في مصر.. أسئلة كثيرة تنتظر الإجابة ومخاوفُ تحيط بالمسار الإنتقالي
بعد ثلاثة أيام من ذكرى حرب أكتوبر 73، واجهت مصر، وفي المقدمة، الجيش المصري، محنة كبيرة، إذ تعرّض عدد من أفراده القائمين على تأمين مبنى الإذاعة والتلفزيون في منطقة ماسبيرو بوسط القاهرة، للإعتداء من قِـبل متظاهرين شاركوا في مسيرة نظَّـمتها إحدى الحركات الشبابية القبطية، التي يرعاها قِـس شهير، وترى نفسها معنِـية بما تعتبره حقوق الأقباط الضائعة.
ودعت الحركات الشبابية القبطية للقيام بمظاهرات حاشدة في أكثر من كنيسة وفي أكثر من محافظة في ذات الوقت، والتنديد بالإدارة المصرية بمستوياتها المختلفة والتواصل مع منظمات دولية من أجل إدانة الحكومة المصرية واستغلال أية أحداث تمس الأقباط، أيا كان حجمها أو وزنها، لإثارة ما يرونه مطالب قبطية غائبة، ومن ثمّ، توجيه الرسائل الإعلامية والدِّعائية إلى الخارج، بأن الأقباط مضطهدون ويتم التمييز ضدّهم من قبل الأغلبية المسلمة، ومن ثمّ تجوز لهُـم الحماية الدولية على أيدي الأمريكيين والأوروبيين ومَـن يرغب.
سبب كذوب وتعبئة وتحريض
السبب المباشر والمعلَـن لمظاهرة ماسبيرو في التاسع من أكتوبر، لم تختلف كثيرا عن الأسباب المعروفة والمتكرّرة، حيث يُـقال أن كنيسة هدمها أو أحرقها مسلمون في مكان ما في أرض مصر، ومن ثم تحدث التعبئة والخروج في المسيرات والمظاهرات التي تطلق الشعارات الغاضبة ضد الجميع، وتطالب بعزل المحافظين والتنديد بوقف بناء الكنائس وما يصفونه بالتطرف الإسلامي.
لكن هذه المرة، كانت الكنيسة مجرّد مشروع على الورق في قرية مريناب الواقعة على بُـعد 800 كم من القاهرة جنوبا، حيث أسوان المحافظة السياحية، وهي القرية الهادئة التي يعيش فيها أكثر من 18 ألف مسلم ومعهم خمس مائة قبطي، ولم يُعرف عنها طوال تاريخها أن حدث فيها أي نوع من الإضطهاد للأقباط.
كان الإدِّعاء الذي تحوّل إلى سبب تحريضي هائل، أن المسلمين أحرقوا كنيسة المريناب، وحين أنكر محافظ أسيوط وجود كنيسة وأن الأمر ليس سوى منزل بسيط تقام فيه الصلاة منذ زمن بعيد وتهالك بفعل الزمن، وهو الآن محل إعادة بناء كمضافة تمّ زيادة مساحتها، خلافا للتصريح الرسمي الممنوح لأصحاب الشأن، فإذا بالقِـس ذائع الصِّـيت يُـهدِّد المحافظ ويُـكذِّبه ويتوعّـده بالويل والثبور وعظائم الأمور، وزاد عليها قس آخر تهديد المحافظ بقتلة شنيعة، حسب ما جاء في إحدى لقطات الفيديو التي أذاعتها وكالات الأنباء ويتداولها الناس على الشبكات الاجتماعية بالإنترنت.
كما زاد القس الشهير نفسه تهديدا مباشرا للمجلس العسكري وقائده الأعلى بأمور لن يتحمّـلوها، إن لم يعيدوا بناء الكنيسة فورا، وأن البداية ستكون مسيرة قبطية هائلة لم تعرفها مصر من قبل، ستدخل مبنى الإذاعة والتليفزيون. ويُذكر هنا أن هذه التصريحات كانت في إحدى كنائس شبرا، التي انطلقت منها تلك المسيرة الهائلة، وسجّـلها بالصوت والصورة مراسل إحدى القنوات الفضائية الأجنبية.
