محاكمة منظمة” ارغينيكون”: الإمتحان الأصعب للديمقراطية في تركيا
رغم الأزمة المالية العالمية، التي تترك آثارها أيضا على تركيا، وفي ظل تصاعُـد الهجمات الكردية المسلحة على الجيش التركي، ومع تجدّد التوتر بين التيارين، الإسلامي والعلماني بعد نشر قرار المحكمة الدستورية حول الحجاب واعتبار حزب العدالة والتنمية "بُـؤرة لمعاداة العِـلمانية"، رغم كل هذه التحدّيات، كان بإمكان "المخزون" التركي من المشكلات أن يفرغ حمولة فاقت نظائِـرها في جلب اهتمام الرأي العام وكل الطبقة السياسية والأمنية والاقتصادية، وحتى الفنية.
إنها، كما وُصِـفت في تركيا، “محاكمة العصر”، التي بدأت 20 أكتوبر 2008 والتي تَـطال منظمة “ارغينيكون”، الموصوفة بالإرهابية.
وقصة هذه المنظمة بدأت في 12 يونيو 2007 مع مُـداهمة عناصر قِـوى الأمن أحد المنازل والعثور على أسلحة وخرائط وأهداف للقتل والتفجير، من بينها اغتيال رئيس الحكومة نفسه، رجب طيب أردوغان.
ثم كرّت سبحة المُـداهمات والاعتقالات، التي بلغت ذِروة في مطلع يوليو 2008 مع اعتقال اثنين من كِـبار الجنرالات المتقاعدين: شينير اراويغور، القائد العام السابق للدرك، وخورشيد طولون، قائد البحرية السابق.
وإضافة إلى هذين، اعتقل أيضا عدد كبير من كبار الشخصيات، من بينهم سنان ايغون، رئيس غرفة تجارة أنقرة وصاحب صحيفة جمهورية الصحفي المعروف إيلهان سلجوق، ورئيس جامعة إسطنبول السابق كمال عالم دار اوغلو، ودوغو بيرينتشيك، رئيس حزب العمال التركي الصغير، والضابط السابق في الجيش ولي كوتشوك، المتهم بأنه رأس المنظمة وبعض الفنانين.
من الواضح أن المنظمة لم تكُـن عادية أو تقليدية، لم تكن تعبيرا عن تَـيار سياسي محدّد أو مجموعة أيديولوجية أو حزب، كما لم تكن منظمة صغيرة راديكالية تقوم بأعمال العنف.
تُهم خطيرة.. واعتقالات نوعية
منظمة أرغينيكون، أقرب إلى أن تكون “حالة” أو مناخا منها، إلى أن تكون مجرّد تنظيم له رئيس أو هيكلية معينة.
من هنا أهمية الكشف عمّـا تمثله المنظمة وعن امتداداتها وعن إمكانية وقوف أو وجود قِـوى أخرى خفِـية أو سرية خلفها، وما إذا كانت رأس جبل الجليد الذي بذوبانِـه سيماط اللِّـثام عن أسرار وأسرار.
كثافة عدد المتهمين (86 متّـهما) وتشعب انتماءاتهم، المهنية والوظيفية، يجعل المنظمة أشبه ببيت عنكبوت يحتاج تفكيكه إلى وقت طويل. وعلى هذا، لا يرى البعض أنها مسألة أسابيع أو أشهر، بل ربما سنوات.
الكشف عن المنظمة وتوقيت بعض عمليات الاعتقال، اعتُـبر انتصارا لحزب العدالة والتنمية، حيث للمرة الاولى تتجرّأ حكومة على اعتقال جنراليْـن كبيريْـن في الجيش، ولو في مرحلة التقاعد.
والدليل الأكبر على شعور الجيش بالارتباك والحرج والغضب، هو أن وفدا من رئاسة الأركان زار، وفي عهد الرئيس الجديد ايلكير باشبوغ، السجن الذي يقبع فيه الجنرالان انطلاقا من أنهما قدّما في السابق خدمات جلية للجيش والبلاد، وقد أكّـدت رئاسة الأركان في بيانها، أن هذا ليس تدخّـلا في شؤون القضاء الذي له الكلمة الفصل. إذن، أول مؤسسة يُـمكن أن تتأثر سُـمعتها، هي المؤسسة العسكرية، في حال أدِينَ هذين الجنرالين بالتّـهم الموجهة إليهما وإلى غيرهم من العسكريين والأمنيين.
