ليبيون يحاربون القذافي في ملعَـب الإعْـلام ويُحاولون بناء الثقة مع الجمهور
في مبنىً تُـراثي مُجدَّد بالكامل، تنتشِـر القناديل العتيقة أمام غرفِـه التي تُطوِّق فناءً فسيحاً، استقرّت آلات تصوير متطوِّرة وأضواء كاشفة واستوديو...
.. الكاميرات تملأ غُـرفة حُوِّلت إلى أستوديو بدا ضيِّـقا بالتِّـقنيين المتنقِّـلين من زاوية إلى أخرى، استعدادا لبَـث حلقة جديدة من برنامج “الحدث”، الذي يلقى تجاوُبا واسعا لدى المشاهدين في ليبيا. نحن هنا في محطة “ليبيا لكل الأحرار”، التي يُديرها محمود شمام، المكلِّـف بالإعلام في “المجلس الوطني الإنتقالي”.
تقع المحطة في مبنى تليفزيون “الريان” عند مدخل سوق واقف العتيق في قلب الدوحة. وللعلاقة بين القناتيْـن قصَّـة هي ربما أجمل قصة بين ضرتين. فالقطريون كانوا يستعدِّون إلى إطلاق قناة “الريان”، عندما اندلعت الثورة في ليبيا، فلم يتردَّدوا في إهدائها إلى الليبيين، على رغم أنهم كانوا في مرحلة متقدِّمة من البث التجريبي، على ما روى لـ swissinfo.ch الإعلامي الليبي مجاهد البوسيفي، المُـقيم في الدوحة منذ خمس سنوات.
وتعود الذِّكريات بالفريق، الذي يُدير قناة “ليبيا لكل الأحرار” إلى الأيام الأولى، فيُذكِّـرونك بأنهم عمِـلوا في الأيام التي تلت انطلاق الثورة ضِـمن القنوات العربية والأجنبية كمحلِّـلين. وبعد مُـضي أكثر من شهر على الثورة، “انتظرنا أن يُطلّ صوت من المناطق المحرّرة، لكن الإمكانات لم تسمح، فاجتمعنا حوالي 4 أو5 في فندق في الدوحة، وكُـنا نزوِّد الفضائيات بالمعلومات، واقترح علينا الأستاذ محمود شمام أن نبعث فضائية خاصة بالليبيين، لتكون صوت ليبيا في مرحلة ما بعد 17 فبراير”.
تجاوب مذهل
الصحفي خالد عثمان، الذي غدا أحد نجوم القناة والذي يُحاور الضيوف من جميع أنحاء العالم عن تطوُّرات الأوضاع في ليبيا من خلال برنامج “الحدث”، ما زال يتذكَّـر كيف وصل إلى الدوحة من لندن، حيث كان يتلقَّـى دورة تدريبية، فقرّر التوجُّـه إلى قطر، بدلا من العودة إلى بنغازي. كان خالد، الذي عمل مع قناة “ليبيا” من بنغازي ثم مع “الليبية” و”الشبابية”، جاهزا للعمل لدى إطلاق قناة “ليبيا لكل الأحرار” يوم 30 مارس 2011 بثلاث ساعات فقط من البث اليومي، لكن بسِـت نشرات إخبارية في اليوم.
أما البوسيفي، فيُـشير إلى أن القائمين على الفِـكرة كانوا أربعة أو خمسة أشخاص اجتمعوا حول مائدة في قطر وكانوا القابِـلة التي سمحت للفِـكرة بأن تُبْـصِـر النور. قال لـ swissinfo.ch، سارعت الكوكبة الأولى إلى مهاتفة زملائِـنا الليبيين في الخارج، وفي غضون ساعات دخلنا إلى قلب العملية اللُّـوجستية بعد موافقة القطريين على استضافة القناة، وقد دعمُـونا بالتأشيرات للضيوف وبالمال، وكان وعْـدا صريحا، إذ جرى إهداء القناة للشعب الليبي.
وكيف اختير اسم القناة؟ أتى الجواب “من ضِـمن مساعدة القطريين، كُـنا نريد الحصول على تجهيزات جديدة، فاقترحوا علينا استخدام تجهيزات محطة “الريَّـان”، التي كانت على أبواب الشروع في البث ولها إشارة على الأقمار الإصطناعية، فاستخدمناها وصار جهدنا منصبا، بدلا من ذلك، على جلْـب الكوادر ووضع السياسة التحريرية، وهذا دعْـم كبير”.
