قشة “الراجحي” التي كادت أن تقصم ظَـهْـر البعير في تونس
"كلما استتبّ الأمن، قام البعض بافتعال أزمات وهمِـية"، هذا ما يعتقِـده الوزير الأول التونسي الباجي قايد السبسي، الذي شنّ هجوما مضادّا على وزير الداخلية السابق فرحات الرّاجحي، متَّـهما إياه بكونه "غير مسؤول وكاذب".
غير أن إعلان حالة الطوارئ بالعاصمة التونسية وكذلك الحوار الصحفي، الذي نقلته القنوات التلفزيونية الثلاث مساء يوم الأحد الماضي (8 مايو 2011)، لم يطمئِـنا جميع التونسيين الذين اختلفت ردودهم، وذلك في ظل أجواء مشحونة، بعد أن تجدّدت المواجهات بين قِـوى الأمن والجيش من جهة، ومجموعات من المنحرفين واللّـصوص الذين استغلّـوا الفرصة للقيام بعمليات نهْـب وتخريب منظَّـمة بعديد من الأحياء السكنية.
حديث عن “قصة حكومة الظل”
سياسيا، وبعد أن تحسَّـن الوضع الأمني خلال الأسابيع الأخيرة، كان الجميع ينتظر أن تتوصل الهيئة العُـليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي مع الحكومة، إلى حلٍّ وفاقي حول الفصل 15 من القانون الإنتخابي، المتعلِّـق بحرمان مسؤولي الحزب الحاكم سابقا من حق الترشح إلى انتخابات المجلس التأسيسي، إلى جانب تحقيق التوافُـق حول تركيبة الهيئة المستقلة للإنتخابات التي سيعهد إليها بالإشراف الكامل على الإقتراع.
فجأة، ظهر السيد الراجحي في حوار مصوَّر نشر على موقع فيسبوك، ليؤكِّـد أخبارا راجَـت في الفترة الأخيرة، مفادُها وجود “حكومة ظِـل” يقودها رجل الأعمال السابق كمال لطيف، الذي لعِـب دورا هاما في دعم الجنرال بن علي خلال الفترة الأولى من حكمه، قبل أن يختلف معه بسبب زواجه من ليلى الطرابلسي.
وفي الواقع، لم تظهر قصة “حكومة الظل” مؤخّـرا، وإنما تداولتها الألسُـن منذ حكومتيْ محمد الغنوشي الأولى والثانية، حيث كثُـر الحديث يومها عن الوزير الأول السابق الهادي البكوش، الذي قيل بأنه يُـدير شؤون البلاد من وراء الستار. وتعكِـس هذه الأخبار والفرَضِـيات، أزمة الثقة في الجهاز الحكومي ومحاولة البعض تفسير حالة التردّد في حسْـم بعض الملفات أو التردّد في اتخاذ بعض القرارات (مثل محاكمة رموز المرحلة الماضية ومحاسبة المسؤولين من رجال الأمن على قتل عدد من التونسيين)، بالقول بأن الحكومة لا تزال مقيَّـدة ومُحاصَـرة بهذه الأطراف التي لا تزال تتمتّـع – حسب اعتقاد هؤلاء – بنفوذ واسع داخل أجهزة الدولة التونسية.
ورغم نفي قايد السبسي القاطع، فقد استمر الحديث عن ذلك، حيث أكّـد رئيس الهيئة التأسيسية لحركة النهضة علي العريض في بعض التصريحات وجود حكومة ظل “تُـسيِّـر البلاد إلى المجهول”.
