عندما تتحوّل “القرية الإنسانية” إلى مختبر للسلام
تجمّـع آلاف متطوِّعي الصليب ولأحمر والهلال الأحمر القادمين من شتى أنحاء العالم في مدينة سولفيرينو، شمال إيطاليا، للاحتفاء بمرور 150 عاما على إنشاء الحركة من طرف السويسري هنري دونان. تحقيق من القرية الإنسانية
تقوم الحركة الدولية للصليب الأحمر على مبادئ أساسية، تتلخّـصُ في الإنسانية والنزاهة والحياد والكونية والوحدة والاستقلالية والتطوّع، ويحرِصُ الناشطون فيها على التأكيد بأن عمل الفرد كفيل بإحداث الفارق من أجل تغيير العالم الذي نعيش فيه.
في القرية الإنسانية، التي أقامها الصليب الأحمر الإيطالي، والواقعة على مشارف سولفيرينو، هناك حركة حثيثة للغادين والرائحين. كل شيء جاهز لاستضافة 5000 متطوِّع ومشارك في الملتقى الدولي الثالث للشباب، الذي ينعقد تحت شعار “شباب يتحرّك لفعل المزيد والأحسن وللوصول إلى أبعد مدى”.
ورغم التوتّـر الذي لا يُـمكن الإفلات منه، لأن تنظيم حدث من هذا القبيل، يتطلّـب طاقة ضخمة لا تغيب البسمة وفُـرص التعاون. في هذه الأجواء، لا يجد طومّـازو ديلاّ لونغا، المسؤول عن المكتب الإعلامي، فرصة للتوقّـف، ومع ذلك، يجد الوقت للإنصات إلى الجميع، على غِـرار جميع المتطوِّعين الآخرين، المستعدِّين لإدارة شؤون نساء ورجال، يُـمثِّـلون 186 جمعية وطنية من كافة أنحاء العالم.
لقد قدِموا من سيراليون وكوت ديفوار وأفغانستان وميانمار وإسرائيل وفلسطين، مندفعين ومؤمِّـلين وتتملّـكهم الرغبة في التعرف على الآخرين وتبادل التجارب والرؤى معهم، وهم لا يتردّدون في التأكيد بأن الدافع الكامن وراء انخراطهم، عادةً ما يتلخّـص في رغبة دفينة في تحقيق مُـثل عُـليا على أرض الواقع، وهو ما يقومون بإنجازه في مُـعظم الحالات، بعيدا عن الأضواء في ظلّ الصمت الذي يكتنف النشاط اليومي.
لا ينفكّ المشاركون في الملتقى عن عقد الاجتماعات وتبادل وجهات النظر ومناقشتها ورسم الخرائط لأشكال جديدة من التضامن، وكأن القرية الإنسانية التي تحتضنهم، تحوّلت إلى مختبر فريد لإنجاز السلام، الذي تزداد حاجة عالم اليوم إليه أكثر من أي وقت مضى.
الإنسانية والمزيد من الإنسانية
روبيرتا زوكينيا (33 عاما)، تقدُم من رومانيا وهي تُـقيم في جنيف، حيث تعمل في الأمانة العامة للفدرالية الدولية لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر، مسؤولة عن المتطوِّعين الشبان. ومع أنها متطوِّعة في الصليب الأحمر منذ 15 عاما، إلا أنها لم تفقِـد اندفاعتها المثالية، التي صاحبت بدايات انخراطها في هذا المسار.
المشاركة في تجمّـع عالمي، تظل دائما فرصة نُـموّ ونُـضج لأي شاب تُتاح إليه الفرصة، والأكيد أن تبادل وجهات النظر والخبرات والتجارب مع شبان من بلدان أخرى يُـشاطرونه نفس المُـثل والقِـيم، يُـمثِّـل لحظة فريدة، وخاصة لأولئك الذين يقدُمون من أوضاع وظروف بعيدة جدا، مثلما هو الحال بالنسبة للجزر الواقعة في المحيط الهادي.
وتقول روبيرتا زوكينيا “إنها طريقة توفِّـر إمكانية ملامسة ضخامة الحركة، التي يُـمكن لها الاعتماد على 100 مليون متطوِّع في العالم”، وهي لا تشكّ لحظة واحدة أن “الإنسانية” هي أهمّ المبادئ الأثيرة على الإطلاق لدى هنري دونان، مؤسس الصليب الأحمر، وتضيف أنه “المبدأ الذي قاد على مدى الـ 150 عاما الماضية الصليب الأحمر منذ تأسيسه، وهو الذي يقود اليوم أيضا الشبان والشيوخ المتطوِّعين، الذين يضعون أنفسهم يوميا على ذمّـة الإنسانية، لتحسين حياة الأشخاص الضعفاء، دون أي تمييز وبعيدا عن أية أفكار مُـسبقة”.
عندما تكون المساعدة.. غير مرئية
ولكن، كيف يُـمكن النظر إلى هذا العالم الذي يبدو مُـفتقِـرا بشكل مثير للفزع إلى الإنسانية؟ تُـجيب السيدة زوكينيا “في العالم، تواجَـد الخير والشرّ على الدوام، لكن يُـمكنني التأكيد أن الرغبة في التضامن، لم تتراجع بالمرة. فعندما ألحق الزلزال ضررا بليغا بمنطقة أبروتسو Abruzzo، وسط إيطاليا، كانت قائمة الانتظار للمتطوِّعين المستعدّين لتقديم يد المساعدة، طويلة جدا، أي أنه عندما توجد حاجة إليهم يُـجيب المتطوِّعون: نحن هنا، فهُـم الأوائل عند الوصول والأخيرون عند المغادرة”.
