فتنة إمبابة.. دِمــاء على جسَـد الثورة المصرية
"حرب أهلية في إمبابة ومصر في خطر" و"الإعدام لمثيري الفتنة" و"التطرّف يحرق الثورة".. "فِـتنة عبير تهز مصر"، "مؤامرة وراء أحداث إمبابة"..
هذه عيِّـنة من “مانشيتات” الصحف المصرية في الأيام الأخيرة، تعكِـس قلقا شديدا ممّـا جرى من مواجهات بالرّصاص والأيدي، بين مسلمين وأقباط في حي إمبابة وفي وسط القاهرة وحرق لكنيستيْـن ومقتل 12 شخصا وإصابة ما يزيد عن 230 آخرين.
والعنوان الأبرز هنا، هو منطقة إمبابة، إحدى أفقر الأحياء في إقليم القاهرة الكبرى وأكثرها سكانا (1.6 مليون نسمة) وأكبرها تجمّـعا، من حيث التيارات الدِّينية السلفية، وأشهرها من حيث الإزدِحام الشديد والاحتكاك الإنساني الضار. وبجانب إمبابة، عنوان آخر هو: السيدة عبير، المسيحية سابقا والمسلمة لاحقا، والتي تسبب زوجها في إثارة المشاعر وتسببت حماتها في إطلاق النار على الناس والشرطة معا.
هذه المواجهات ذات الطابع الشعبي، هي الأكبر من نوعها في السنوات العشر الماضية، عبَّـر عنها الشيخ علي جمعة، مُـفتي الجمهورية، بأنها تقترب من الحرب الأهلية أو هي بروفة لحرب أهلية ضَـروس، ووصفها ناشطون سياسيون، بأنها من تدبير فلول النظام السابق، واعتبرها رجال دِين مسيحيون، نذير شُـؤم جعل ثورة 25 يناير مُـلوّثة بالدِّماء والسواد، بعد أن كانت ناصِـعة البياض.
القصة التقليدية
جاءت المواجهات وما تلاها من اعتصام للأقباط أمام مبنى الإذاعة والتليفزيون، تعبيرا عن الغضب وتأكيدا على مطلَـب الحماية ومُـحاسبة المتسبّـبين، على خلفية قصّـة باتت مُـنتشرة وسبباً تقليديا للاحتِـقان الطائفي، وهي تُـحوِّل فتاةً أو سيدةً مسيحية إلى الإسلام، بإرادتها غالبا، وزواجها من شاب مسلم.
وما أن تكتشف الأسْـرة المسيحية مكان ابنتها التي أسلمت، حتى تذهب للإمساك بها وإعادتها إلى المسيحية، ثم يقوم الزّوج المسلم بالبحث عنها وتأليب جموع من المسلمين لمساعدته لاستعادة زوجته. وهكذا، يبدأ كل طرف في الحشد والتعبئة وجمع الأنصار، وتحدث المواجهات المُـعتادة حوْل الكنائس غالبا أو المساكن التي يُعتقد أن “الأسيرة المسلمة” تعيش فيها.
وقد تختلف القصة قليلا في بعض تفاصليها، ولكن يظل المبدأ واحدا، أي قضية تتعلّـق بحرية العقيدة ومشاعر عاطفية وزواج حقيقي أو عُـرفي. وقد شهدنا نماذج مختلفة، كما حدث مع السيدة كاميليا زوجة الكاهن، التي يعتقِـد كثيرون أنها أسلَـمت وأنها مُـحتجَـزة في إحدى الأدْيِـرة على عكس رغبتها.
وكما حدث من قبْـل مع السيدة وفاء قسطنطين قبل ثمانية أعوام، وهي زوجة قِـسّ كبير، قيل أنها أسلمت، وبعدها احتَـشد الأقباط في الكاتدرائية بالعباسية وسط القاهرة لعدة أيام وأطلقوا الشعارات الحادّة ضد النظام وكبار المسؤولين، ولكن الأمْـن سلَّـمها للكنيسة ولا يَـعرِف أحد عنها شيئا منذ ذلك الوقت.
الدّين للتعبئة وتشويه الآخر
وهكذا، جزء من عمليات الحشد المُـتبادَل، تقوم على توظيف الدِّين وتصوير الأمْـر باعتباره معركة تستحِـق الاستشهاد أو تحقيق النصر، يستوي في ذلك المسيحيون الذين يتجمّـعون حول الكنيسة ويرفعون الشعارات التي تؤكد استعدادهم للموت من أجل الصليب، وكذلك المسلمون الذين يحتشِـدون انطلاقا من مسجد وبعد صلاة جامعة، ليحرِّروا الأسيرات المسلمات أو المسلمات الجُـدد، مما جعل دُور العبادة دائما في مرمى النار، نار الغضب والجهْـل وقلة الوعي والتطرّف بكل أشكاله.
