“فلسطين لا تحتاج لا إلى متسوّلين ولا إلى متهوّرين”
" أنا عمليّ بطبعي".. عبارة تلخص مسيرة السبعة عقود من عمر جون الحايك، السويسري الفلسطيني الأصل، الذي يختزل إلى حد بعيد الذاكرة الحية لما شهدته سويسرا والجالية العربية فيها من تحولات وأطوار على مدى نصف القرن الأخير.
هذه الخاصية العملية التي تميّز الدكتور حايك كانت الخيط الناظم لجميع المحطات الهامة في تجربته المهنية على الأقل، ووجدت معها أكثرُ الأفكار النظرية تجريدا طريقها إلى التحقق في الواقع بعزيمة وإصرار.
يتذكّر هذا الطبيب المتميّز أن اختياره لتخصصه الوظيفي لم يأت من فراغ، “فمنذ أيام دراستي الأولى في عمان كنت دائما أحاول أن أفهم لغز العلاقة بين الروح والجسد، وكنت أتخيل أن مكمن الروح في الدماغ”. ولذلك، منذ أن التحق بكلية الطب بجامعة فريبورغ السويسرية سنة 1962، لم يفكّر إلا في علم الأعصاب، بما هو علم صحيح، وليس تحليلا نفسيا.
وفي سنوات لاحقة، أضاف الحايك إلى تجربته تخصصا جديدا في أشعة الأعصاب، ومن أجل أن يحقق رغبته في الإشتغال في مجال الأعصاب، والتصوير بالأشعة في نفس الوقت، كان لابد أن يفتتح لنفسه عيادة خاصة، وأن “يقتني كمبيوتر تيموغرافي يصل ثمنه في الثمانينات من القرن الماضي إلى مليونيْ فرنك سويسري”.
ولأن عائلة الحايك الفلسطينية ليست على نفس القدر من الثراء والغناء الذي تتميّز به عائلة الحايك اللبنانية، توجّه الطبيب الشاب آنذاك إلى أحد البنوك السويسرية، للحصول على قرض بذلك المبلغ، وكل ما كان يملكه وضوح الفكرة، والإصرار على النجاح.
واليوم، عندما يتذكر الحايك تلك اللحظة الفاصلة في مسيرة حياته، وبعد تجربة ثلاثين سنة متواصلة في عيادته الشخصية الواقعة بأحد الأحياء المركزية بمدينة زيورخ، يقول: “من أغرب العجائب، ومن أسعد الصدف ان المصرفيّ وافق على منحي ذلك المبلغ”، قبل أن يضيف: “لو كنت خارج سويسرا، ما كان هذا ليحدث أبدا”.
حب العمل والإصرار على تخطي العراقيل “هي إحدى خصائص العائلة التي أنحدر منها.. نحن من يافا، خرجنا من فلسطين سنة 1948، التحق والدي بعدها بجيش الأردن، شقيقي الأكبر مهندس مدني بالكويت، وشقيقي الأوسط مهندس ميكانيكي بدبي.. نحن عائلة مكافحة وشغيلة، نحب العمل والمثابرة، ونطمح إلى التفوّق ولكن ليس بشراسة أو شراهة”، مثلما يقول الحايك.
ويأسف الدكتور الحايك لكون العديد من الطلاب العرب الذين بدأوا معه مشوار الدراسة، “سرعان ما انقطعوا للإنشغال بأعمال أخرى لتحقيق الربح السريع متعللين إمّا بصعوبة التعليم، وإما لتعقّد اللغات الأجنبية”.
“لا تسوّل ولا تهوّر”
إلى جانب عمله الوظيفي الاحترافي، الذي يتميّز فيه بالنشاط والحيوية ومتعة العمل رغم تقدم العمر، يمارس الحايك العديد من الهوايات كالأدب والشعر ودراسة التاريخ العربي وترديد الأغاني التراثية في الحفلات الخاصة، كما أنه يجيد الرسم والخط العربي.
