متحف في جنيف يـرعى ذاكرة المهاجرين السويسريين حول العالم
تخليدا لما قدمه المهاجرون السويسريون على مر العصور إلى بلدهم الأصلي في شتى الميادين، أقيم في جنيف متحف يعرض قصص العديد من الشخصيات العادية والمرموقة التي هاجرت إلى شتى بقاع العالم، ونجحت في تبوء مناصب رفيعة كمستشارين في قصور الملوك أو لدى حكام الإمبراطوريات، مثلما يشرح أنسيلم تسوفلو، مدير معهد ومتحف "السويسريين في العالم" لسويس إنفو.
وفي الواقع فإن من يطلع على أن الكنفدرالية عرفت في فترات سابقة من تاريخها تصدير اليد العاملة قبل تصدير الشكولاطة أو الساعات أو الآلات الدقيقة، يدرك مدى أهمية إقامة متحف للمهاجرين السويسريين في العالم بالنسبة لتاريخ وهوية هذا البلد.
وهذا ما يعتز به أنسيلم تسوفلو، مدير معهد ومتحف “السويسريين في العالم” الذي يعتبر أنه “إذا كانت العديد من البلدان قد خصصت متاحف لموجات الهجرة المتعاقبة التي توافدت عليها، فإن سويسرا تنفرد بكونها خصصت متحفا لأبنائها الذين هاجروا إلى مختلف بقاع العالم والذين أنجزوا أعمالا تستحق ان يتم عرضها” للجمهور الواسع.
أولى الصادرات السويسرية .. قبل 700 سنة
الحديث عن الهجرة من سويسرا إلى خارجها يعني التطرق إلى تقاليد وأحداث تعود جذورها إلى أزيد من 700 سنة، وجعلت سويسريين وسويسريات (ولو بعدد أقل)، يهاجرون إلى شتى بقاع العالم ويعودون إلى أرض الوطن في أغلب الأحيان مما جعل هذا البلد رغم صغر حجمه وقلة عدد سكانه يكتسب صيتا وسمعة عالميتين.
وفي تفسيره لهذا اللجوء المبكر إلى تصدير اليد العاملة قبل سبعة قرون ونيف، يقول أنسيلم تسوفلو “إن الدويلات السويسرية التي أدركت أنها سوف لن تستمر في استفزاز الأمبراطوريات المجاورة على الدوام بدون أن تتعرض للخطر في يوم من الأيام، اهتدت إلى فكرة عرض اليد العاملة السويسرية المجندة كخدمة لتلك الإمبراطوريات، وهي أولى الخدمات التجارية المعروضة على نطاق واسع”. وكانت تمر بعدة مراحل تشمل تجنيد وتدريب ثم تصدير هذه القوات التي توضع رهن إشارة ملوك وأمراء الدول والمقاطعات والكيانات المجاورة.
هذه الخدمة العسكرية والأمنية طورت معها لاحقا خدمات أخرى أصبحت ملازمة لصورة سويسرا من بينها الأعمال المصرفية حيث كان السويسريون العاملون في هذه الجيوش الأجنبية يحولون مبالغ مالية إلى الأهل في مسقط الرأس مما سمح بتطوير نظم مصرفية وبنكية خصوصا خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر، “وهذه هي الثروة الحقيقية لسويسرا”، على حد تعبير مدير المتحف.
وإذا كان القسم الأكبر من متحف السويسريين في العالم يركز اهتمامه على هذه الفئة المهاجرة فإن الساهرين عليه لم يُهملوا فضول زواره من الأجانب الراغبين في التعرف على سويسرا بحيث تم تخصيص عرض يعكس واقع الكنفدرالية في ظرف 15 دقيقة، ولكن بطريقة “تختلف عن الصور التقليدية المعروفة مثل قصص هايدي Heidi وجبال الألب وقمة السيرفان Cervin وغيرها”، كما يقول مدير المتحف حيث تعكس براعة وجدية وولاء سويسريين هاجروا وبرعوا في قطاعات وتخصصات متنوعة.
“السويسريون المائة”
يخصص متحف السويسريين في العالم حيزا مهما من قاعات العرض لـ “السويسريون المائة”، وهم “الجنود السويسريون الذين كانوا في خدمة الحراسة المقربة لملك فرنسا وهي الفرقة التي أسست في عام 1487 لحماية ملك فرنسا نظرا لأنهم محايدون وليست لهم صلات بفئات معينة في البلد وبالتالي يمكن الإعتماد على ولائهم”.
ويرى مدير المتحف انسيلم تسوفلو أن السر في ازدهار هذه الخدمة العسكرية السويسرية لفائدة ملوك وأمراء أجانب على مدى أكثر من 500 سنة، يعود لواقع أنها كانت “خدمة يستفيد منها العامة مثل صغار الجنود أو الطبقة الراقية ممن تقربوا من العائلات المالكة وأصبحوا مستشارين وخبراء في دواوينها”.