وحين كان النظام السابق قائما ومستخدِما يدَه الأمنية الغليظة، كان التفسير الأكثر شيُـوعا وتبسيطا أيضا، يُـشير إلى أصابع جهاز مباحث أمن الدولة – الذي تم حلّـه بعد الثورة – باعتباره الجِـهة المستفيدة من إثارة مثل هذه القضايا، لإلهاء الشعب المصري عن مطالبه الحقيقية بالإصلاح ومواجهة الفساد وتحقيق العدالة.
ورغم أن الدلائل تؤكِّـد أن قضايا الفِـتنة الطائفية في مصر كان يتِـم التلاعب بها من مباحث أمْـن الدولة ومؤسسات دِينية على الطّـرفيْـن وأقباط يعيشون في الخارج، كل لمراميه الخاصة، فإن المسألة تطوّرت في نفوس الناس، إلى الحد الذي أصبحت فيه قابلة للاشتعال عند أدنى احتكاك، حتى ولو كان بسبب خلاف على بِـضعة قروش من ثمن دجاجة.
الأسباب الأربعة
فقد تراكمت المشاعِـر وانزوى كل فريق في ركن قصي، ولم تنفع وسائل الحوار التقليدية بين رموز هنا ورموز هناك في وأد المشاعر المتأجّـجة. ومما ساهم في حدة الأمر، أربعة أسباب مُـتداخلة:
أولها، قنوات الإعلام المثير، الذي لم يَـملّ أبدا في العبث بالوحدة الوطنية وتشويه الآخر واستفزازه وشتمه بأقذع الألفاظ والتعبيرات.
وثانيها، التصريحات غير المحسوبة لرموز دِينية من الجانبيْـن، عمدت إلى شيطنة الآخر وتصويره كشَـرٍّ مُـطلَـق، وبحيث لم يعُـد هناك مساحة مشترك ديني واحدة قابلة للبناء عليها.
وثالثا، غِـياب الشفافية من الكنيسة في قضايا المسيحيات اللاتي أسلمن وتمّ إخفاءهن أو خطفهن أو إبعادهن عن الأنظار، في دير هنا أو كنيسة هناك، مما جعل البعض يرى الكنيسة كأنها دولة أكبر من الدولة.
ورابعا، التعبئة ضدّ مصر وحملات الكذب والتشويه ضد الإسلام والمسلمين، التي تقوم بها بعض منظمات أقباط المهجَـر في الخارج، مما يشعل المشاعر ويجعلها مستعدّة للانفجار عند أول لحظة مناسبة.
ظنون من الثورة
كان الظن بأن الثورة وبما شهدته من حالة تلاحُـم وطني بين كل فئات الشعب، وحتى رحيل رمز النظام الأعلى الرئيس المتنحى مبارك، وعدم الاعتداء على أي كنيسة في طول مصر وعرضها، رغم الغياب التام للشرطة وقِـوى الأمن المختلفة، أن مصر قد أعادت اكتشاف نفسها على خلفية الوِحدة الوطنية وأنها رجعت إلى وعْـيِـها المفقود، القائم على الوحدة بين أبناء الوطن الواحد، وأن الأصل في الأشياء هو المواطنة والحرية.
بيْـد أن ما حدث في إمبابة، يطرح الأمر على نحو مختلف. ومن هنا، يأتي القلق والانزعاج من أن الثورة لم تحقِّـق أهدافها بعدُ، بل ربما مُـعرّضة لانتكاسة كبيرة.
والشائع الآن، هو تحميل التطرّف الديني مسؤولية ما حدث، وتتكاثر تفسيرات حول دَوْر السلفيين، وهُـم الذين ظهروا بكثرة على الساحة بعد الثورة، إنهم من قبل، كانوا بعيدين عن العمل السياسي تماما، مما أثار المخاوِف من أن تكون الثورة بداية التحوّل نحو دولة دينية، وليست دولة مدنية تقوم على الحرية المسؤولة والمواطنة المبدئية.
