال مثلا لتأييد العفو على مجرمي الحرب، وجوليان هوتنغر في هذه النقطة مقتنع بأنه لن يستتب السلام من دون تحقيق العدالة. ويحذّر الوسيط السويسري من أن “هذا الأمر يستغرق وقتا”.
وخلال المؤتمر، تكررت على أفواه المتدخلين كثيرا كلمات مثل “بطء، تواضع، خضوع”. ومهما كانت طبيعة النزاع، لا أحد يمتلك حلولا سحرية.
ولا يجب أن ننسى أن أي اتفاق سلام ليس في الغالب، كما تقول ميشلين كالمي-ري، سوى “نجاح عبر مراحل”. ثم علينا أن نرى بعد ذلك إن كان هذا الاتفاق سيجد طريقه إلى التنفيذ.
سويسرا، نموذجا؟
يحظى الوسطاء السويسريون في الغالب بالإعجاب والقبول، فهم ينحدرون من بلد صغير محايد، ليس له ماض استعماري، ولا أجندة سياسية خفية.
ومع ذلك، لم تكن سمعة سويسرا باستمرار ناصعة في القارة السوداء، فقد ساندت نظام التمييز العنصري في جنوب إفريقيا، وفتحت أبواب مصارفها للثروات المشبوهة التي كدّسها الحكام الدكتاتوريون.
فهل تم نسيان كل ذلك؟ يجيب جوليان هوتنغر: “ذَكّروني بذلك، لكن من دون لوم أو عتاب. وحصل ذلك دائما من أجل فتح باب النقاش، أو طلب استفسار. وفي أغلب الأوقات، إذا ما خصصت وقتا للاعتذار، لأن هناك أشياء يجب الاعتذار عنها، فإنهم يقبلون”.
جذور العنف
في آخر المطاف، هل الوساطة أسلوب ناجح؟ الإحصاءات لا تدعو إلى التفاؤل. نجد اليوم 21 بلدا في إفريقيا (نصف القارة تقريبا) تعيش حالة نزاع أو عدة نزاعات، وهذه النزاعات في أغلبها حروب أهلية.
ورغم ذلك، ومثلما أشارت وزيرة الخارجية السويسرية، ونصُّ “تقرير الأمن الإنساني” لسنة 2007، تقلص عدد النزاعات المسلحة في بلدان جنوب الصحراء بمعدل النصف منذ سنة 1999، وتراجع عدد الضحايا المباشرين للحروب في إفريقيا بنسبة 80%.
ويأسف جوليان هوتنغر لكون الأضواء، عندما يتعلق الأمر بإفريقيا، “تركّز على الأمور السلبية، وتنسى ما هو إيجابي. فالناس هناك لا يحبون القتال (بالفطرة)، بل إن الأوضاع التي يوجدون فيها هي التي تساهم في خلق ذلك العنف”.
وعلى سبيل الذّكر لا الحصر، نوه إلى “فترة الاستعمار الطويلة، وعملية خروج المستعمر، التي لم تتم بشكل جيد”، من دون نسيان “البصمات التي تركتها الحرب الباردة، عندما كانت إفريقيا مسرحا للتنافس على مواقع النفوذ بين القطبين”.
صراع من أجل البقاء لا أكثر
فترة الصراع بين الأقطاب المتنافسة انتهت، ولا تنازع اليوم من أجل هذه الإيديولوجيا أو تلك، الصراع اليوم فقط من أجل البقاء.
ويختم جوليان هوتنغر قائلا: “غالبية المجموعات المسلحة التي نتفاوض معها اليوم، ليس لها باع طويل في الماركسية اللينينية، ولا حتى الرؤى الليبيرالية الكبرى. فهم لا يرغبون بالضرورة في تغيير النظام السائد، كل ما يريدون هو تقاسم أفضل للثروة والقوة من قبل النخب التي تهيمن على السلطة، لكي يستفيد المجتمع من جزء منها”.
سويس إنفو – مارك-أندري ميزري
تحل النزاعات الحديثة في أغلب الأحيان عبر الجلوس إلى طاولة المفاوضات، وليس عبر التقاتل في الميدان. وخلال السنوات السبع الأخيرة، انتهت في العالم خمسة حروب عبر انتصار عسكري، وسبعة عشر عبر التفاوض.
يحظى دور الوساطة لسويسرا، هذا البلد الصغير المحايد، بالتقدير والإعجاب. ومنذ سنة 2000، نشط الوسطاء السويسريون في 15 بلدا، من ضمنها بلدان إفريقية كالسودان، وأوغندا، وجمهورية إفريقيا الوسطى، والصومال وبورندي.
عندما تعرضت ستيلاّ سابيتي للتعذيب لأول مرة على يد زبانية الدكتاتور عيدي أمين، كانت لا تزال طالبة في أوغندا. وبينما انهال زبانية الدكتاتور عيدي أمين دادا على هذه الشابة الحامل بالضرب، لاحظت أن أعين هؤلاء خالية من الكراهية والغضب. وكانت على قناعة أن وراء هذه الوجوه هناك أب لعائلة، فبدأت تسـلهم عما أعدت لهم زوجاتهم من طعام في اليوم السابق. وبعد رد فعل أوّل تميّز بالمفاجأة والعنف، أجابها أحدهم، ثم لحق به الآخرون. وفي آخر المطاف، بدأ الجميع يضحكون، وتآلفوا بينهم.
لأنها بحثت دائما عن رؤية ذلك الإنسان الذي يختفي وراء صورة المحارب، أصبحت ستيلاّ سابيتي، اليوم، وبعد 30 عاما، المسؤولة عن تعزيز السلام في إطار الإتحاد الإفريقي. ولعل شهادة هذه السيدة أفضل وأكثر إفادة من خطب طويلة في هذا المجال.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.