بالفعل، نظمت المسيرة بطريقة متزامنة مع مسيرات قبطية في أكثر من محافظة، كالإسكندرية التي شهدت تجمّـع أكثر من ثلاثة آلاف قبطي أمام القيادة العسكرية للمنطقة الشمالية، وتجمّـعات أخرى أقل عددا في محافظات أسيوط وقنا والأقصر.
سارت المسيرة القبطية في اتجاهين، إحداهما من الغرب والأخرى من الشرق، وتلاقيا أمام مبنى التليفزيون المصري المحاط بوحدة تأمين من الشرطة العسكرية لا يزيد عدد أفرادها عن 300 جندي غيْـر مسلحين بأسلحة نارية ويحملون فقط، وفقا لتأكيدات القوات المسلحة، مُـعدّات مواجهة الشَّـغب، وهي عبارة عن عصا وحاجز بلاستيكي لحماية الصّـدر والوجه لكل فرد، ولم يكونوا حاملين أية أسلحة أو ذخائر.
وبعد تظاهرة سِـلمية لحوالي ألف قبطي، سادها الهدوء لمدة ساعة تقريبا حتى السادسة مساء، حين وصلت تجمعات هائلة حاملة العصي والأسلحة وقنابل المولوتوف وأسياخ من الحديد وأنابيب البوتاغاز الصغيرة، وحدث هرج شديد وبدأ اعتداء غيْـر مسبوق على جنود التأمين بالحِـجارة أولا وطلقات الرصاص وعلى مركباتهم العسكرية، وتم حرق المركبات وفيها الجنود الذين مُنِـع بعضهم من الخروج منها وهي تحترِق.
وفي الأثناء، نقلت مراسلة قناة العربية الفضائية نقلا حيا قائلة: “إن المتظاهرين الأقباط يعتَـدون على الجنود بالأسلحة والعصي ويحرقون المركبات”. كما أوضحت اللقطات المصورة من أكثر من جهة، عمليات الاعتداء الجماعي على الجنود بطريقة هيستيرية من قِـبل المتظاهرين بالعصىي والصلبان. كما ظهرت مركبتان عسكريتان تحاولان الفِـرار من التجمّـعات الغاضبة، التي استمرت في إلقاء الحجارة كتل اللَّـهب عليها وعلى مَـن فيها من الجنود، وفي الخلف، أصوات هائجة ودعوات لمساعدة الجرحى والقتلى الذين وقعوا في مساحة عريضة أمام المبنى، سواء العسكريين أو من المتظاهرين أنفسهم.
كان المشهد مُـروِّعا لا تصدِّقه العيْن، رأت جُـزءا مُـثيرا ومُـحزنا منه، ما بين الثامنة إلى التاسعة مساء، عمليات هجوم وكرّ وفَـرّ وطلقات رصاص غيْـر معروفة المصدر في اتجاه مبنى الإذاعة والتليفزيون، وأصوات تنادي بالتجمّـع على حافة جِـسر 6 أكتوبر القريب، وقنابل تُـضيء وتشعل ما حولها، وسيارات تنبعث منها رائحة الدخان ورائحة دخان القنابل المُـسيِّـلة للدموع تُـثير الغَـثيان.
وما لم يكن قابلا للتصديق، هو أن يتِـم الاعتداء على الجنود الذين يحمون تراب الوطن وأهله، بدون تمييز، ويضَـحّون من أجل الوطن بقدِّه وقديده، ولكنه وللأسف الشديد حدث، ونتج عنه شهداء من الجنود وشهداء من الأقباط ومصابون لا يقل عددهم عن 300 شخص، ناهيك عن مركبات عسكرية تمّ إحراقها وأخرى لمدنيين لا ذنْـب لهم.