وإلى جانب السلفيين، هناك التعبير الشائع حول دوْر فُـلول النظام السابق والمهزومين من الحزب الوطني الحاكم، الذي تمّ حله بحُـكم قضائي، في إشعال الفتنة الطائفية ومستغلِّـين حالة التراخي الأمني الشديدة وتكاسُـل متعمّـد من بعض كبار الضباط أحيانا وتخوّف مفهوم من آخرين، إذا ما استخدموا القوة لردْع الخارجين عن القانون، فقد يتعرّضوا لأحكام جِـنائية، نتيجة حالة التعبِـئة والشّـحن الإعلامي الثوري ضد الشرطة والمنتسبين إليها بوجه عام.
وفى واقعة حرق الكنيستيْـن في إمبابه، وُجِّـهت الاتهامات أولا ضدّ السفليين، الذين أنكَـروا ذلك تماما وسردوا روايتهم ومعها دلائل تنفي كونهم البادئين وأن رجالا من الأقباط بالقُـرب من الكنيسة هُـم الذين بادَروا بإطلاق النار. أما حرق الكنيستين فكانوا من المصلحين وساهموا في إخماد النار وإنقاذ الأقباط فيها. وتطوّر الأمْـر ليركِّـز على دوْر الثورة المضادّة ورجال الحزب الوطني المنحَـلّ، وتوسّـعت القضية لتُـصبح أمْـن الثورة وأمْـن الوطن ككل.
كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة ومعه حكومة عصام شرف قد اجتمعت معا وقرّرت الضرب بيَـد من حديد على مثيري الفتنة وعلى كل من أسهَـم في تخريب دُور العبادة وعلى استعادة الأمن للجميع وعلى حماية كل مصري، أيا كان دينه ومذهبه. وبينما كان وزير العدل يُـعلن بيان الحكومة وإجراءاتها الصارمة المرتقبة، كانت الأخبار تأتي من مواقع مختلفة حول هروب منظّـم لمساجين ومسجلين خطر من أماكن الاحتجاز ومن أقسام شرطة مختلفة في أكثر من محافظة، بدعم من أقربائهم، ومن مجرمين طُـلقاء، فيما أبرز أن مصر الثورة تمُـر بمحنة حقيقية وتُـواجه اختبارا صعبا.
القاهرة (رويترز) – يواجه العسكريون في مصر معضلة نتيجة توجه اكثر جرأة يتبناه اسلاميون في حقبة ما بعد الرئيس السابق حسني مبارك مما ادي لتفاقم التوترات الطائفية ومطالبات بحملات على غرار تلك التي قوضت شعبية الرئيس السابق.
واسفرت اشتباكات مسلحة بين مسلمين محافظين ومسيحيين عن مقتل 12 شخصا في احدى ضواحي الجيزة مما اشعل احتجاجات غاضبة لبعض سكان العاصمة الذين طالبوا الجيش بمواجهة المحرضين بقبضة حديدية.
وعمقت اعمال العنف المخاوف بين المسيحيين الذين يشكون من ضعف حماية الشرطة والتسامح مع متشددين اسلاميين في الفترة الاخيرة مما يهدد بتجدد الاشتباكات في البلد الذي يعاني من الفقر وارتفاع الاسعار وتداعي الاقتصاد.
وتخلت الشرطة عن مواقعها ابان الانتفاضة التي اندلعت ضد مبارك في شهري يناير وفبراير. وعاد عدد كبير من رجال الشرطة لعملهم ولكن كثيرين من المصريين يقولون ان الشرطة فشلت في وقف سرقات وجرائم عنيفة تتفشى مع ترقب مصر لاول انتخابات حرة في سبتمبر ايلول.
وقال المحلل السياسي ايساندر العمراني “يمثل تساهل الدول مشكلة في الوقت الحالي” وتوقع ان تتبني حكومة تسيير الاعمال موقفا صارما مع جماعات سلفية محافظة وغيرها من المحرضين على الكراهية الدينية. ومضى قائلا “لن تلقى قبولا بين قطاع من المواطنين ولكن الحكومة تضطر للقيام بامور غير مقبولة شعبيا احيانا.”
وشهدت مصر التي تعتمد على صورتها كدولة مستقرة لاجتذاب ملايين من السائحين زيادة مطردة في أعمال العنف بين مسلمين ومسيحيين رغم توقفها خلال الانتفاضة. وتجمع ملايين المسلمين والمسيحيين في ميدان التحرير متحدين الجهاز الامني القوي لمبارك وحملوا لافتات جمعت بين الهلال والصليب.