القنبلة التي فجّـرت المشهد
كما اتَّـهم الراجحي الوزير الأول بالكذب وذكر أن هذا الأخير تعرّض خلال المحادثات الرسمية التي أجراها مع المسؤوليين الجزائريين، إلى الإستفادة من خِـبرتهم لقطع الطريق أمام إمكانية فوْز حركة النهضة في الانتخابات القادمة، وأنه في صورة وصول هذه الأخيرة إلى السلطة، فإن الجيش – حسب اعتقاده – سيقوم بانقلاب عسكري وأن الجنرال رشيد عمّـار، القائد الأعلى للقوات المسلحة، قد زار دولة الإمارات وربّـما التقى هناك بالرئيس السابق بن علي. وكانت تلك القنبلة التي فجَّـرت المشهد وكادت تُـعيده إلى نقطة الصفر.
وفي الحقيقة، لامس وزير الداخلية السابق بقوله هذا، مسألتين تتميَّـزان بحساسية عالية خلال هذه الفترة الدقيقة. تتعلق المسألة الأولى بحركة النهضة، التي تثير – منذ عودتها إلى الساحة السياسية وحصولها على التأشيرة القانونية – مخاوف أطراف عديدة، داخلية وخارجية، وذلك بالرغم من استمرار قيادتها في توجيه رسائل مُـطمْـئِـنة عبْـر التصريحات الهادئة والمواقف السياسية المعتدلة. وكلما اقترب موعد الانتخابات، إلا وازداد الشّـحن السياسي والأيديولوجي ضد “النهضة”، خوفا من حصولها على نصيب الأسد في المجلس التأسيسي القادم، الذي لن يتولى فقط صياغة الدستور الجديد، وإنما أيضا تعيين الحكومة القادمة واختيار الرئيس الجديد.
وبالرغم من أن هذه الفَـرَضية مُـستبعَـدة لاعتبارات عديدة، إلا أنها تُـعتَـبر من بين المسائل الغامضة التي لا تزال تُـربِـك المرحلة الإنتقالية وتدفَـع بالكثيرين إلى ملازمة الحَـذَر وعدم الوقوف على الحياد، بل إن البعض قد يلجأ إلى العنف من أجل إيقاف قطار النهضة أو إخراجه عن مساره، لهذا السبب بالذات، بنى السيد الراجحي فرَضِـيته السابقة، التي تفاعلت معها بعض الأوساط ولم تستبعد وقوعها، في حين أن التحليل المنطِـقي الهادئ، يجعل من المستبعَـد جدا أن يفكِّـر رئيس حكومة، مثل الباجي قايد السبسي، في الاستعانة بالنظام الجزائري لسحب البساط من حركة النهضة، لهذا اعتبر الشيخ عبد الفتاح مورو أن تصريحات الراجحي “تكشف عن إرادة لإبعاد الإسلاميين”.
أما المسألة الثانية، التي أوقعت هذا الرجل في مأزق حادّ، فهي تخُـصّ الجيش الذي يحظى بتعاطف التونسيين، نظرا لملازمته الحياد قبل الثورة وبعدها. غير أن ذلك لم يمنَـع الكثيرين من عدم استبعاد احتمال لجوء الجيش إلى استلام السلطة، خاصة إذا فشل السياسيون في تطبيع الأوضاع وتحقيق الإنتقال الديمقراطي بشكل سِـلمي وناجح، بل هناك من يؤمن بضرورة أن يُـقـدم الجيش على هذه الخطوة في حالات ثلاث: أن تـعُـمّ الفوضى أو تتمكن قوى العهد السابق من استعادة دورها أو في صورة وصول الإسلاميين إلى الحكم، ولهذا كان مُهِـمّا أن تؤكد قيادة الجيش من جديد على التزامها بالنظام الجمهوري.
غموض سياسي
على إثر تصريحات الراجحي، تمّـت الدعوة عبْـر الفيسبوك إلى تنظيم مسيرة احتجاجية بقلب العاصمة التونسية يوم الجمعة 8 مايو 2011، لم تشارك فيها الأحزاب السياسية التي لازمت في غالبها الحذر.