هذه الانشغالات الكثيرة لا تُنسي طبيب الأعصاب الجرح الفلسطيني، والعناية بمفردات نضال بلاده من أجل التحرر من الإستعمار الصهيوني. وقد بدأ هذا الانخراط في الشأن العام مبكرا لدى الدكتور الحايك، حيث انتخبه أبناء الجالية الفلسطينية في سويسرا رئيسا لأوّل جمعية ثقافية فلسطينية سويسرية، وقد غطت أنشطتها الموسمية العشرين سنة الماضية، ثم انتخب مرة أخرى رئيسا لجمعية الجالية الفلسطينية بسويسرا، وهي جمعية أهلية تنشط على الساحة السويسرية وخاصة في الكانتونات المتحدثة بالألمانية منذ تأسيسها سنة 2006.
وفي خضم معركة كسب الرأي العام السويسري لصالح القضية الفلسطينية يتذكّر الحايك السنوات الصعبة التي كان يُنظر فيها إلى الفلسطيني كإرهابي عدمي، ولا ينسى أيضا الفترة التي “تمت فيها تصفية الحسابات الأوروبية وغسل الأيدي على حساب الطرف العربي”.
ولكن توجهات الرأي العام السويسري تجاه القضية الفلسطينية “تحوّلت بشكل جذري منذ حرب يونيو 1967، فنشطت احزاب اليسار السويسري في جمع التبرعات للفلسطينيين، وفي فضح الخديعة الصهيونية على مستوى وسائل الإعلام المحلية”، مثلما يؤكد.
لكن التعاطف الشعبي في سويسرا ظل فاقدا للجدوى السياسية، لأن من يملك مفاتيح السلطة الحقيقية بحسب الحايك “هي الأحزاب اليمينة، واليمين بطبعه محافظ، موال تقليديا لإسرائيل بسبب ضغط الرأسمال الإسرائيلي، واليمين حساس للربح الاقتصادي”.
ثم يضيف الحايك: “المشكلة أن رؤوس الأموال العربية تُستغل من اليمين الأوروبي، ومن الحكومات الأوروبية من دون دفع أي استحقاقات سياسية لصالح الفلسطينيين، أو للقضايا العربية الأخرى”. ويستدرك الحايك متسائلا: “لماذا مؤاخذة الغريب إذا كان القضية الفلسطينية اليوم تذبح على أيدي أبنائها من خلال هذا الانفصام الأثيم بين قطاع غزّة والضفّة الغربية!”.
وعل أي حال، فإن كسب الرأي العام في الخارج لا جدوى منه إذا لم تكن هناك خلفية فلسطينية قوية وموحّدة لأن “فلسطين اليوم لا تحتاج لا إلى متسكعين متسوّلين للسلام، ولا إلى متهوّرين”.
.. كأن يدا خفية تنظّمها!
هذه شهادته وقناعته بشأن القضية الفلسطينية، أما متابعته للشأن السويسري، فهي لا تقل عمقا ودراية. فهو يقدم من خلال الحوار معه رؤية تاريخية شبه متكاملة عن تطوّرات الأوضاع في هذا البلد الذي يتنسم هواءه منذ ما يزيد عن خمسين سنة.
وبالنسبة للدكتور الحايك، تبقى سويسرا “بلدا مميّزا، والعيش فيه ممتعا، ولا يوجد بلد في العالم يقارن بسويسرا من حيث الإستقرار والأمن والنظافة، فضلا عن أن الله قد حباها بطبيعة خلابة جميلة”.
وللتأكيد على تعلقه بهذا البلد، الذي قضى فيه أغلب سنين عمره، يقول: “عندما أكون عائدا من سفر بالخارج، وبمجرد تخطي الحدود، أشعر وكان يدا خفية تسهر على تنظيم شؤونه. فهو بلد متجانس لم يعرف الهدم والتدمير اللذين عرفتهما اوروبا خلال الحربيْن العالميتيْن الأخيرتيْن”.