كانت الأهرام ليوم 11 أكتوبر الجاري، قد نشرت على لسان أحد الجنود المصابين بجروح قطعية في أكثر من مكان من جسده، أنهم لم يكونوا يحملون أية أسلحة وأن المتظاهرين كانوا يحرِقون السيارات ويمنعون الجنود من الخروج منها أثناء الإحتراق، وأنهم قاموا بقطع تنك البنزين وأشعلوا النار في العربة العسكرية، ولذلك خرجت كل الجُـثث متفحِّمة ومات فيها 14 جنديا. بينما أكدت د. بثينة عبد الرؤوف، التي تواجدت في مبنى التليفزيون أثناء الأحداث (انظر بوابة الأهرام الإلكترونية بتاريخ 11 أكتوبر 2011)، أن أوائل القتلى كانوا من الجنود، وأنها أولا رأت جثَّـتين، ثم لحق بهما ستة شهداء أخرين لفظوا أنفاسهم في المركز الطبي الموجود بالمبنى.
تفسيرات فضائية بلا معلومات
في تفسير ما حدث، وقبل أن تتجمّـع المعلومات الدقيقة، سادت رواية في القنوات الفضائية الخاصة والصحف المستقلة، قِـوامها أن القوات المسلحة المصرية أتت فعلا شنيعا، حيث أطلقت الرّصاص على المتظاهرين وهُـم المصريون الأصليون، وقتلت منهم الكثير وأصابت العدد الأكثر، وأنها مسؤولة عن ذلك جُـملة وتفصيلا، وتطرّف البعض إلى حدّ وصْـف ما حدث، بأنه جريمة إبادة جماعية يتطلّـب وضع القائمين عليها أمام المحكمة الجنائية الدولية. ولم ينس هؤلاء، استدعاء تراث من القصص والروايات، التي تدعم ما يعتبرونه تمييزا وسوءا في إدارة الملف القبطي، كما طالبوا بإقالة محافظ أسوان وطرده من وظيفته العامة. وصرّح سياسيون وقساوسة، بأن ما حدث يستدعي طلب الحماية الدولية فورا وفضح مصر في كل مكان ومعاقبتها.
ولم ينس هؤلاء إدانة القنوات التلفزيونية المصرية، التي كانت تذيع على الهواء مباشرة اعتداءات المتظاهرين على الجنود وحَـرق المركبات العسكرية، وطالبوا بإقالة وزير الإعلام ووصفوه كاستمرار لسياسة النظام البائد. ونصح البعض الحكومة كلها بالإستقالة وترْك البلد إلى المصير المجهول.
التشهير بالقوات المسلحة المصرية
كان الأمر أشبَـه بعملية تعبِـئة شعبية وتشهير إعلامي غيْـر مسبوق ضد القوات المسلحة والمجلس الأعلى. كانت التصريحات قاسية والتفسيرات جاهِـزة ودم الشهداء لم يبرد بعدُ. وخرج المعلِّـقون يقطعون جملة من هنا وعبارة من هناك للتدليل على صِـدق رُؤيتهم بأن الجيش المصري خان القضية وباع الوطن وأهدر دم الأقباط عامدا متعمّـدا. وجاءت الجنازات للقتلى الأقباط كمناسبة لمزيد من سبّ وشتْـم الجيش وقيادته.
والغريب في كل هذه الأجواء، أن أحدا ممَّـن تطوّع بالنقد والإدانة والتشهير والتّـعبئة ضد مؤسسة الجيش والدولة المصرية، لم يجتهد في جمع المعلومات عمّـا حدث بدقّـة ولم يُشِـر أحد من هؤلاء إلى مسؤولية التحريض والتعبئة التي حدثت في الكنائس القاهرية، والكل ركَّـز على ما اعتبره تحليلا سياسيا عاما مرتبطا بتراث النظام البائد، الذي لم تفلح الثورة في التخلص منه، لأن الجيش، من وِجهة نظرهم، يحمي هذا النظام ويحرص عليه.