كيف شكَّـلتم الفريق؟ “كُـنا جميعا إعلاميين وكان هناك انسجام بيننا وكان السؤال بمَـن نتَّـصل؟ بدأنا باستثمار علاقاتنا الشخصية مع الليبيين في جميع أنحاء العالم، من مصراتة وبنغازي وطُـبرق إلى لندن وأمستردام والقاهرة وبون وبروكسل… ووجدنا تجاوُبا مُذهِـلا. استطعنا في سبعة أيام أن نجمع فريقا جيِّـدا وكانت القناة جاهزة للبث، إذ أن “الغرافيك” (اسم القناة المُميَّـز)، بات جاهزا وقُـمنا ببروفات (تمْـرينات) واعتمَـدنا على الفريق الفنِّـي لقناة “الريان”، مع الإستعانة بأصدقاء عَـرب لم يتجاوز عددهم أصابع اليَـد الواحدة”.
أربعون إعلاميا …
ويُـمكن القول أن إنشاء القناة، استجاب لحاجة قوية لدى الإعلاميين الليبيين بُعيْـد انطلاق الانتفاضة ضد نظام العقيد معمر القذافي، إذ سعى كثير من مقدِّمي البرامج في التليفزيون الليبي الرَّسمي أو في قناة “الليبية” التابعة لسيف الإسلام معمر القذافي، للفِـرار إلى تونس أو إلى المناطق المحرَّرة أو أوروبا. ومن هناك، تمَّ استقدامهم إلى الدوحة. ومن هؤلاء، عبد الناصر خالد ونبيل الحاج وصالح آدم، بالإضافة لخالد عثمان، لكن هذا الكادر ليس كبيرا، فهو لا يتجاوز أربعين شخصا وليسوا كلهم ليبيين… وإذا علِـمنا أن ساعة البث التلفزيوني تحتاج إلى ما لا يقِـل عن عشرين شخصا، فإن قُـدرة أربعين شخصا فقط على إنتاج اثني عشر ساعة يوميا، يُعتبر من النجاحات التي لا يُفسِّـرها سوى الحماس لخِـدمة قضية أكبر من الرسالة الإعلامية العادية.
ومن أيْـن تأتي القناة بالأخبار؟ يردّ العاملون فيها على هذا السؤال بالإشارة إلى أن ما تبثُّـه الفضائيات عن التطوُّرات الجارية في ليبيا، آت من داخل البلد نفسه، “فلماذا نعطي خيْـرنا لغيْـرِنا؟”، وهكذا جمعوا مصادرهم الشخصية لبعضها البعض ووظَّـفوها لصالح القناة.
لكن هل هذا كافٍ لمنافسة القنوات الأخرى، التي باتت تُخصِّـص حيِّـزا كبيرا للخبَـر الليبي، مُعتمدة على مُـراسليها في بنغازي ومصراتة وغيرها؟ من منظور العاملين في “ليبيا لكل الأحرار”، يكفيهم أنهم باتوا يُذكرون إلى جانب القنوات العربية العريقة، وأنهم تلقوا إطراءات من داخل ليبيا، بالإضافة لموقع قناتهم الإلكتروني، الذي يزوره عشرون ألف مُتصفّـح في اليوم، على ما أكَّـد مُحدِّثونا. أما متوسِّـط المشاهدة بعد أربعين يوما فقط من انطلاق القناة، فيصل إلى سبعة آلاف شخص، فضلا عن سبعين ألف اشتراك في أجهزة الأيفون، ما بوأها المركز الرابع بعد “الجزيرة” و”بي بي سي” و”العربية”، وهي معلومة لم يتسنَّ التأكُّـد منها.
وبحسب القائمين على القناة، فإن ثلاثة ملايين شخص يُشاهدونها حاليا، فيما أكَّـد مجاهد البوسيفي لـ swissinfo.ch أنه لم يدخل بيْـتا أو مقهىً لدى زيارته إلى بنغازي مؤخَّـرا، إلا ووجد الناس يُـتابعون برامج هذه القناة.
الثورية أم المهنية؟
مع ذلك، ترتكِـب القناة أحيانا أخطاءً، وإن سعَـت إلى تفاديها بالتعلُّـم من هَـفَـواتها. ومن النَّـقائِـص، قلة الاعتماد على الإعلام الجديد، مع أن المواقع الإجتماعية كانت مُـحرِّكا رئيسيا للثورات. ويعترف البوسيفي بأن البرامج الحوارية، ومن ضمنها ما يُعرف بــ”تولك شو”، ليست لها شخصية مُميَّـزة. وإذا كان الصحفيون يأخذون عليها خِـطابها المباشِـر في مُـعاداة نظام القذافي، يقول العاملون فيها، إن الناس في الداخل الليبي ينحون عليهم باللائمة، لأنهم لا يعتمدون خِـطابا ثوريا، وتطغى عليهم الإعتبارات المهنية، بدل تحريض الناس على الثورة.