ورغم طابعها السِّـلمي في البداية، إلا أنه سرعان ما توتَّـرت الأجواء وقام بعض رجال الأمن بارتكاب تجاوُزات خطيرة، ذهب ضحيتها عدد من الصحفيين خلال ممارستهم لمِـهنتهم. واستباقا لِـما يمكن أن يحصُـل في بعض الضواحي، اتّـخذ قرار تفعيل حالة منع الجولان ليلا بالعاصمة. وفي بلاغ صادر عنها، اعتبرت وزارة الدفاع أن “هذه الأقاويل المُغرضة ليست بالأمر الهين وتشكل خطورة قصوى على ثورة الشعب التونسي وعلى أمن البلاد حاضرا ومستقبلا”، وأشارت إلى أن هذه التصريحات “تستوجب التعمق في خفاياها ومراميها والكشف عن خلفياتها ولا يكون ذلك إلا من طرف القضاء الذي سيأخذ مجراه الطبيعي في نطاق استقلاليته الكاملة”، مؤكدة في الوقت نفسه تمسّـك المؤسسة العسكرية بالنظام الجمهوري، وهو ما قد يؤدي لاحقا إلى رفع الحصانة عنه من قِـبل المجلس الأعلى للقضاء.
واختلفت مواقف الأطراف السياسية من كل ذلك، وخيّـم مرة أخرى على البلاد الغموض السياسي، مما زاد في حِـدة المخاوف لدى التونسيين. وبذلك اكتملت عناصر الأزمة السياسية.
من جهة أخرى، في زيارته الأخيرة إلى تونس، أكّـد المحامي والسياسي الفرنسي المعروف روبير بادنتير، أن من مصلحة التونسيين تقليص فترة الانتقال الديمقراطي إلى الحد الأدنى الممكن، وهو بذلك يشير إلى أهمية تجاوز أزمة الشرعية، التي غالبا ما تعقب الثورات. فلا توجد اليوم في تونس مؤسسات شرعية منتخَـبة، وهو ما غذّى الصراع بين مختلف الأطراف وفتح المجال أمام محاولات استضعاف الدولة.
نُـخبة تريد أن تحكم وجمهور يبحث عن دليل
ومن هنا، جاء حِـرص الكثيرين على تنظيم انتخابات المجلس التأسيسي في موعِـدها المحدد (24 يوليو القادم)، رغم ضيق المجال الزمني، وذلك حِـرصا على إخراج البلاد من حالة عدم الشرعية. لكن التصريح الذي أدلى به مؤخرا عياض بن عاشور، رئيس الهيئة العليا، قد فتح المجال أمام إمكانية تأجيل موعد الإنتخابات إلى شهر أكتوبر أو نوفمبر القادمين، وهو ما لمح إليه أيضا الوزير الأول، رغم إعلانه أيضا بأن الحكومة متمسِّـكة بإنهاء مهامِّـها في نفس التاريخ المشار إليه أعلاه.
بقطع النظر عن تأخير موعد 24 يوليو من عدمه، فالمؤكّـد أن الانتقال الديمقراطي في تونس لا تزال تواجهه تحديات حقيقية وصعبة. فالنخبة السياسية، وإن حقَّـقت بعض التقدّم ونجحت في تجاوز بعض العقبات وتمكَّـنت إلى حدٍّ ما من تأطير الحِـوار بين مكوِّناتها الرئيسية، إلا أنها أخفقت من جهة أخرى في بناء أجواء الثقة داخل صفوفها، وبينها وبين الحكومة أو بينها وبين المواطنين، وهو ما تعكسه بوضوح عمليات سَـبْـر الآراء، التي بدأت تنظّـم في تونس لأول مرة، والتي كشفت عن عُـمق المسافة بين نُـخبة تريد أن تحكم وجمهور يبحث عن دليل يثق فيه ويكشف له الطريق.
سيدي بوزيد (تونس) (رويترز) – شهد سكان المدينة التونسية التي اضرم فيها بائع متجول النار في نفسه في ديسمبر كانون الاول الماضي سقوط رئيسين عربيين اثر موجة من الاحتجاجات اطلقوا شرارتها الاولى لكن لم يطرأ تغيير يذكر على حياتهم.