مع الإشارة إلى أن لائحة المتّـهمين الأولى، لم تضم اسمي الجنراليْـن المذكوريْـن، في انتظار أن يضمّـهما ملحق في وقت لاحق، وقد اعتبر ذلك محاولة لتخفيف وقع بدء المحاكمة على هيبة المؤسسة العسكرية، لكن التهم الموجه للمتّـهمين تبدو كبيرة جدّا وذات مفعول رِجعي، قد يصعب التنصّـل منها أو طيّها، إلا في حال نشأت ظروف استثنائية في المستقبل.
فالادّعاء اتّـهم المنظمة بالتحضير لخلق مناخ من التوتر في الشارع وتحريض الرأي العام، لتقبل انقلاب عسكري يُـطيح بالسلطة السياسية، أي الحكومة. ويؤكِّـد اتهام الادّعاء ما كُـشِـف قبل سنتين عن محاولتين للقيام بانقلاب عسكري عام 2004 من جانب بعض القيادات العسكرية وعارضها رئيس الأركان حينها، حلمي اوزكوك.
ومن الوقائع التي يُـوردها الادّعاء، اتهام المنظمة بأنها هي التي كانت تقِـف وراء العديد من عمليات الاغتيال ضدّ عِـلمانيين، من أجل اتّـهام الإسلاميين بذلك واستمرار التّـحريض عليهم، وهكذا تمّ اغتيال الصحفي العلماني أوغور مومجو في مطلع التسعينيات، وكذلك تمّ نشر كاريكاتورات في صحيفة “جمهورييت” مستفزّة للتيار الإسلامي، وأعقبها إلقاء قنابل من جانب هذه المنظمة على مبنى الصحيفة أكثر من مرة، لإظهار الأمر على أنه انتقام من جانب الإسلاميين.
كذلك، قامت المنظمة بهجمات على مقار أو منازل قُـضاة أو الاعتداء عليهم شخصيا، للإيهام بأن إسلاميين قاموا بذلك. والمنظمة كانت تقف وراء تأسيس حزب الله التركي ليُـحارب الأكراد، علما أن تقارير عديدة خرجت في السنوات الماضية، كانت تشير إلى أن حزب الله التركي، هو صنيعة الأجهزة الأمنية التركية، وفي مقدمتها ولي كوتشوك.
والمنظمة نسجت علاقات مع أوساط حزب العمال الكردستاني، بل زوّدته بالسلاح بعض الأحيان، وكذلك تمّ اغتيال الصحفي الأرمني هرانت دينك، لتسعير نزعة قومية تصعّـد التوتّـر وتخرج السيطرة من يَـد حكومة حزب العدالة والتنمية.
ويتهم الادعاء المنظمة، بإقامة علاقات وممارسة ضغوط على القضاء، لفتح دعوى حظر حزب العدالة والتنمية، وإقامة المهرجانات المحرّضة ضد الإسلاميين في السنتين الأخيرتين.
تركيا.. ساحة لتصفية الحسابات!
في ظل هذه المناخات والمُـعطيات، تبدو تركيا مرشّـحة لتكون ساحة لتصفِـية حسابات عَـلنية وسرية بين تيارين، لا يمكن أن يلتقيا. تيار يمثله حزب العدالة والتنمية، ويدعو إلى ترسيخ الحريات والديمقراطية، وآخر يضمّ متشدّدين عِـلمانيين وقوميين وعسكريين، يعارضون توسيع الإصلاح السياسي. ومن الواضح أن التيارين يخوضان حربا بالنقاط، مستخدمين كل “ما ملكت أيمانهما”.
العسكر والعِـلمانيون سلاحهم الأساسي، القضاء والمحكمة الدستورية، فيما سلاح العدالة والتنمية، الإصلاح السياسي وبعض الرّموز “النظيفة” في القضاء، وهو ما أتاح بدء محاكمة أرغينيكون.
وإذا كانت دعوى إغلاق حزب العدالة والتنمية إحدى أهم الأوراق ضد الحزب في هذه الحرب، فإن عدم إغلاقه لا يعني نهاية الطريق. فلعبة شدّ الحبال ستستمر في المرحلة المقبلة.
ورغم كثرة الأصوات التي تناولت تداعيات محاكمة المنظمة، فإن البعض يجِـدها فرصة لتركيا لكي تتحاسب مع ماضيها المُـمتد إلى عام 1908، تاريخ أول محاولة انقلابية في الشرق الأوسط على يد حزب الاتحاد والترقي ضدّ السلطان عبد الحميد الثاني.
ويقول وزير الثقافة السابق، فكري صاغلار، إن المحاكمة فُـرصة لترسيخ الديمقراطية وإنهاء الدولة العميقة، حيث ستبدأ بانكشاف البُـنى غير الشرعية داخل الدولة.