وادان كثيرون من المسلمين الاشتباكات التي وقعت في مطلع الاسبوع في امبابة والتي بدأت باحتشاد مجموعة من السلفيين لتفتيش كنيسة للاشتباه في احتجاز امراة أشهرت اسلامها بداخلها رغما عن ارادتها.
وقالت امراة محجبة في الاربعينات من عمرها لصديقتها في وسط القاهرة يوم الاحد 8 مايو “لما نشتت انفسنا بمثل هذه الحماقة.. ينبغي ان نكرس جهدنا لبناء البلاد وليس الاحتجاج والاقتتال.”
وقال رمضان حبيبة وهو محاسب ملتح يرتدي بزة خارج احد المساجد “ادعو الله الا يفرق بيننا اي خلاف. اذ ترك اي شخص ديانته فحسابه عند الله وليس لي او اي شخص اخر ان نحاسبه. في الاسلام نقول لكم دينكم ولي دين.”
واشار الجيش لموقف اكثر صرامة واعلن عن محاكمة 190 شخصا امام محاكم عسكرية بسبب اعمال العنف في امبابة. ويمثل القرار تحولا عن الممارسة السابقة حيث كانت الحكومة في عهد مبارك تلجأ لشخصيات دينية تتفاوض للمصالحة بين مسيحيين ومسلمين لانهاء منازعات طائفية.
وقال مصطفي السيد استاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة ” اعتقد ان مثل هذا التوجه يشجع المتطرفين على تصعيد هجماتهم.”
ورغم قمع حكومة مبارك للاسلاميين اتهمت جماعات حقوقية مسؤوليه بالفشل في معالجة العنف الطائفي بشكل مباشر باحتجاز مرتكبي حوادث العنف او معاقبة المحرضين عليها.
وعزت الجماعات الحقوقية هذا الموقف الحذر للخوف من اثارة ضغينة الاسلاميين ضد الدولة بصورة أكبر.
ويوم الاحد 8 مايو تعهدت حكومة تسيير الاعمال بتشديد القوانين التي تجرم مهاجمة دور العبادة ولكن محللين قالوا ان هذه الاجراءات محل ترحيب ولكنهاغير كافية. وقال السيد “ثمة قرار بالتعامل بشكل صارم مع انتهاك القانون ولكن لا توجد رؤية واضحة لما يجب عمله لتفادي تكرار مثل هذه الاعمال.
وذكر شهود في موقع الاشتباكات التي وقعت يوم السبت 7 مايو ان الجيش شكل طوقا حول الكنيسة التي استهدفها السلفيون حين بدا اطلاق النار ولكنه فشل في التدخل حين هاجم المحتشدون مقهي ومخبزا يملكهما مسيحي. واضرمت النار في كنيسة اخرى في اعمال العنف التي اسفرت عن سقوط اكثر من 238 مصابا.
وقال العمراني “تبرز جميع هذه الاحداث حاجة حقيقية لعودة الشرطة للشارع. لا يملك الجيش مهارات العمل الشرطي. جزء من الفراغ الأمني منذ الثورة يتمثل في غياب اشارات الانذار المبكر”.
وفي الأسبوع الماضي اقام سلفيون “صلاة الغائب” في مسجد النور في حي العباسية في القاهرة على روح اسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة الذي قتلته قوات امريكية خاصة في مخبأه في باكستان في الثاني من مايو. وهرع عشرات من افراد الشرطة العسكرية لوقف الصلاة في المسجد وهو رمز لمساعي السلفيين لبسط نفوذهم ولكنهم وقفوا بلا حول ولا قوة فيما اقيمت الصلاة تحت لافته تحمل صورة بن لادن.
وعلى مدار اسابيع منع سلفيون امام المسجد الذي تعينه الحكومة من اعتلاء المنبر لالقاء خطبة الجمعة. وربما يهدف تعامل الجيش المتساهل مع السلفيين حتى الآن تفادي مواجهات دينية في ظل التوازن الاجتماعي الهش في مصر. ويقول محللون ان عيوب هذا الاسلوب ظهرت في امبابة في مطلع الاسبوع. وقال مصطفى السيد “في هذه الحالة استغلت حرية التعبير لاشاعة الكراهية ضد المسيحيين. هذه ليست روح حرية التعبير ولكن لا أعتقد ان ذلك خطر على أذهان اعضاء المجلس الأعلى (للقوات المسلحة الحاكم).”
(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 10 مايو 2011)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.