ماذا تفعل الولايات المتحدة في سوريا؟
"كل ما قاله جون كيري يؤكد أن السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط تتسلل إلى الظل".. هكذا أطلَّ كاتب لبناني على نتائج جولة وزير الخارجية الأمريكي الشرق أوسطية الأخيرة، والتي تعرّضت إلى حملات مركزة في الإعلام العربي لأن كيري واصل خلالها رفض قيام الولايات المتحدة بتسليح وتدريب قوات المعارضة السورية مباشرة.
هذا التقييم يتضمن شيئاً من الصحة، لكن ليس كل الصحة. فإدارة أوباما تمارس بالفعل في الشرق الأوسط سياسة تشبه سياسة “النأي بالنفس” الشهيرة التي يلتزم بها رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي حيال الأزمة السورية.
فأوباما، ومنذ أن دعا في أغسطس 2011 إلى رحيل بشار الأسد عن السلطة، لم يفعل شيئاً بعد ذلك سوى وضع السياسة الأمريكية في ثلاجة مُحكمة الإغلاق، ومن ثم التخفي وراء الفيتو الروسي الدائم في مجلس الأمن لتبرير عدم التدخل هناك.
هذا الموقف كان واضحاً في شهادة وزير الدفاع السابق بانيتا أمام الكونغرس قبل نحو أسبوعين، والتي كشف النقاب خلالها عن أن كلاً من البنتاغون والسي.أي آي ووزارة الخارجية، أجمعوا كلهم على ضرورة تسليح بعض فصائل المعارضة السورية بهدف حسم الموقف هناك. بيد أن أوباما، ولاعتبارات انتخابية بحتة، رفض كل هذه المطالب.
بيد أن الإنتخابات الرئاسية انتهت الآن، وسيكون على أوباما من الآن فصاعداً أن يكون واضحاً في الإختيار بين أحد أمرين: إما إدارة الظهر نهائياً لسوريا، أو الدخول على خط أزمتها لحسم الأمور هناك لغير صالح طرفين متناقضين معا: إيران والجهاديين.
بداية تغيير في موقف واشنطن
صحيفة “واشنطن بوست”، التي تعبّر عادة عن توجهات البنتاغون، نشرت قبل أيام تقريراً مثيراً يعبّر عن القلق الذي يعتري المؤسسة العسكرية الأمريكية من احتمال تعزيز النفوذ الأمني – العسكري الإيراني في سوريا، على رغم حالة الإستنزاف المالي- الإقتصادي الكبير التي تعاني منها طهران بسبب دعمها للنظام السوري.
فقد تحدث التقرير عن قيام إيران بتشكيل وتدريب وتسليح ميليشيا علوية – شيعية في سورية تضم 50 ألف عنصر، كوسيلة لضمان الحفاظ على وجودها في المناطق العلوية على ضفاف البحر المتوسط في حال سقط نظام الأسد. والأخطر أن التقرير أشار إلى احتمال إقامة تواصل جغرافي بين هذا الكيان العلوي وبين مواقع حزب الله في شرق-شمال لبنان.
هذا التطور، لن يكون بالطبع مقبولاً لا لدى البنتاغون ولا لدى تل أبيب، لاعتبارات استراتيجية واضحة تتعلق بالصراع العام مع إيران على كل الرقعة الشرق أوسطية. وبالتالي، كان نشر هذا التقرير على هذا النحو المثير، رسالة واضحة من فوق الماء إلى أوباما نفسه الذي يتعيّن عليه الآن أن يستبدل اعتباراته الإنتخابية بالإعتبارات الإستراتيجية التي تمس الأمنين القوميين الأمريكي والإسرائيلي معا.
لقد أعلن أوباما، في خطابه أمام الكونغرس عن حالة الإتحاد في يناير الماضي، أنه “سيواصل الضغط على النظام السوري الذي يقتل شعبه، وسندعم قادة المعارضة الذين يحترمون حقوق كل سوري”. هذا في حين كان وزير خارجيته الجديد يشدد على أنه “من الضروري العمل على تغيير حسابات الرئيس السوري”، وأن الولايات المتحدة لا تمانع في قيام بعض الدول بتسليح “العناصر المعتدلة” في المعارضة السورية. فهل كانت هذه إشارة إلى بدء تغيّر ما في موقف واشنطن؟
حروب بالواسطة
يعتقد البعض (ومن بينهم كاتب المقال) ذلك، على رغم أن العديد من المحللين لم يروا في ذلك جديداً. السبب هو أن هذا الموقف يعني أن المفاوضات الأمريكية – الروسية لإيجاد تسوية سياسية لم تفض بعد إلى أي اتفاق، وأن واشنطن ستكون مدفوعة في قادم الأيام إلى “التفاوض بالرصاص” عبر حلفائها في المنطقة مع الروس والإيرانيين على الأرض السورية نفسها.
كيف سيكون ذلك؟ عبر الإنضمام، وإن بشكل غير مباشر، إلى الحرب بالواسطة (Proxy war) التي تنغمس فيها الآن السعودية وقطر وتركيا، من جهة، وإيران وروسيا (وإلى حد ما الصين مالياً) من جهة أخرى. وإذا ماحدث ذلك، والأرجح أنه سيحدث خاصة بعد الغارة الجوية الإسرائيلية الأخيرة على قافلة صواريخ سام-17 والتي أشّرت على دخول تل ابيب على خط الأزمة ضد إيران وحزب الله، فإن الحرب السورية ستدخل مرحلة صاخبة جديدة ستزج فيها الأطراف الإقليمية – الدولية بكل أسلحتها لمحاولة تغيير الجمود الراهن في موازين القوى لصالحها.
