في موريتانيا.. مخاضُ ثـورة على أبواب الإنتخابات
رغم أن موريتانيا عرفت خلال السنوات الأخيرة تطوّرات سياسية دفعت بها إلى واجهة الأحداث واستطاعت البلاد أن تخرج منها بسقْـف من الحريات الفردية والجماعية، لا تتوفر في كثير من البلدان العربية الأخرى، إلا أن نسائم رياح الثورات العربية التي هبّـت مؤخرا على المنطقة، بدأت تصِـل إلى الموريتانيين المتطلِّـعين إلى مزيد من الحرية والحُـكم الرشيد والانفتاح السياسي والإعلامي.
غير أن الحِـراك الاحتجاجي في موريتانيا، ما زالت تسيطر عليه المطالِـب الاجتماعية الضيقة، رغم وجود نَـواة دعوات شبابية، انطلقت على غِـرار الموضة العربية من مجموعات شباب “الفيسبوك” و”تويتر”، لكنها دعوات لم تتمكّـن حتى الآن من جذْب الشارع السياسي إليها، كما أن حركات الإحتجاج الاجتماعية والاعتصامات العمالية، لم تلتحم بعدُ بتلك المجموعات الشبابية.
“ساحة بلوكات”: عنوان المعركة
كانت البداية قبل أربعة أسابيع، عندما دعت مجموعات أطلقت على نفسها “ثوار 25 فبراير” عبْـر الفيسبوك إلى التظاهر ضد النظام وسط العاصمة نواكشوط، وقد اتّـسم تعاطي السلطات مع تلك التظاهرات بقدْر من الارتباك والتردّد، حيث عمدت بداية إلى الإحجام عن قمعها، فاسحة المجال أمام المجموعات الشبابية للتظاهر، وهو ما أدّى إلى تقليص سقْـف المطالب من “إسقاط النظام” إلى “إصلاح النظام” و”محاربة الفساد”، لكن السلطات عادت في الأسبوع الموالي وقمَـعت المحتجِّـين بعنف، ثم رخَّـصت لهم في المرّة الثالثة ، ثم قمعتهم مرة أخرى.
غير أن تصاعد وتيرة القمع سرّعت من رفع سقْـف المطالب لتتحوّل من “إصلاح النظام” و”محاربة الفساد”، إلى “إسقاط النظام”، ودخلت أحزاب المعارضة على الخط عبْـر بيانات تندِّد بقمع المتظاهرين، وهدد بعض البرلمانيين المعارضين بالنُّـزول إلى الشارع لحماية الشباب من قمْـع قوات الأمن.
واقتصرت المواجهات خلال الأسابيع الماضية بيْـن قوات الأمن والمتظاهرين على ميدان وسط العاصمة نواكشوط، يُـعرف باسم “ساحة بلوكات”، حيث أعلنت السلطات قبل أسابيع عن بيْـع تلك الساحة في المزاد العلني لمستثمرين خصوصيين، بينما اعتَـبر الشباب المتظاهرين أن تلك الساحة تشكِّـل رمزا وطنيا، مطالبين بالتَّـراجع عن بيعها، لأنها كانت تحتوي على أول مباني رسمية شُـيِّـدت في العاصمة نواكشوط خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
ويُـصرّ الشباب على التظاهر وسط تلك الساحة، معتبرين أن قرار بيْـعها هو تجسيد حي للفساد الذي ينخر جِـسم البلد، بينما تقول السلطات إنها مستعدّة لترخيص أي تظاهُـرة للشباب الثائرين، شريطة أن لا تكون في “ساحة بلوكات”. وعلى أطراف تلك الساحة، تدور المواجهات العنيفة كل يوم جمعة بيْـن قوات ألأمن والمتظاهرين، وهي مواجهات وإن كانت لم تسجّـل سقوط ضحايا فيها حتى الآن، إلا أن المراقبين يروْن أن تصاعُـد حِـدَّتها يهدِّد بتأزُّم الأوضاع ودفْـعها نحو مزيد من العنف والفوضى.
احتجاجات اجتماعية
وبالتَّـزامن مع تظاهرات المجموعات الشبابية، تشهَـد موريتانيا موجة احتجاجات اجتماعية، بعضها لحمَـلة الشهادات العُـليا العاطلين عن العمل، والبعض الآخر لسكانٍ يُـطالبون بقطع أرضية يُـقيمون فيها، وآخرون عمَّـال غيْـر دائمين في مؤسسات الدولة، يطالبون بحقوقهم وأطباء وأساتذة وطلاّب يُـلوِّحون بالإضراب وعسكريون متقاعدون وحقوقيون يضرِبون احتجاجا على تقصير السلطات في تطبيق قوانين تجريم العبودية وتشغيل القصَّـر.. والحبل على الجرار.
