بعد 60 عاما، لا زال الإتحاد الأوروبي هشا لكنه يُقاوم
ما الذي يُحتفى به بمناسبة مرور 60 عاما على توقيع معاهدة روما التأسيسية في وقت يبدو فيه الإتحاد الأوروبي هشّا أكثر من أي وقت مضى؟ البروفسور روني شفوك، الخبير بما يدور وراء الكواليس في بروكسل يرى أنه على الرغم من الصعوبات التي تمر بها في الوقت الحاضر، فقد تمكنت عملية البناء الأوروبي في السابق من تجاوز أزمات أكثر خطورة من الأوضاع الحالية.
الكتاب الأبيضرابط خارجي الذي قدمه جون كلود جونكر، رئيس المفوضية الأوروبية في بروكسل في أول مارس الجاري لم يُثر قدرا كبيرا من الإهتمام. ذلك أن مقترحاته الرامية إلى تأمين انطلاقة جديدة للمشروع الأوروبي تفتقر – حسب المنتقدين – إلى الجرأة المطلوبة، وليست سوى استعادة لأفكار قديمة، من قبيل الفكرة الداعية إلى تصور أوروبا ذات سرعات متعددة مع “جوهر اتحادي” حول ألمانيا وفرنسا.
لكن، هل كان بإمكان جون كلود يونكر الإعلان عن قناعاته الفدرالية من خلال مشروع أوروبي يتسم بقدر أكبر من الجرأة؟ يُجيب روني شفوك، مدير معهد الدراسات العالميةرابط خارجي التابع لجامعة جنيف والخبير المتخصص في قضايا الإندماج الأوروبي: “لا شك في أنه لم يرغب في الإلقاء بنفسه إلى التهلكة في وقت تشهد فيه ألمانيا وفرنسا مواعيد انتخابية حاسمة لجهة مستقبل الإتحاد الأوروبي”.
عصر ذهبي
بالفعل، يُمكن القول أن الموجة الدافعة التي وقف وراءها في نهاية القرن الماضي كل من المستشار الألماني هلموت كول، والرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران ورئيس المفوضية الأوروبية جاك دولور قد انكسرت تماما.
في السياق، يُذكّـر ريني شفوك الذي نشر مؤخرا كتابارابط خارجي بعنوان: “هل تُساهم عملية البناء الأوروبي في بناء السلم؟” أن “تلك الفترة تمثل فعلا العصر الذهبي لعملية البناء الأوروبي، وهي ترتبط حقا بشخصية هؤلاء الفاعلين الكبار الذين كانوا كول وميتران ودولور، ولكن أيضا بالسياق المُساعد جدا الذي نجم عن سقوط جدار برلين”.
فعلى إثر اعتمادها للقانون الأوروبي الوحيد في عام 1986 ولمعاهدة ماستريخت في عام 1992، تحولت المجموعة الإقتصادية الأوروبية إلى الإتحاد الأوروبي وذلك في أفق إنشاء وحدة اقتصادية ونقدية من خلال عُملة موحدة وهي اليورو التي تُغطي اليوم منطقة تشمل 19 بلدا من بين الدول الثمانية والعشرين التي يتشكل منها الإتحاد (ستُصبح 27 بعد انسحاب المملكة المتحدة التي صوت اإلب الناخبين لفائدة بريكزيت).
زمن الأزمات
في العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين، انكسرت هذه الديناميكية في أعقاب الفشل الذي لقيه الدستور الأوروبي وعلى إثر الأزمة الاقتصادية والمالية لعام 2008 – التي هزت الإتحاد الأوروبي بشدة، كما يُذكّـر شفوك – ثم أزمة اليورو والأزمة اليونانية إضافة إلى صعود أحزاب مناهضة للفكرة الأوروبية في العديد من الدول الأعضاء.
هنا يُشدد روني شفوك على أن “صعود التيارات الشعبوية يبقى الخطر الأكبر للإتحاد الأوروبي”، وذلك بالرغم من أن الإنتخابات العامة الأخيرة في هولندا (التي شهدت تسجيل غيرت فيلدرز، زعيم اليمين المتطرف، نتيجة أضعف مما كان مُتوقعا) تُظهر أن تقدم الإتجاهات الشعبوية ليس قدرا محتوما أو أمرا غير قابل للتراجع.
“يُعلّمنا التاريخ أن كل شيء مُمكن، وأن الصعوبات تظل كبيرة بالنسبة لبروكسل، لكن الخطاب المُبالغ فيه والكارثي حول الإتحاد الأوروبي متداول منذ سنين طويلة. في كل مرة تُوجد فيها مشاكل في الإتحاد الأوروبي، يُعلن العديد من المُعلّقين (صحافيون وخبراء وسياسيون) عن نهاية الإتحاد الأوروبي أو اليورو، لكن هذه التنبؤات لم تتحقق أبدا”.