ولدى تذكيرها بقدر لا بأس به من التشاؤم والانشغال بما يُـميِّـز عالم اليوم من عواطف تزداد جفافا وأنانية، تردّ روبيرتا برسالة أمل “صحيح. في العالم الذي نعيش فيه، هناك حجم هائل من المشاكل: العنف وهجرات متفاقمة وغياب للأمن، لكنني أؤكّـد أنه سيكون هناك دائما أشخاص مستعدّون لوضع أنفسهم على ذمّـة الآخرين لمساعدتهم. هذا هو ما قمت به أنا كشابة متطوِّعة.. وهذا ما يقوم به في العالم المائة مليون متطوّع التابعون للصليب الأحمر والهلال الأحمر كل يوم، وفي معظم الأحيان بصمت. إن المتطوِّعين هم القاعدة غير المرئية لحركة الصليب الأحمر. غير مرئية، لكنها حاضرة وملموسة ويُـمكن الاعتماد عليها وكريمة ولا تطلُـب شيئا في المقابل، أما في الأجيال الجديدة، فإن البذرة من أجل إقامة عالم أفضل، لا تنتظر إلا توفير الرعاية لها”.
وتضيف روبيرتا مع شيء من الحِـرص على أنه كثيرا ما يُـنسى أن الشبان بالتحديد، هم الأكثر ميلا لاتِّـباع المُـثل العليا وأن الشبان هم الذين ينزلون، في أغلب الحالات، إلى الساحات للمطالبة بالعدالة والمساواة والحرية.
التطوّع لا يكلِّـف شيئا.. لكنه يمنح الكثير
بداية القصّـة كانت درسا حول الصليب الأحمر وانتهى المطاف إلى تحمُّـل مسؤولية المتطوِّعين الشبان.. طريق طويل قطعته روبيرتا مُـقتفية أثر دُفعة مثالية كانت كامنة لديها منذ مراهقتها. كانت مرافقة لأطفال مصابين بالسرطان أودعوا المستشفيات، وقدّمت النجدة إلى ضحايا الزلازل والفيضانات وساعدت مهاجرين في الرمق الأخير لدى نزولهم على الشواطئ الإيطالية. واليوم، تعمل في جنيف، وتقول: “العمل التطوّعي لا يُـكلِّـف شيئا، لكنه يمنح الكثير”.
ولو أتيح لك لقاء هنري دونان، ما الذي كنتِ ترغبين قوله أو فعله؟ تجيب: “بالتأكيد، كُـنتُ سأقضّـي الساعات في الحديث معه. لقد كان شابا مثاليا جدا، في الوقت نفسه، كان يهتمّ بثقافات أخرى، بل بدأ أيضا في الاقتراب من الإسلام. لقد أدّى انفتاحه وافتقاره للأفكار المُـسبقة إلى تغيير تاريخ العالم”.
فرانسواز غيهرينغ – سولفيرينو – swissinfo.ch
يوفِّـر عام 2009 فرصة نادرة لاستعادة أحداثٍ شديدة الأهمية في تاريخ العمل الإنساني.
مرور 150 عاما على ظهور فكرة الصليب الأحمر في أعقاب معركة سولفيرينو، التي دارت رحاها في شمال إيطاليا يوم 24 يونيو 1859.
انقضاء 90 عاما على تأسيس الفدرالية الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر (مقرها جنيف).
مرور 60 عاما على المصادقة على معاهدات جنيف الأربع، التي تُـمثل الركيزة القانونية للقانون الدولي الإنساني.
الذكرى الـ 50 بتأسيس المتحف الدولي للصليب الأحمر في بلدة كاستيليوني ديلّـي ستفييري، قرب سولفيرينو.
داخل القرية الإنسانية، التي أقامها الصليب الأحمر الإيطالي، تمّ تخصيص فضاء واسعٍ للأنشطة، سُـمِـيّ “شارع العمل الإنساني“، سيقوم المتطوِّعون فيه بإظهار براعاتهم وقدُراتهم في مواجهة الحالات الطارئة.
هذا المعرض الإنساني يشتمل أيضا على سلسلة من الأجنحة، التي تقوم فيها الجمعيات الوطنية والأقسام التابعة للفدرالية، بعرض تجاربها ومعارفها والتعريف بأنشطتها.
يوم 27 يونيو، قُـدِّم عرضٌ تصويري، استرجع مسيرة الممرضات والمساعدات اللواتي شاركن في نقل الجرحى من ساحة المعركة في سولفيرينو إلى أول موقِـع لتقديم الإسعاف والعلاج.
أضخم وفد ممثِّـل للجمعيات الوطنية كان من إيطاليا (745 متطوِّع) متبوعا بالوفد الفرنسي (310)والإسباني (262).
أصغر شاب مشارك في التظاهرة هو عارف براسّـيتيا (18 عاما)، من إندونيسيا، أما أكبر المشاركين سنا، فهو أهلا لام يان فون، رئيس الصليب الأحمر في جزر موريس (70 عاما).
الوفد الذي قدِم من أبعد نقطة في العالم، جاء من جزر كوك (قرب أستراليا).
المطعم الذي يُـشرف على تسييره طباخون من صقلية، سيقوم بإعداد أكثر من 15000 وجبة في اليوم مقسّـمة إلى 5 أصناف مختلفة للاستجابة للمتطلّـبات الغذائية الخاصة بشتى الديانات والثقافات، وهي: كاشير (يهودية) ونباتية وإسلامية ومتوسطية وخالية من مادة الغلوتين (أو الدابوق).
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.