ومع مرور الوقت، تحوّلت الساحة الواقعة أمام القصر الرِّئاسي، إلى مقصد لعشرات المُـعتصمين والمحتجِّـين على اختلاف مطالبهم وتوجُّـهاتهم، لكنها مطالب قابِـلة لأن تتحوّل إلى كتلة مطلبية اجتماعية كبيرة موحَّـدة، تشكِّـل وَقودا لحركة احتجاجية كبرى، قد لا تكون للنظام طاقة لمواجهتها.
موريتانيا ليست مصر ولا تونس؟
وعلى غِـرار الأنظمة العربية، سارع أنصار النظام الموريتاني إلى التقليل من أهمية الحركات الاحتجاجية، والقول أن موريتانيا ليست مصر ولا تونس ولا ليبيا ولا اليمن، وأن المطالب التي ثار من أجلهِـا مواطنو تلك الدول، هي التي تضمَّـنها برنامج النظام الحالي، ويمضي قادة الحزب الحاكم في نواكشوط إلى القول أن الثورات الشعبية العربية، إنما هي تقليد للثورة الموريتانية ـ في إشارة إلى الانقلاب الذي قاده الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز سنة 2008 ـ مؤكِّـدين أن البلد يعيش في ظلِّ نظام مُـنتخب ديمقراطيا، يحارب الفساد ويسعى للرّفع من المستوى المعيشي للسكان وتعزيز الحريات العامة والفردية، فضلا عن أن الأنظمة التي ثارت شعبوها للإطاحة بها، هي أنظمة شمولية تقدَّر أعمارها بعشرات السنين، في حين أن النظام الموريتاني لم يكمل بعدُ عامه الثالث في الحكم، ولا سبيل إلى مقارنته بأنظمة تهالكت على الكرسي وسَـئِـمها الناس وثاروا للتخلُّـص منها.
أما معارضو النظام فيروْن أن شعارات محاربة الفساد التي يرفعها الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز، إنما هي وسيلة لتصفية الحسابات السياسية، ويتَّـهمونه بالإيغال في المحسوبية وسوء التسيير. ويقول أحد النواب المعارضين، “إن رأس النظام الحاكم لا يملك مقوِّمات تسيير الدولة ويتعامل مع مؤسسات الدولة كما يتعامل مع محلٍّ تجاري مملوك له”.
دعوات لثورة تقتلع الجذور
ويدعو بعض المثقَّـفين والكتَّـاب الموريتانيين إلى ثورة حقيقية، مؤكِّـدين أن موريتانيا تعيش منذ عام 1978 ـ تاريخ أول انقلاب عسكري فيها ـ تحت نظام حُـكم واحد، وما حصل من انقلابات وانتخابات بعد ذلك، إنما كان تغييرا داخليا في النظام لا يتجاوز عادة الإطاحة برأسه، مع استمرار النُّـخبة الحاكمة في التحكُّـم في مفاصل الدولة. ويضيف هؤلاء أن وزراء وكِـبار مسؤولي نظام الرئيس الأسبق معاوية ولد الطايع، الذي حكم البلاد أزيد من عشرين سنة، هم اليوم وزراء ومسؤولو النظام الحالي.
ورغم أن كل نظام جاء يتَّـهم سلفه بالفساد والديكتاتورية، فإن البلاد لم تعرف أي محاسبة لمسؤول سابق عن فساده أو قمْـعه للحريات، وحتى ضباط الأمن والجيش الذين ضرب ولد الطايع بهم معارضيه بيَـد من حديد، ما زالوا في مواقعهم اليوم، يضرب بهم كل حاكِـم جديد معارضيه، ومن هنا تتحدّث النخبة الشبابية عن حاجة البلاد إلى ثورة حقيقية تقتلع نظام النخبة الحاكمة في البلاد منذ عقود من جذوره وتؤسس لعهد جديد يتَّـسم بالعالة الاجتماعية والحُـكم الرشيد ومحاربة الفساد.
ومع تصاعُـد التوتُّـرات السياسية والاجتماعية، يكرِّر النظام استعداده للحوار وتجدِّد المعارضة دعوتها له، لكنه حتى الآن ما زال الأمر مجرّد “حوار الطُّـرشان”، حيث تُـصر المعارضة على أن يكون “اتفاق دكار”، الذي أنهى أزمة ما بعد انقلاب 2008، هو المرجعية الأساسية لأي حِـوار، يرفض النظام العوْدة إليه (اتفاق دكار) ويؤكِّـد استعداده لحوار غيْـر مشروط.