وأيا كانت التقويمات المتناقضة، فلعلّ أحد أسباب هذه المراوحة، أن غالبية الكوادر العاملة لم يسبَـق له أن عملت في التلفزيون ولم تكن تعرف المونتاج (التركيب) ولا التحرير التلفزيوني ولا البَـرمجة…
وقالت الصحفية شهرزاد كبلان، التي كانت تعمل في الولايات المتحدة، إنها لم يسبَـق أن وقفت أمام كاميرا، وهي تُقدِّم اليوم برنامج “مع الناس”. وصار الناس يطلبونها بالهاتف من ليبيا، لكي تُخاطِـب الجماهير في ميدان التحرير في بنغازي.
ومن هذه الزاوية، سألت swissinfo.ch عن انعِـكاسات الصِّـراع الخفِـي بين التيار الإسلامي والتيار الوطني على أداء القناة، فأتى الردّ بأن الصِّـراع لم يبرز على السَّـطح، لأن الجميع يُواجِـه عَـدُوا مُـشتركا، وكذلك لأن القناة تغطِّي كل ما يجدّ من أحداث بلا تمييز، ومن بينها عودة المراقب العام للإخوان المسلمين من المنفى السويسري إلى بنغازي، إضافة لوجود البرنامج الأسبوعي “حديث الوطن”، الذي استضاف عديد الشخصيات الدينية ومنها مثلا الشيخ الصادق الغرياني، الذي يحظى بالمِـصداقية في ليبيا.
ويُعلِّـق أحد الصحفيين بقوله “استدعينا عديد الشخصيات للحديث من خلال القناة، وهناك من لبَّـى الدَّعوة ومن ماطَـل ولم يتجاوَب”. واستدرك قائلا “لكن، عندما يأتي المسؤول الأول عن الإخوان المسلمين في ليبيا إلى الدوحة ولا يُبادر بزيارة القناة حتى لمجرّد السلام على الشباب، نتساءل: ألَـسْـنا ليبيين؟”. وأضاف “ليس لدينا إقصاء. فنحن صحفيون أتينا من مشارِب فِـكرية مختلفة، لكن ليست لدينا انتماءات سياسية. وبالأمس كان بيننا الشيخ علي الصلابي، الذي يعتبره الجميع من الوجوه الإسلامية البارزة، ونحن نرى في التيار الإسلامي تيارا أصيلا من حقِّـه أن يتحدَّث بكل حرية، وهذا خيار لا رِجْـعة عنه، لكن هناك بعض الرَّواسِـب التي نتمنَّـى التغلُّـب عليها”.
في المقابل، يأخذ إعلاميون آخرون على القناة ما اعتبروه “منحىً فِـئويا”. ومن هؤلاء، الإعلامي الليبي إسماعيل مصطفى، المُـقيم في الدوحة بحُـكم عمله في قناة الجزيرة الفضائية، والذي قال لـ swissinfo.ch إن القناة “لم تُحقِّـق طموح الليبيين إلى إعلام حُـر ومستقِـل يحترم القِـيم الصحفية والمعايير المهنية، من تدقيق في المصادر والإبتعاد عن المُـصطلحات الأيديولوجية، كالتخوين وكل ما لا يمكن أن يُنشَـر في إعلام يُقيِّـم نفسه وِفقا للمعايير المهنية”.
وتابع في تصريح لـ swissinfo.ch “لم نَـر آراء مخالفة، بل خطّـاً واحدا تتحدَّث باسمه القناة، لِـذا اعتبرها قناة حِـزبية أو فِـئوية، تُعبِّـر عن وِجهة نظر خاصة بمجموعة معيَّـنة، لها ذات الآراء والمواقف”. واستدلّ بأن القناة لم تستضِـفه مرّة واحدة، على رغم أنه مُـقيم في الدوحة.