لكن هذه الصورة الجميلة، والنمطية التي عُرفت بها سويسرا، يُدرك الحايك أنها باتت جزءً من الماضي، أوّلا بسبب العولمة، إذ أن سويسرا بلد صغير يعتمد بصفة كبيرة على السوق العالمية، وثانيا بسبب موقعها الجغرافي حيث تتوسط قارة هي بصدد التوحد في دولة عظمى، تسمى “الإتحاد الأوروبي”. وثالثا، هذه الأزمة المالية العالمية التي لفتت الأنظار إلى الثروات والكنوز المخزّنة في البنوك السويسرية، وبسبب قصور ما في الدفاع عن “السر المصرفي” تحوّلت سويسرا، كما يقول الحايك إلى “ما يشبه مغارة علي بابا” في المخيال الجمعي رغم أن بريطانيا والولايات المتحدة مثلا تشهدان نفس الظاهرة.
الأغنام السوداء قصة قديمة
فليس اليوم فقط شُبّه الأجنبي “بالأغنام السوداء” التي يجب طردها إلى ما وراء الحدود، حيث لا يزال الدكتور الحايك يتذكّر مبادرة اليميني المتطرف “شفايتسنباخ” في بداية السبعينات، والتي كانت تدعو إلى طرد الأجانب من سويسرا. وفي تلك الفترة، كان أغلب العمال المهاجرين من الإيطاليين، وكانت تُطلق عليهم أسوأ النعوت. وقد انتقد الكاتب السويسري الشهير ماكس فريش ذلك التعامل المُسيء مع الأجانب في قولته الشهيرة: “دعـوْنا سواعد، فجاء إلينا بشر”.
اللوم بحسب الحايك، لا يجب أن يوجّه إلى الأجانب مرة باسم عدم الإندماج، وأخرى بدعوى التسبب في انتشار الجريمة، بل إلى السويسريين أنفسهم، الذين حاولوا لمدة طويلة تغييب التبعات الإجتماعية والثقافية لظاهرة المهاجرين، واعتمدوا “الإنتقائية والإنتهازية” في التعامل مع هذا الملف كالقبول بالنخب المتدربة والمتعلمة، ونبذ العمال البسطاء والتضييق عليهم.
وحتى في السنوات الأخيرة، فإن الجدل الذي لا يهدأ حول الجالية القادمة من دول البلقان في البلاد يثير تساؤلات الحايك الذي يقول: “ما الذي فعلته الحكومة السويسرية لتهيئة مواطنيها للقبول بالتعايش مع مئات الآلاف من الكوسوفيين والبوسنيين؟ هل يكفي القول بأننا فعلنا ذلك لدواعي إنسانية!”.
في المقابل، يرى الدكتور جون الحايك أنه “من واجب الأجنبي تعلّم لغة القوم الذين يعيش بينهم وأن يفتح عينيْه ليتعلم من تجاربهم، فيتفاعل معهم من دون تقوقع”. فهو يرى في تعلم اللغات “فرصة للإمتداد نحو الآخر، والإنفتاح على حضارات وثقافات، يوسّع التعرف عليها من أفق التجربة الإنسانية ويقرّب بين الأنفس البشرية”.
وهذه هي أيضا خلاصة خبرته الطويلة في مجال الطب، فمن المبادئ الأساسية لهذه الوظيفة النظر إلى البشر على انهم سواسية برغم اختلاف ألوانهم وأجناسهم وأفكارهم وعقائدهم.
عبد الحفيظ العبدلي – زيورخ – swissinfo.ch
الدكتور جون الحايك، طبيب متخصص في علم الأعصاب، يقيم ويعمل في زيورخ بسويسرا منذ ما يزيد عن خمسين سنة. وهذا مختصر موجز عن سيرته الذاتية:
1943: ولد بمدينة يافا الفلسطينية بحي العجمي تحديدا، في عائلة مسيحية عربية متوسطة الحال.