في الأثناء، لم تتوقف الأمور عند هذا الحد. ذلك أن روسيا بقيادة فلاديمير بوتين تُبدي حاليا قدرا لا بأس به من التطفل في سياق المسارات الإنتخابية الأوروبية عبر آلتها الدعائية ومن خلال الدعم المقدم إلى أحزاب مناهضة للفكرة الأوروبية. “هذا تطور جديد”، يُعلق روني شفوك، ثم يضيف “لكننا نفتقر إلى مسافة كافية لقياس تأثير هذه التدخلات. تلاعب بوتين يُمكن أن يُضعف الإتحاد الأوروبي من الداخل، لكنه قد يُحدث أيضا أثرا عكسيا ويُعزّز من تهميش هذه الأحزاب إذا ما تم النظر إليها على أنها بيادق بيد بوتين”.
المزيد
هكذا وُلدت أولى التجمّعات الأوروبية..
أوروبا ليبرالية جدا؟
من أبرز الإنتقادات المُوجّهة بشكل متكرر إلى الإتحاد الأوروبي، تلك المنددة بالسياسة الإقتصادية التي تحظى بالتشجيع من طرف بروكسل والتي تبدو مبالغة في الليبرالية من وجهة نظر اليسار وتيارات اليمين التي تمنح الأولوية للسيادة الوطنية.
هذه الإنتقادات مبالغ فيها حسب روني شفوك الذي يقول: “على عكس ما نستمع إليه في أغلب الأحيان، فالإتحاد الأوروبي ليس ليبراليا جديدا (Neoliberal) تماما كما يُمكن أن تكون عليه الأمور في الولايات المتحدة، أو في آسيا وفي جزء لا بأس به من بقية العالم. منذ البداية، اتخذت عملية البناء الأوروبي منحى ليبراليا – اجتماعيا بالأحرى. فهي تدعو إلى التبادل التجاري الحر وتؤيد التنافس وتناهض الإحتكار، لكن هذا الإنفتاح على مستوى الأسواق يترافق مع سياسات مقننة في مجال البيئة والصحة والتأمينات الإجتماعية. لذلك، لا يتعلق الأمر بليبرالية منفلتة. دعنا نُذكّـر بأن البلدان الأوروبية هي الأكثر مُراعاة للبعد الإجتماعي في العالم، إلا أن الدول رفضت ترحيل هذه الصلاحيات الاجتماعية إلى مستوى الإتحاد الأوروبي”.
عجز ديمقراطي للإتحاد الأوروبي؟
من بين الإنتقادات الأخرى، ما يتردد في الكثير من الأحيان عن الإفتقار إلى تصويت المواطنين على الإجراءات التي تُقرّر في بروكسل والنقص المسجّل في الإنتخابات العابرة للحدود الأوروبية بما يمنح شرعية أفضل لمؤسسات الإتحاد الأوروبي.
لا يُخفي روني شفوك تفهمه لهذه الإنتقادات لكنه يستدرك قائلا: “إن ديمقراطية تشاركية وتوفر إمكانيات لإطلاق استفتاءات من طرف مواطنين لمعارضة تشريع معتمد ستُساعد على إطلاق نقاش واسع على المستوى الأوروبي، لكنه من الصعب تصور إجراء اقتراعات من هذا القبيل على المستوى الأوروبي بما أنها لا تُوجد أصلا داخل البلدان الأعضاء. وحتى عندما يستشيرون مواطنيهم عبر الإستفتاء، فإن ذلك يتم في أفق البحث عن إجماع”.
يجدر التذكير بأنه لا يُمكن للحكومة أن تنظم أي استفتاءات في سويسرا. فهناك حالتان: إما أن القانون يُلزم السلطات بأخذ رأي الشعب حينما يتعلق الأمر بإدخال تحوير على نص الدستور الفدرالي، وإما أن تصدر المبادرة عن مجموعة من المواطنين.
بالفعل، يحق للمواطنين الأوروبيين حاليا إطلاق مبادرة لتنظيم استفتاء حول عدد من المسائل، لكن هذا الحق أشبه ما يكون بجمع التوقيعات على عريضة مثلما يشرح روني شفوك قائلا: “في الإتحاد الأوروبي، يتعلق الأمر فقط بإمكانية تقدم مليون مواطن بطلب إلى المفوضية الأوروبية لدعوتها إلى إعداد مشروع قانون، لكن يُمكن للجنة أن ترفض (الطلب)، وهو ما تقوم به في معظم الأحيان. أما إذا تم اعتماد المقترح، فلا يتم عرضه على الإستفتاء الشعبي ولكن على مجلس وزراء الإتحاد الأوروبي وعلى البرلمان الأوروبي. أما في سويسرا، فإنه يُعرض على تصويت الناخبين حتى في صورة معارضة الحكومة والبرلمان له. وهو ما يحصل في العديد من الحالات”.
مع ذلك، لا تحمي المشاركةُ الشعبية في اتخاذ القرارات التشريعية سويسرا من الشكوك والمواقف الرافضة وتقلبات المزاج التي يُعاني منها مواطنو الدول الأعضاء في الإتحاد الأوروبي. أما الفرق بين الحالتين فيكمُن في أن هذه المشاعر والإشكاليات تظهر على الساحة السياسية بشكل أسرع من خلال الإستشارات المتكررة للناخبين (3 أو 4 مرات في السنة)، وهو ما يُتيح للساعة الديمقراطية السويسرية الفائقة الدقة بشكل عام إمكانية استبعاد العناصر الأكثر تشويشا وتعطيلا من الساحة.
(ترجمه من الفرنسية وعالجه: كمال الضيف)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.