وأشار إلى أن التجارب الإعلامية المُـماثلة بدأت تتعدَّد في ليبيا، ومنها قناة “ليبيا الحرة”، التي أطلقها المجلس المحلي لمدينة بنغازي، وهي بدأت بثّـا تجريبيا لا يتجاوز ساعات في اليوم، والتي اعتبرها قائمة على رُؤية وطنية، بالإضافة إلى قناة “ليبيا أولا” وقناة “أحفاد المختار”، التي لم تنطلق في البث وما زالت إشارتها على الأقمار الاصطناعية تحمِـل العلامة المُميَّـزة (لوغو) فقط.
وتدُل هذه المؤشرات مجتمعة على أن ليبيا مُقبلة بِـلا ريْـب على ربيع إعلامي قد يُتيح لألف زهرة أن تتفتح في مناخ من الحرية، بعد مسار التصحير المديد للمشهديْـن، الإعلامي والثقافي، الذي استمر أربعة عقود كاملة.
السؤال الذي يتبادَر إلى الأذهان في الحديث عن مثل هذه المحطّـَات، يدور عادة حول أصحاب القرار فيها. فلأية سلطة هي خاضعة ولمَـن يعود تقرير خطِّـها التحريري؟
يرد العاملون في القناة على هذا السؤال بالإشارة إلى أن مُـداولات مكثَّـفة في الفترة الأخيرة، أسفرت عن الإتفاق على وضعها تحت سُـلطة “المجلس الوطني الانتقالي” مع إعداد قانون ما زال قيْـد الصياغة، يُحوِّلها إلى وضع شبيه بوضع قناة “بي بي سي”، أي أن الدولة تموِّلها من دون التدخُّـل في خطِّـها التحريري. ويعتبر الصحفيون أن هذا الخيار هو احتِـذاء للنموذج البريطاني، لكن مع “تلييبه”، أي توطينه في البيئة الليبية، إذ يُحدِّد مجلس التحرير الخط المهني العام للقناة ولا تُحاسب عليه إلا من طرف برلمان منتخب.
وفي هذا السياق، كشفوا لـ swissinfo.ch أن هناك إجماعا على إلغاء وزارة الإعلام بعد تحرير ليبيا. وعندما سألنا عن مصير الوزير الحالي محمود شمام، قيل لنا أنه “سيكون آخر وزير إعلام”.
وبالمقابل، سيتم إنشاء مؤسسة ليبية للإعلام، وهي أقل من وزارة ستُـوضع تحت سلطة المجلس الوطني، الذي سيتشكل بعد الإطاحة بالعقيد معمر القذافي لقيادة المرحلة الإنتقالية.
حفَّـزت الجاهزية السريعة لقناة “ليبيا لكل الأحرار” محرِّري كتاب الأرقام القياسية “غينس” على الاتصال بالقائمين على القناة، باعتبارها الوحيدة في العالم، ربما التي أقيمت في سبعة أيام فقط.
ويتذكَّـر أحد عناصر الفريق، الذي فضل عدم كشف هُـويته، لأن أسْـرته ما زالت مقيمة في طرابلس، تلك النقلة السريعة بقوله “بعد عشرة أيام من اجتماعنا في فندق “كامبينسكي” في الدوحة لدرس الفكرة، كانت القناة تبُـث برامجها الحية على الهواء”.
ولاحظ مندوب swissinfo.ch لدى زيارته لمقرِّ المحطة، أن القناة ليبية تحريرا وتقديما، واكتشف أن وراء الكاميرا شابَّـات وشُـبانا من ليبيا، بعض الشابات محجبات فيما زميلاتهن سافِـرات، يُساهمْـن جميعا في تأمين البث.
تـدرِجت فترة البث من ثلاث ساعات إلى سِـت ثم اثني عشرة، ويستعد الفريق للإنتقال إلى 18 ساعة، تمهيدا للوصول إلى أربع وعشرين ساعة “في غضون ثلاثة أسابيع” (حوالي منتصف يوليو)، على حد قولهم.
تبث القناة حاليا برامجها عبْـر أربع أقمار صناعية، بينها عربسات ونورسات، وفي مقدِّمتها ثلاثة برامج، هي “الحدث” و”ليبيا الناس” و”في السياسة“.
في إطار هذه البرامج، تمت استضافة شخصيات بارزة، منها رئيس المجلس الانتقالي مصطفى عبد الجليل وزميله محمود جبريل، الذي يُـعتبر شخصية مِـحورية في المجلس، والوزير السابق عبد الرحمان شلقم ورئيس الوزراء الأسبق مبارك الشامخ ومحافظ بنغازي المنشق مفتاح بوكر، الذي كان شخصية محورية في جهاز اللِّـجان الثورية ومسؤولا عن ملف الأمن في “مؤتمر الشعب العام“.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.