المزيد
“لو تبقى ســوريّ واحد على قيد الحياة فلن يتخلى عن إرادة التغيير”
عودة إلى ممارسة دور “المايسترو”
قلنا سابقا إن تقييم السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط على أنها “تسللية” فيه قدر من الصحة لكن ليس كلها. إذ صحيح أن أمريكا، مثلاً، تسرّع عملية الإنسحاب العسكري من أفغانستان، فيما فرنسا تسرّع من تدخلها العسكري في جمهورية مالي. وصحيح أن روسيا وإيران تضعان كل ثقلهما وراء نظام الرئيس بشار الأسد، والولايات المتحدة لاتفعل شيئاً سوى دعوة حلفائها الأوروبيين والأتراك والخليجيين للتصدي لهما، فيما هي تمارس سياسة الأيدي المرفوعة في سوريا. وفوق هذا وذاك، صحيح أن إدارة أوباماـ2 تتحرك لفتح مفاوضات مباشرة مع إيران، وتعيّن ثلاثة “حمائم” في وزارتي الدفاع والخارجية والسي. أي . آي (هاغل وكيري وبرينان على التوالي)، فيما طهران تمارس المزيد من سياسة التصلُّب والتصعيد في كل أرجاء المنطقة، من مضائق دمشق وحلب إلى مضيق هرمز.
لكن كل هذا لايعني – كما يعتقد النظامان السوري والإيراني – أن الإمبراطورية الأمريكية دخلت مرحلة انحدار تاريخي، ولم تعد قادرة على مواصلة سياسة التمدد الإستراتيجي بوصفها القوة العظمى الوحيدة في العالم، مُستشهدين هنا بالتقرير المشترك الذي أصدرته مؤخراً 16 وكالة مخابرات أمريكية بعنوان “الإتجاهات العالمية 2030″ (Global Trends 2030)، والذي أشار إلى أنه” مع الصعود السريع لدول أخرى، انتهت لحظة الأحادية القطبية، وبدأ الباكس اميركانا (السلام الأمريكي) الذي ساد منذ العام 1945 ينحسر بسرعة”.
حسناً، أمريكا تبدو بالفعل في حالة انحدار نسبي، وآسيا في حالة صعود. لكن هذا لا يعني أن تحليل أصحاب الممانعة صحيح. فأمريكا، كما أشار تقرير أجهزة المخابرات نفسه، ستبقى حتى عقدين أو ثلاثة الأولى بين متساوين في العالم. والأهم أن هذا التحليل يُسيء قراءة التطورات الراهنة في السياسة الخارجية الأمريكية. فإدارة أوباما-2 لا تنشط للإنسحاب من العالم، بل هي تحذو حذو كل الإدارات الأمريكية السابقة لحقبة الحرب الباردة التي لم تكن تتدخل في الحروب والصراعات، إلا بعد أن تستنزف الدول الأخرى نفسها فيها، وإلا بعد أن تجد أمريكا مصلحة لها في التدخل. حدث هذا في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وحتى في حرب فيتنام التي لم تخض الولايات المتحدة غمارها إلا بعد أن انهزمت فرنسا أمام الحركة الشيوعية العالمية.
إدارة أوباما تكرر الآن هذا التاريخ. فهي، ولأهداف أخرى تتعلق بتسوية أوضاعها الإقتصادية الداخلية والتركيز على منطقة آسيا – المحيط الهادي، تريد وقف حربها المباشرة على الإرهاب أو الإسلام المتطرف، وإلقاء مسؤولية ذلك على الأطراف الإقليمية والدولية المعنية أو التي لها مصلحة في هذه الحرب. وهذا ينطبق الآن على فرنسا التي لها مصالح اقتصادية ضخمة في مالي والجزائر وباقي أجزاء إمبراطوريتها السابقة في إفريقيا، وعلى الهند واليابان لمواجهة القوة الصينية الصاعدة، وعلى الحركات الإسلامية التي تستلم السلطة الآن في المنطقة العربية بشرط أميركي هو ضرب الإسلام الجهادي أو المتطرف. كما أنه ينطبق بالدرجة الأولى على حليفها الأوروبي. فهي تقول الآن للإتحاد الأوروبي أنها مستعدة لأخذه معها في رحلتها الباسيفيكية وفي تشكيل سوق مشتركة أطلسية، شريطة أن يبدأ الإتحاد بدفع أعباء حلف الأطلسي (تتحمل واشنطن الآن 75% من أكلافه).
بكلمات أخرى، لقد قررت واشنطن العودة إلى ممارسة دور “المايسترو” في السياسات الدولية، على أن تترك للقوى الأخرى خيار المشاركة في الأوركسترا بإشرافها. وهذا بالتحديد ما فعله الرئيس نيكسون في الستينيات حين انسحب من فيتنام و”عيَّن” وُكلاء إقليميين لأمريكا في العديد من مناطق العالم، مثل إيران الشاهنشاهية في منطقة الخليج، والبرازيل في أميركا اللاتينية، وتركيا في البلقان وآسيا الوسطى. ومثل هذا التوجه ليس انحساراً استراتيجيا لأمريكا، ولا ولادة لتعددية قطبية جديدة، بل حربا أمريكية أخرى.. ولكن بوسائل أخرى.
ويمكن القول بكثير من الإطمئنان أن السياسة الأمريكية المنتهجة إزاء سوريا، التي تعتمد الآن على بريطانيا وتركيا والسعودية وقطر لـ “تغيير حسابات” الأسد، ليست سوى تجسيد حرفي لهذه الإستراتيجية القديمة – الجديدة.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.