وكان انتحار محمد بوعزيزي البائع المتجول الذي صادرت الشرطة بضاعته والميزان الذي يستخدمه في عمله بمثابة الشرارة التي اشعلت انتفاضتين اطاحتا برئيسي تونس ومصر ولا زالت تجتاح العالم العربي.
ومن المقرر ان تجري الانتخابات التونسية في يوليو تموز ولكن سكان مهد “الربيع العربي” يقولون انه لم تتم معالجة سوى عدد محدود من المشاكل التي دفعتهم للنزول الى الشوارع.
حسن مسعودي (40 عاما) بائع فاكهة عمل بجوار بوعزيزي ويقول وهو يبيع الموز والتفاح والبرتقال في مواجهة مبنى حكومي حيث اندلعت أولى التظاهرات “انضممت للمظاهرات وتصديت للشرطة. فعلت كل شيء”
“.. لدي اربعة اطفال وليس لي منزل. انا شخصيا احتاج مساعدة من الحكومة الجديدة ولكن لم تأت أي مساعدات بعد.”
الفقر واضح في سيدي بوزيد وتمتليء شوارع المدينة المتهالكة بالعشب ويملا سائقو السيارات خزانات البنزين من عبوات بلاستيكية من اكشاك على الطريق ويسافر عمال اميالا لمدينة صفاقس الثرية نسبيا للعمل هناك.
وقال عقبة نصيري (22 عاما) من سكان سيدي بوزيد “السياحة والاقتصاد والمال كل ذلك في الشمال. لم ير الجنوب ايا من ذلك.”
ومثل غيره يشكك في الاحزاب السياسية الجديدة التي ظهرت عقب فرار الرئيس زين العابدين بن علي في يناير كانون الثاني حيث تأسس أكثر من 50 حزبا حتى الان. ولا ينوي نصيري الادلاء بصوته في الانتخابات المقبلة. وقال “نريد ثورة جديدة. لم تتحقق اي من الاهداف التي وضعناها لهذه الثورة.”
وثمة همهمات عدم رضا في العاصمة ايضا فقد استخدمت الشرطة في تونس الغاز المسيل للدموع لفض احتجاجات دخلت يومها الرابع يوم الاحد الماضي. وينتاب المتظاهرون الشكوك في تعهدات الحكومة المؤقتة بنشر الديمقراطية.
وقال ليفي صالح مدرس التاريخ في سيدي بوزيد (42 عاما) ” نفتقر للثقة في الاحزاب والقيادة السياسية. لا يزال ثمة خوف من تدخل اجنبي وامكانية عودة النظام المخلوع.”
واضاف وهو يشير لشوارع المدينة المتهاكلة ان علاج عقود من الاهمال للمناطق النائية يستغرق وقتا طويلا وحتى يكتسب الناس الخبرات السياسية اللازمة لانجاح نظام ديمقراطي.
وادت الانتفاضة لتعثر السياحة وصناعات اخرى وربما يستغرق علاج المشاكل الاقتصادية التي اشعلت شرارة الثورة وقتا اطول.
ولكن مسعودي بائع الفاكهة ينوي الاقتراع في انتخابات يوليو ويأمل ان تبدأ الاوضاع في التحسن مع صياغة دستور جديد.
وفي الوقت ذاته لاح تغيير مبشر اذ يقول ان الشرطة اعتادت مداهمة الميدان ومضايقته وغيره من الباعة الجائلين بسبب الموازين التي تستخدم في بيع بضاعتهم واجبارهم على دفع غرامات ضخمة. وتوقف ذلك على الاقل.
وتابع “لم تكن الشرطة لتتركنا في حالنا لنعمل في هذا المكان. ارغمت البائعين على دفع غرامات حتى افلسنا. الآن.. لا. إنه مكسب كبير لهذه الثورة.”
(المصدر: وكالة رويترز للأنباء بتاريخ 10 ماي 2011)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.