1948: هاجر مع عائلته إلى الأردن بعد الإعلان عن قيام دولة إسرائيل فوق معظم أراضي فلسطين التاريخية.
1961: قدم إلى سويسرا لمتابعة دراسة الطب، بعد أن تأخر الرد على طلبات تسجيل بعث بها إلى جامعات فرنسية وإيطالية.
1962: تابع دورسا لتعلم اللغة الألمانية في ألمانيا الغربية.
1962 – 1965: درس الطب في جامعة فريبورغ بسويسرا
1969: تخرج برتبة طبيب متخصص في علم الأعصاب من جامعة زيورخ. وخلال دراسته مر بعدة دورات تدريبية في لندن وبرلين ونيويورك.
1969 – 1976: تخصص في علم الأعصاب النيرولوجي في جامعتيْ برن وبازل.
1977 – 1980: تخصص إضافي بالأشعة والكمبيوتر التوموغرافي في المستشفى الجامعي بزيورخ.
1980: إفتتاح العيادة الخصوصيه لعلاج الأعصاب واقتناء الكمبيوتر التوموغرافي. وكان الدكتور الحايك ضمن أوّل ثلاثة أطباء يقتنون هذا الجهاز على مستوى زيورخ.
لا يزال هذا الطبيب الفلسطيني يعمل في عيادته التي افتتحها في إحدى الأحياء الرئيسية في وسط مدينة زيورخ بنفس “النشاط والحيوية ومتعة العمل”، كما يقول منذ 30 سنة.
الدكتور جون الحايك متزوّج من سيدة سويسرية منذ 1974، وأنجبا ولديْن وبنتيْن، ويزور عائلته في الأردن بإستمرار. هوايته الأدب والشعر ودراسة التاريخ العربي وترديد الأغاني التراثية في الحفلات الخاصة. كما انه يجيد الرسم والخط العربي.
من الأنشطة الرياضية التي يتفوّق بها على اقرانه لعبة الجولف التي يمارسها بانتظام.
انتخب لرئاسة الجمعية الثقافية الفلسطينية التي تأسست منذ ما يزيد عن 20 سنة، كما انتخب رئيسا أيضا لجمعية الجالية الفلسطينية بسويسران وهي جمعية أهلية تنشط على الساحة السويسرية خاصة في الكانتونات الألمانية منذ تأسيسها سنة 2006.
تأسست هذه الجمعية الأهلية في أبريل 2006، بمدينة برن السويسرية استجابة لرغبة الجالية الفلسطينية في سويسرا في توحيد جهودها ولمّ شملها. ومنذ ذلك الحين تحتضن هذه الجمعية العمل المشترك لجزء مهم من هذه الجالية العربية.
تهدف الجمعية بحسب ما ينص نظامها الأساسي إلى “التعريف بالهوية الفلسطينية، من خلال تنظيم جملة من التظاهرات الثقافية والاجتماعية”، كما تهدف إلى “تعزيز أواصر الصداقة مع أبناء الجاليات العربية الأخرى المقيمة بسويسرا، وعامة السويسريين”.
يعتبر القائمون على هذه الجمعية “مصلحة فلسطين وشعبها هي العليا، وهي همنا الأول والأخير”.
للجمعية موقع على شبكة الإنترنت هو عبارة عن منبر إعلامي ينسق من خلاله أبناء الجالية جهودهم على الصعيدين الإجتماعي والثقافي، ويسعى القائمون عليه إلى “توفير مساحة واسعة للرأي الحر النزيه في جو ديمقراطي لا تشوبه النزاعات الشخصية”.
ومن المنتظر أن يشتمل هذا الموقع المتاح حاليا باللغتين العربية والألمانية، على لغات أخرى كالفرنسية والإنجليزية.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.