وإذا كانت الإحصائيات الدقيقة عن العدد الإجمالي للجنود السويسريين الذين خدموا ملوك الدول المجاورة غير متوفرة، فإن التقديرات غير الرسمية تشير الى أن عددهم يصل إلى عدة عشرات الآلاف في السنة الواحدة. وتشير بعض المصادر إلى أن عدد القتلى من هؤلاء الجنود لوحده بلغ مليوني قتيل خلال الخمسمائة عام.
ولاشك في ان أحد الشخصيات المشهورة هو بيار لوفور الذي استطاع أن يصبح صديقا حميما للقيصر بيار الأكبر في القرن السابع عشر وأحد كبار الأميرالات في جيشه. وعن السبب في اتخاذ قيصر مثل بيار الأكبر لسويسري مستشارا وصديقا يكمن، كما يقول مدير المتحف انسيلم تسوفلو في أن “السويسري الذي يدرك أنه ينحدر من بلد صغير تتشكل لديه نظرة براغماتية عن العالم، وهذا شيء إيجابي لأنه ينظر للأشياء من منظور يختلف عن رؤية منتسبي الحضارات الكبرى من روسية وفرنسية أو فارسية أو عربية والذين يعتبرون أنفسهم مركز الحضارة وبالتالي يستغربون عندما يجدون أمامهم منتسبي حضارات أخرى يفكرون بمنطق مغاير”.
ويعد بيار لوفور مؤسس الأسطول البحري الروسي، وواضع أسس بناء مدينة سانت بيترسبورغ، وهو “الوحيد من ضمن أفراد حاشية الإمبراطور الذي كان بإمكانه معارضة أفكار القيصر وإبداء رأي مغاير”، حسب السيد تسوفلو.
من حرس الملوك الى حراس البابا
إذا كانت الثورة الفرنسية قد قضت نهائيا على الخدمة العسكرية التي برع السويسريون في تصديرها إلى الخارج، فإن سمعة هؤلاء الجنود دفعت رئيس الكنسية الكاثوليكية إلى اختيارهم حرسا له منذ عام 1506. ومن هنا بدأت قصة الحرس السويسري لبابا روما التي لا زالت تقليدا متبعا إلى يوم الناس هذا.
ويعود اختيار السويسريين كحرس لأهم شخصية في الكنيسة الكاثوليكية إلى أن البابا جول الثاني كان على علم بنجاعة حرس ملك فرنسا من السويسريين، خصوصا وأن تلك الحقبة عُرفت باغتيال عدد من البابوات. لذلك تم اللجوء إلى انتداب حراس محايدين ليست لهم صلة بالفئات المتصارعة في روما. والدليل على نجاعة هؤلاء الحراس السويسريين، تمكّنهم في عام 1526 أثناء الأحداث التي عُرفت باسم “ساكو دي روما” (أو نهب روما)، من حماية البابا رغم سقوط 140 قتيلا من بين المائتين الذين كان يتشكل منهم الحرس البابوي.
وفي هذا الحيز المخصص لحرس البابا يمكن التعرف على نماذج من أزياء هؤلاء الجنود الذين خدموا الفاتيكان على مر العصور. كما يمكن التعرف على تصحيح للمقولة الشائعة من ان النحات ميكيل آنج هو الذي صمم تلك الأزياء في الوقت الذي لم يعمل فيه إلا على تصوير الحرس السويسري بأزيائه الى أن أقدم الكولونيل روبون من دويلة فريبورغ ،الذي خصص له المتحف حيزا مهما، على مشاهدة رسوم ميكيل آنج وتصميم أزياء عصرية بناء على تلك الصور.
وهذا الحرس البابوي هو آخر فرقة عسكرية من هذه الجيوش السويسرية المستخدمة في الخارج وأقدم فرقة عسكرية في تاريخ البشرية مازالت قائمة حتى اليوم.
سويسريو الشرق
في الطابق الثالث تم تخصيص غرفة من متحف “السويسريين في العالم” للسويسريين الذين تميزوا بنشاطات إما أثرية أو فنية في العالم العربي وبالأخص في منطقة الشرق الأوسط.
وفي مقدمة هؤلاء لودفيغ فون بوركهارت او الشيخ إبراهيم بوركهارت مكتشف آثار البتراء في الأردن، وأبو سمبل في مصر والمدفون بالقاهرة بعد عودته من الحجاز وآداء مناسك الحج في مكة.
وإلى جانبه مخطوطات من مجموعات بحاثة وعلماء آثار سويسريين ساهموا في الحفاظ على هذا الإرث الإنساني من أمثال نافيل او فون بيرشم الذي أقامت عائلته متحفا خاصا بالمخطوطات العربية والشرقية في مدينة جنيف تحتوي على نوادر غير معروفة حتى في العالم العربي.