مَـن وراء الشحن والعنف في المسيرة القبطية؟
ولم يحاول أحد أن يستفسِـر عن السبب في تحوّل المسيرة، من سِـلمية إلى عنيفة بهذه الصورة المخطّـطة ومَـن وراءها ومَـن الذي سلّـح بعض المتظاهرين بالعصي والسيوف وغيْـر ذلك، ولم يجتهد أحد في التساؤل عن حقيقة ما جرى في قرية مريناب أصلا.
والمفارقة الكبرى، أن يعتبر كثيرون خروج الأقباط في هذه المظاهرة تحديدا، كعلامة فارقة في تاريخ مصر، لأنهم بذلك أكّـدوا، من وجهة نظر هؤلاء المحللين، حِـرصهم ـ أي الأقباط ـ على المواطنة والمشاركة في الحياة السياسية الجديدة بعد الثورة. ولم يلتفِـت كثيرون إلى أن هذه المظاهرة تحديدا، كانت تُـحرِّكها مطالب فِـئوية محدّدة ونوازع انتقامية، ولا علاقة لها بالمواطنة لا من قريب ولا من بعيد، وأن شعاراتها كانت دِينية بحْـتة، التَـقت بها رغبة العُـنف وتهديدات يُـعاقِـب عليها القانون الجنائي.
والأكثر من ذلك، شكَّـكت الغالبية من الكتّـاب والمعلِّـقين، في أن يكون للقوات المسلحة أي ضحايا أو شهداء أو مصابين، وأنكروا على شهداء الجيش استشهادهم في سبيل الوطن، ولم يفكِّـر أحد في توجيه التحية لمَـن استشهد أو أصيب، بل وأنكروا على المصابين من الجنود أن يتعرّضوا إلى أي أذى، وركّـزوا على إدانتهم وسبِّـهم والنيل من كرامتهم في تحليلات عابرة وصادمة وغيْـر مسبوقة وغيْـر أمينة بالمرّة. ولم ينس هؤلاء أن يقدِّموا النعي للثورة المصرية التي لم تأتِ بما يأملونه.
جاءت هذه التحليلات العابرة السيارة المُـنفعلة المتَّـكِـئة على مواقف مُـسبقة، بعد ساعات قليلة من صدور نتائج استطلاع للرأي أجراه مركز الدراسات الإستراتيجية بالأهرام، نُشر صبيحة الأحد 9 أكتوبر، وجاء فيه أن 89.7% من المصريين يثِـقون في المجلس العسكري وإدارته للمرحلة الانتقالية، ويلي ذلك ثقتهم في القضاء بنسبة 77%.
نظرية الفئة المُـندَسّـة والطرف الثالث الخفي
وبينما يسود مصر الحُـزن العميق والقلق يعُـمّ الناس جميعا لا يفرق بين مسلم أو مسيحي، والعيون تنزف دما ودموعا، إذا بالبابا شنودة يقدِّم تفسيرا للعنف والاعتداءات على المتظاهرين وسقوط الضحايا والمصابين، بأنها جاءت من قِـبل فئة مندسَّـة حوّلت المسيرة السِّـلمية إلى عنيفة، دون أن يُـشير إلى هوية هذه الفئة أو يحدِّد دينها. وجاءت تصريحات د. محمد سليم العوا ـ أحد المرشحين المحتمَـلين لانتخابات الرئاسة المصرية ـ لتؤكِّـد امتلاكه أدلّـة مُـصوَّرة تؤكِّـد أن طرفا غيْـر المتظاهرين، هو الذى أطلق النار وأحدث الهرج والمرج.