وفي محاولة لقطْـع خطوات نحو تجسيد دعوات الحوار، قام رئيس الوزراء مولاي ولد محمد الأغظف باستعداء شخصيات سياسية معارِضة وأبلغهم رغْـبة الحكومة في إطلاق حوار سياسي جادّ، يفضي إلى وضع حدٍّ للأزمة السياسية والتوصّـل إلى اتفاق حول أساسيات تسيير شؤون البلاد، لكن قادة المعارضة ما زلوا يروْن في الأمر مجرّد مناورة سياسية تهدِف إلى تضييع الوقت وذرّ الرَّماد في العيون.
انتخابات ستحدد مسار الأحداث
وبالتزامن مع ذلك، تستعد البلاد لانتخابات برلمانية وبلدية، يُـعتقَـد أنها ستُـساهم إلى حدٍّ كبير في تحديد مسار الأحداث، إذ أن النظام الحاكم لو أصَـر على تعزيز سيْـطرته على المؤسسات البرلمانية والمحلية في الانتخابات القادمة وإقصاء المعارضة منها، فإن ذلك قد يعجِّـل باندلاع أزمة سياسية، على غِـرار ما حصل في بلدان عربية أخرى، كمصر وتونس.
أما إذا اتَّـبع النظام إستراتيجية امتِـصاص الصَّـدمات ومنَـح المعارضة أصواتا في البرلمان تمكِّـنها من المشاركة في صناعة القرار أو على الأقل إسماع صوتها من داخل المؤسسات الجمهورية، فإن ذلك قد يؤجِّـل تأجيج الأزمة التي يرى كثير من المراقبين أن رياحها ستعُـمّ المنطقة ولن تبقي ولن تذر، وأن الأمر يتطلب وقتا لم يعُـد طويلا لتنضُـج فكرة الثورة في البلد على نار الثورات المجاوِرة لها، ويرى هؤلاء أن سياسات النظام الحالي تدفع نحو غاية معارضيه، وهي تأزيم الأوضاع وتقريب ساعة “الثورة المنتظرة”.
فرقت الشرطة في نواكشوط الثلاثاء 8 مارس بالهراوات والغازات المُـسيلة للدموع، عشرات الشبان خلال محاولتهم التظاهر في إطار تحرك احتجاجي بدؤوه في 25 فبراير، للمطالبة بإصلاحات سياسية واقتصادية، كما أفاد مراسل وكالة فرانس بريس.
واستخدمت الشرطة الغازات المسيلة والهراوات لتفريق عشرات الشبان المعارضين، الذين رشقوها بالحجارة، مؤكِّـدين أنهم يدافعون عن “حقِّـهم في التظاهر”.
واستمرت المواجهات بين الطرفيْـن طيلة بعد الظهر. وعند المساء، كانت عمليات الكَـرّ والفَـرّ لا تزال مستمرّة في إحدى ساحات نواكشوط، حيث انتشر عناصر الشرطة بأعداد كثيفة لمنع الشبان من العوْدة، إلا أن هؤلاء ما فتِـئوا يعودون، وفي كل مرّة كانت الشرطة تعمد إلى تفريقهم مجددا.
وبحسب أحد المتحدثين باسم الشباب المتظاهرين، فان “عددا من الشباب اعتُـقل وواحد منهم على الأقل تعرّض للضَّـرب المبرح على أيدي الشرطة”.
وكانت الحكومة الموريتانية سمحت للشباب منذ أن بدؤوا حركتهم الاحتجاجية في 25 فبراير بالتظاهر في هذه الساحة بشكل شِـبه يومي، من دون أي مانع، إلا أنها قررت الآن “تطبيق القانون الذي يفرض الحصول على ترخيص مُـسبق” للتظاهر.
ويوم الجمعة، نظم الشباب المعارضون للحكومة اعتصاما في نواكشوط، شارك فيه “آلاف” الأشخاص للمطالبة بإصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية. وهتف معارضو النظام “الشعب يريد إصلاحات. غَـيِّـر أو ستتغيَّـر. حان وقت بناء الوطن”.
وفي اليوم التالي، نظم مئات الموريتانيين في الساحة نفسها تجمُّـعا لدعم الرئيس محمد ولد عبد العزيز.
(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 9 مارس 2011)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.