إلتفاتة للسويسريين المعاصرين أيضا
إذا كان متحف ” السويسريين في العالم” قد خصص حيزا وافرا لجنرالات وقادة عسكريين ومسئولين كبار تقربوا من ملوك وأمبراطورات دول مهمة في وقتها ، فإنه لم يتجاهل دور سويسريين معاصرين أدخلوا اسم سويسرا في التاريخ المعاصر، من أمثال كلود نيكوليي رجل الفضاء الذي ساهم في مهمة المكوك الفضائي الأمريكي، أو بيرتران بكار ومن قبله والده الذي قام بتجارب هامة في مجال غزو الفضاء.
ومن المعالم والحقائق التي يمكن الوقوف عليها في القسم المخصص للسويسريين المعاصرين، بقايا فريق تسلق الجبال الذي كاد ان يتسلق لأول مرة قمة الإيفيريست قبل عام من تحقيق الفريق البريطاني لهذا الانجاز والذي عاد أدراجه قبل 200 متر من بلوغ القمة بعد أن نفذ مخزونه من المياه. عن ذلك يقول مدير المتحف ” بفضل تجربة الفريق السويسري استطاع الفريق البريطاني اجتياز المنطقة الثلجية في غضون يومين بدل شهرين وقد جلبوا معهم العلم السويسري ،المعروض في المتحف، و الذي نصبه الفريق السويسري هناك “.
ولا يمكن الحديث عن سويسري الخارج بدون الحديث عن رجال البنوك من أمثال نيكر وزير المالية في فرنسا أثناء الثورة الفرنسية ومبتكر نظام المحاسبة الإبداعية في خدمة الدولة أو آلبير غالاتان الذي يقال انه هو منقذ ورقة الدولار الأمريكي الحالي بعد تصميمها من قبل ماديسون والوسيط الذي اشترى مقاطعة لا لويزيان من فرنسا لإعادتها للولايات المتحدة الأمريكية.
كما لا يمكن الحديث عن السويسريين في الخارج بدون الحديث عن غزوات مبعوثي اللجنة الدولية للصليب الأحمر الذين كانوا حتى عهد قريب فقط من السويسريين. ومن القصص الطريفة المعروضة في المتحف ” علم اللجنة الدولية للصليب الأحمر الذي كان يستخدمه أندري روشا أثناء الحرب الأهلية في اليمن في تفاوضه مع شيوخ القبائل ومع قادة الجيش المصري من أجل احترام الأسرى”.وقد كرمت الحكومة اليمنية قبل عامين هذا السويسري بوسام إنساني و”جنبية” تقليدية معروضين في المتحف الى جانب قبعته وبقايا قنبلة غازية.
ومن القصص الكثيرة المعروضة في هذا المتحف قصص سويسريين أبدعوا في مجالات تقنية محددة مثل ابتكار دومينيكو فونتانا مبدع الآلة القادرة على رفع حمولة 350 طنا والتي استخدمت في تنصيب تمثال ” الأوبيليسك” في قلب روما في القرن السادس عشر. وحتى تصميم برج ايفل المعلم المشهور في قلب العاصمة الفرنسية هو من تصميم السويسري م. كوكلان الذي عرض المشروع على إيفل.
محمد شريف- جنيف-swissinfo.ch
أسس متحف السويسريين في العالم قبل 30 سنة في منطقة “كوبي” بدويلة فو. وتم نقله في عام 1978 الى جنيف لكي يستقر في إحدى أجمل الحدائق في جنيف وهي حديقة قصر ” بونت” المطلة على بحيرة الليمان والمحادية لقصر الأمم المتحدة.
وحتى ولو انه متحف يؤدي مهمة وطنية فإنه ممول بالتبرعات وتديره مؤسسة خاصة.
المتحف الذي يشغل القسم الأكبر من قصر “بونت” ويتوسط حديقة عمومية مفتوحة للجمهور غير بعيد عن قصر الأمم المتحدة، يتكون من 3 طوابق تحتوي على غرف مخصصة حسب المواضيع منها ما هو خاص بالجيوش السويسرية التي كانت في خدمة البلدان المجاورة والتي أطلق عليها غرفة ” المائة سويسري”. كما تم تخصيص أجنحة لشخصيات تبوأت مناصب هامة الى جانب قادة مماليك وامبراطوريات هامة سواء في الميدان العسكري او المالي او الإداري.
وبالمتحف أجنحة مخصصة لشخصيات عاشت في البلدان العربية والإسلامية من أمثال الشيخ غبراهيم بوركهارت وأخرى معاصرة شاركت في غزة الفضاء او تالقت في وساطاتها في صراعات مسلحة من خلال عمل اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
المتحف مفتوح لزيارة الجمهور ويحاول حسب اقوال مديره العناية بتعريب بعض القطع التي لها علاقة بالعالمين العربي والإسلامي للسماح للزائر العربي بالتعرف على تفاصيل تاريخ الشخصيات السويسرية التي عاشت في منطقة العالمين العربي والإسلامي.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.