والحق، أن بعض ما جاء في مقولات بعض المتظاهرين، كما في صحيفة الشروق بتاريخ 10 أكتوبر الجاري، أنهم تعرّضوا للإعتداءات من قِـبل أطراف كانت تحمل الأسلحة البيضاء قبْـل أن يصلوا إلى منطقة ماسبيرو، أما متظاهرون آخرون، حسب الصحيفة نفسها، فقد توعّـدوا الجيش وأنه سيرى ما لم يتصور.
نظرية قاصرة واعتراف قنبلة
نظرية الطرف الثالث تنفي المسؤولية عن المتظاهرين الأقباط ،هكذا في غمضة عين، ولكنها أيضا لا تقدم إجابات شافية عن كل الأسئلة التي تحيط بهذه المظاهرة، بدءا من التخطيط لها ونهاية بما أحدثته من مأساة لمصر كلها. والأهم، لا تقدّم تفسيرا لكل هذا الحجم من الإعتداء على الجنود بالحجارة والرّصاص.
وبينما طالب الجميع بتنفيذ القانون ومعاقبة المسؤول عن الجريمة بحقّ المتظاهرين، قرّرت الحكومة تشكيل لجنة واسعة الصلاحيات لتقصي الحقائق برئاسة وزير العدل، والتي بدأت مهمّـتها بزيارة إلى القرية التي انطلقت منها إشاعة هدم وحرق الكنيسة. وهنا جاءت المفاجأة الكبرى.
فقد أذاعت قبل يوم من وصول اللجنة، قناة الكرمة، وهي فضائية قبطية ترعاها الكنيسة الأرثوذكسية نفسها، حديثا قنبلة للأنبا هيدرا، أسقف محافظة أسوان التي تتبعه كنيسة المريناب المفترضة، حيث قال إنه لا توجد كنيسة أصلا في القرية، بل مُصلّى صغير، ولم يحدث أي هجوم أو حرق لكنيسة، لأنها لم توجد أساسا، وأن المبنى نظرا لقِـدمه، فقد استطاع الكاهن المسؤول في المصلى، بعلاقاته الطيبة مع الإدارة المحلية، أن يستخرج تصريحا بالإحلال والتجديد باسم كنيسة مارجرجس، التي لم تكن موجودة، وأنه زاد في المساحة المخصصة للبناء، على عكس ما جاء في الترخيص، وأن المسلمين في القرية يساعدون في البناء، ولم يحدُث أن تأذى أحد من المسيحيين في القرية.
جاء الإعتراف لينصِـف محافظ أسوان ويحاول إزالة الحرَج عن الكنيسة الأرثوذكسية، حين تأتي اللجنة الحقوقية لترى الحقيقة على الأرض، عكس ما أشيع وترتب عليه ما ترتَـب من مأساة وطنية وإنسانية فظيعة، لكن الحرج سيظل قائما. فلما كانت قيادة الكنيسة تعلم بهذه الحقائق الدّامغة، فلماذا لم توقف آلة التحريض داخل كنائس عديدة بزعم حرق كنيسة ليست موجودة؟ ولماذا لم توقف هذه المسيرة التي لا سبب لها أصلا؟ ولماذا لم تفعل ما بوسعها لمنع كل هذا القتل والتخريب الذي حدث؟ ولماذا سمحت بأن تستمِـر عمليات التعبئة ضد المسلمين والقوات المسلحة؟ أسئلة عديدة لن يُـدركها إلا الضمير الوطني الحيّ.
وربما قال قائل، إن قيادة الكنيسة لم تعُـد تهيْـمن تماما على قساوسة في منتصف العمر، استمرأوا العمل السياسي بلباس ديني أو أنها تحبِّـذ مثل هذه المظاهرات أيا ما يأتي من ورائها. وكلا الإحتمالين خطير.