ويقول عمر فاروق غيرغيرلي اوغلو، رئيس إحدى جمعيات حقوق الإنسان، إن قضية أرغينيكون قد كشفت وجود بُـنى تتحكّـم بالمؤسسات في البلاد، والوقت قد حان لإقامة دولة المؤسسات والحريات والديمقراطية والقضاء التركي أمام مسؤوليات كبيرة.
ويرى الكاتب المعروف حسن جمال، أن دعوى أرغينيكون يمكن أن تشكل نقطة تحوّل من زاوية ترسيخ الديمقراطية والقانون.
التحدّي الأكبر أمام القضاء والديمقراطية
أكثر من ذلك، أن في تركيا تيارا يُـدافع عن النزعات القومية والوطنية المتشدّدة، ويرى في التقارب مع الاتحاد الأوروبي مدخلا لتقسيم تركيا، وعندها سيأتي الإسلاميون إلى السلطة، ويرى هذا التيار أن الحل بالتقارب مع اوراسيا والشرق، وليس مع الغرب.
وقد استطاع هذا التيار، التّـغلغل داخل المؤسسة العسكرية وإيجاد أنصار له فيها، ومنهم سكرتير مجلس الأمن القومي السابق تونجير كيليتش، بل أن معظم المتّـهمين في أرغينيكون الآن من أنصار الخروج من الناتو والانضمام إلى منظمة شانغهاي والتعاون مع روسيا، بل قام بعضهم بخطوات عملية عندما كان في مركز المسؤولية.
لكن مع ذلك، فإن المسألة الأساسية، هي في تفكيك الشبكات والذِّهنِـيات التي تريد التغيير عبر اللجوء إلى العنف والانقلابات، وهذا هو التحدّي الأكبر أمام القضاء والديمقراطية، ومن دونه لن تعرف تركيا الاستقرار.
وسنرى ما إذا كانت ستذهب الأمور إلى نهاياتها أم أن توازُن القِـوى سيفرِض تسوية تؤجِّـل الحسم إلى سنوات لاحقة.
د. محمد نور الدين – بيروت
انقرة (رويترز) – قالت المحكمة الدستورية في تركيا يوم الجمعة 24 أكتوبر 2008، ان رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء وأعضاء رئيسيين في حزب العدالة والتنمية الحاكم، شاركوا في انشطة مناهضة للنظام العِـلماني في تركيا.
وكانت المحكمة الدستورية، وهي أعلى هيئة قضائية في البلاد، تحدد أسباب الحكم الذي أصدرته في يوليو الماضي، والذي قررت فيه عدم إغلاق الحزب بسبب أنشطة إسلامية، واكتفت بفرض غرامة مالية عليه لتقويضه المبادئ العلمانية في تركيا.
وهذه أول مرة توجه فيها المحكمة الدستورية في تركيا، التي تعيش فيها غالبية مسلمة، لوما لرئيس وزراء البلاد لاضراره بالمبادئ العلمانية.
ويمكن أن يشكل هذا الحكم ضغطا على أردوغان، فيقيل بعض وزرائه في تعديل حكومي متوقع.
وقالت المحكمة في حيثيات حكمها “يجب الاقرار بأن الحزب أصبح مركزا لانشطة مناهضة للعلمانية، نظرا لسعيه لتغيير بعض مواد الدستور”، مشيرة الى محاولة الحزب رفع الحظر المفروض على ارتداء الحجاب في الجامعات.
وأضافت “خلصنا الى ان رئيس الحزب رجب طيب أردوغان وعضو الحزب ورئيس البرلمان السابق بولنت ارينج ووزير التعليم حسين جليك… شاركوا في انشطة مكثفة تتناقض مع المادة 68 من الدستور”.
وفي نكسة لحزب العدالة والتنمية، ذي الجذور الاسلامية رفضت المحكمة الدستورية في يونيو تعديلا لرفع الحظر على ارتداء طالبات الجامعة الحجاب قائلة، انه ينتهك الدستور العلماني لتركيا.
ووجه حكم المحكمة الدستورية على غير المتوقع نقدا عنيفا لاردوغان، الذي تُـظهر استطلاعات الرأي انه ما زال أكثر الزعماء السياسيين شعبية في تركيا، ومن المتوقع ان يجدد التوتر في البلاد في الوقت الذي تحاول فيه تحجيم أثر الازمة المالية العالمية وتسعى للانضمام الى الاتحاد الاوروبي.
كما خلصت المحكمة الدستورية أيضا الى ان وزير التعليم وآخرين متورطون في انشطة مناهضة للعلمانية.
(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 24 أكتوبر 2008)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.