توضيحات المجلس العسكري
بعد اعتراف الانبا هيدرا، جاءت توضيحات المجلس العسكري في لقاء صحفي موسّـع عقد يوم الأربعاء 12 أكتوبر، وخلاصتها أن جنود الجيش المكلفين بتأمين مبنى التليفزيون، لا يحملون أسلحة، وإلا كان الوضع أكثر مأساوية، وأنهم تعرّضوا للاعتداء الغيْـر مبرّر وبأشكال عنيفة، وأن الجيش ليس طرفا في مواجهة جزء من الوطن، وأنه لا يستبعد أن يكون هناك طرف ثالث استغلّ المظاهرة وحوّلها إلى معركة، ولكن لا يجزم بذلك، والأمر منوط بجهات التحقيق، وأن جزءا من المتظاهرين كان يحمل أشياء غريبة وأسلحة وعصي، وأن الجيش كان وسيظل جيشا لكل المصريين بدون تفرقة، ولذا سيُـواجه بحزم أية أمور مماثلة في المستقبل، ولن يتهاون في مواجهة هؤلاء الذين يطالبون بحماية دولية، وأنه يضع كل ما لديه من حقائق أمام جهات التحقيق القضائية. وأخيرا، أن شهداء الجيش، وتمسُّـكا بمبدإ أصيل في العسكرية المصرية، قد تم تشييع جنازاتهم سِـرّا، حتى لا يحدُث ما لا يُـحمد عُـقباه.
ومن سمع العبارة الأخيرة التي تكرّرت مرات عدة، أدرك على الفور أن هناك شهداء كثيرين من الجنود قضوا بالرصاص أو بالحرق في مركباتهم العسكرية أو بالطعن بآلة حادّة أو نتيجة الضرب بالعصي المحملة بالسكاكين والخناجر، ولم يُعلن عن ذلك، لأنه لو جرت جنازات شعبية لهُـم، لتحوّلت مصر إلى أتون من العنف الشعبي، وربما حرب أهلية تهلك الزرع والضرع، ولا يبقى مسجدا أو كنيسة. فكان القرار الصائب أن يصمت الجنود في سبيل الوطن.
القاهرة – رويترز – نفى الجيش المصري، الذي يواجه موجة استياء وطني ودولي، يوم الاربعاء 12 أكتوبر 2011، الاستخدام المفرط للقوة أثناء تظاهرة المسيحيين الأقباط في القاهرة، التي قتل فيها 25 شخصا وأصيب اكثر من 300 بجروح.
وأكد مسؤولون عسكريون كبار في مؤتمر صحفي، أن الجيش لم يطلق النار على الجموع ولم يسحق بصورة متعمّـدة متظاهرين بآليات مدرّعة. وتساءل اللواء محمود حجازي “من قتلهم؟ ما زلنا نبحث عن جواب. هل الجيش قتلهم؟ بالتأكيد لا”. وأضاف أن “القوات المسلحة لا يمكن ان توجه نيرانها الى الشعب”، و”لو سمحنا باستخدام السلاح، لكانت العواقب كارثية، وهو ما لم يحدث”.
وأكد اللواء حجازي على “الثوابت التي تحكم تصرفات المجلس العسكري، وأولها أن الشعب المصري هو كل إنسان يعيش على الأرض المصرية، أيا كان دينه أو جنسه”، مشيرا إلى ان “له الحقوق نفسها وعليه الواجبات نفسها”.
وقال إن “أقباط مصر ليسوا فئة طارئة على المجتمع، وهم جزء من نسيج هذا المجتمع”. أكد أن شعب مصر “قوته في توحّـده ومقصود توحّـده، هو توحد جميع أطياف عناصر المجتمع”. وقال إن “مصر لم تكن في يوم من الأيام أحْـوج لجهود رجالها وتوحّـدهم، أكثر مما فيه الآن”.
وشدّد اللواء حجازي على أن “القوات المسلحة مِـلك للشعب بجميع أطيافه”، موضحا أن “نسيج القوات المسلحة مكوّن من الشعب بجميع أطيافه، ويمكن أن يكون من ضمن الشهداء الذين تواجدوا في ماسبيرو مسيحيون”، مشيرا إلى أن “تراب مصر ارتوى بدماء الشهداء، ومنهم الاقباط”. وأكد لواء آخر، هو عادل عمارة، في المؤتمر الصحفي نفسه، أن الجنود لم يكن معهم ذخيرة حية.
وعرض الجيش صورا لمتظاهرين ينزعون إلى العنف أمام مبنى الاذاعة والتلفزيون المصري، حيث سقط أغلب الضحايا. وأكد أن “بعض المتظاهرين كانوا يحملون سيوفا وزجاجات مولوتوف الحارقة”. غير أن شهود العيان الأقباط قالوا إن الجنود أطلقوا عليهم النار وأن عددا منهم قتل دهْـسا تحت عجلات مدرّعات الجيش.
ونفى عمارة أن تكون مدرّعات دهست المحتجين، وقال “لا يمكن أن نقول ذلك على القوات المسلحة، ولا يمكن أن يكتب التاريخ أن القوات المسلحة دهست المواطنين”. وشاهد مراسل فرانس برس عقب الاشتباكات، جثتين مسحوقتين. ويقول الشهود إن الجثتين سحقتا تحت عجلات ناقلة جند مدرّعة. وقال عمارة إنه ربما تعرض شخص للصدم بناقلة جند عن طريق الخطأ، لكنه لم يؤكّـد ذلك.
وأكد الطبيب الشرعي ماجد لويس النمر، الذي أجرى تشريحا لجُـثث متظاهرين، لشبكة او.ان تي.في الخاصة أنه عاين 17 جثة وقد سحقت آليات عشرا منها، وأن جثثا أخرى تحمل آثار رصاص. وشاهد مراسل وكالة فرانس برس في المشرحة آثار جروح ناجمة عن الرصاص على بعض الجثث. ونقلت منظمة العفو الدولية في بيان عن شهود أن مدرعات أطلقت النار وداست متظاهرين.
وذكرت وكالة أنباء الشرق الأوسط من جهة أخرى، ان الجيش لا يريد الكشف عن عدد الجنود الذين قتلوا في تلك المواجهات، وقد دفِـنوا بعيدا عن الأنظار “للحفاظ على معنويات القوات المسلحة”. وتحدث التلفزيون الرسمي الأحد 9 أكتوبر عن مقتل ثلاثة جنود.
ويتعرض الجيش، الذي يتولى إدارة شؤون البلاد منذ سقوط نظام الرئيس حسني مبارك في 11 فبراير، لانتقادات حادّة من جانب الأقباط وسيواجه أزمة سياسية.
وقدم نائب رئيس الوزراء حازم الببلاوي، وهو وزير المال أيضا، استقالته يوم الثلاثاء، متذرعا بتلك المواجهات، وقد رفض الجيش استقالته.
وازدادت أيضا في الايام الاخيرة التصريحات التي تعبِّـر عن القلق على سلامة الأقباط ومستقبل العملية الانتقالية في مصر، بدءا بالرئيس الأمريكي باراك اوباما، وصولا إلى الامين العام للأمم المتحدة بان كي مون.
ودعا البابا بنديكتوس السادس عشر الأربعاء الى “الحفاظ على التعايش السِّـلمي” بين الطوائف في مصر، وقدم دعمه لـ “جهود السلطات المدنية والدِّينية” للتوصل إلى ذلك.
وقد وقعت أعمال العنف الأحد، وهي الأكثر دموية منذ تنحي الرئيس مبارك، قبل أسابيع من اول انتخابات نيابية مقرّرة في 28 نوفمبر المقبل. ويعتبر الاقباط الذين يمثلون 6 إلى 10% من المصريين، أنهم يتعرّضون للتمييز في مجتمع يشكل المسلمون أكثريته الساحقة.
(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 12 أكتوبر 2011).
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.