مستقبل السلام يبدأ بفتح سجِـلاّت الماضي
"إذا كُـنا نريد خِـدمة مشروع السلام، فلا بد بعد الحرب من نبْـش الماضي وقِـراءة صفحات ما حدث، ليتَـسنّـى لنا إنصاف الضحايا والحيلولة دون تجدّد العنف"، هذا ما تميّـزت به الدبلوماسية السويسرية التي تنشط في ذات المجال في عدّة بلدان، والتي عرضت مؤخرا في برن تقريرا تقيِـيمِـيا حول إنجازاتها التي حقّـقتها في هذا المِـضمار.
خلال المؤتمر السنوي الذي عقدته الدائرة السياسية الرابعة، التابعة لوزارة الخارجية السويسرية يوم الخميس 15 أكتوبر 2009 في العاصمة برن، صرّحت وزيرة الخارجية ميشلين كالمي – ري قائلة: “إنه يتوجّـب علينا دائما – بعد كل حرب – أن نفعل كل شيء في آن واحد، من إعادة بناء البنية التحتية إلى ضمان الأمن إلى محاربة الجوع. وفي مثل هذه الظروف، تبدو قضية مواجهة الإفلات من العقوبة أمرا مؤرقا ومزعِـجا”.
وأضافت: “كثيرا ما نسمع من يقول يجب علينا أن نتطلّـع إلى المستقبل وننسَـى الماضي، إلا أنه من المستحيل أن نترُك وراءنا الماضي ما دام فيه مثل هذه الهمجِـية. وعلينا إذا كنّـا نريد سلاما يدوم ويستمر، أن نقف مع أولئك الذين يرغَـبون في مُـعالجة أخطاء الماضي”.
وجدير بالذكر أن الدبلوماسية السويسرية أضحت منذ عام 2003 تنظُـر إلى مبدإ تقييم الماضي باعتباره عُـنصرا رئيسيا من عناصر تشجيع السلام، وقد قدّمت في السنوات الأخيرة، بناءً على دعوات من بعض الدول المعنِـية أو من بعض المنظمات الدولية، مساهمة كبيرة في هذا المجال في نحو عشر دول، من بينها كولومبيا وغواتيمالا ونيبال وإندونيسيا وبوروندي وصربيا والبوسنة.
الشكوك الأولية
في تصريح لـ swissinfo.ch، قال السفير توماس غريمينغر، رئيس الدائرة السياسية الرابعة: “عندما بدأنا بإدراج مبدأ معالجة الماضي ضِـمن أنشطتنا، اعترض علينا الكثير، حتى أن هناك أُناسا مَـن هُـم داخل وزارة الخارجية مَـن أبدى تشكُّـكه، وكان لسان حال أغلبهم يقول: ما دامت مشاريع السلام تطمح إلى المستقبل، فما بالُـنا ننظر إلى الوراء”.
ثم بعد 6 سنوات، جاء التقييم الأول من خلال المؤتمر الذي عُـقد في العاصمة برن، ليؤكِّـد وجهاء الدبلوماسية السويسرية وممثِّـلو العديد من المنظمات الدولية، على الأهمية الكبرى لِـما تمّ إنجازه، وتمسُّـكهم بمبدإ تحليل الماضي، باعتباره واقعا لا يكاد يخلُـو منه اتِّـفاق سلام.
ويُعقّب توماس غريمينغير قائلا: “لقد تبيّـن لنا تماما أن عدَم فتح سجِـلات الماضي وعدم تحميل المسؤولية للجُناة الذين يقومون من خلال الصِّـراع بارتكاب أفظع الجرائم، هما عاملان رئيسيان يؤدِّيان إلى فشَـل العديد من اتِّـفاقيات السلام وظهور أزمات جديدة”.
كرامة الضحايا
وتضطلع سويسرا، من خلال الدّعم السياسي والتِّـقني والمالي، فضلا عن إيفاد خُـبراء يعملون على أرض الواقع، بمهمّـة أساسها “مبادئ جواني”، تلك المبادِئ التي وضعها الخبير الفرنسي “لوي جواني”، الكفيلة بضمان عدم الإفلات من العِـقاب، وقد تمّـت المُـوافقة عليها عام 1997 من قِـبل لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة. وتقوم هذه المبادئ على أربع ركائز هي: حق المعرفة وحق العدالة وحق الإصلاح وضمان عدم التِّـكرار.
وتبدأ المهمة أساسا بالبحث عن حقيقة ما حدث وبجمع الحقائق والوثائق والشهود واعتماد لِـجان التحقيق ومراجعة كُـتب التاريخ، ذلك أن “حق المعرفة، هو أوّل مساهمة في استعادة كرامة الضحايا”، كما تقول نافانيثيم بيلاي، المفوضة السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة.
ومن ثَـمّ يُـشرَع في عملية قانونية للكشف عن الجُـناة وتحميل كل صاحب جِـناية ما اقترفت يَـداه، بالإضافة إلى إقرارها لحقوق الضحايا وتوفيرها حماية جديدة للسكان. ويتِـم التأكيد على إنجاز هذا العمل عبْـر المحاكِـم القُـطرية أو الدولية، مع توفير الحِـماية للشهود وإنشاء الأطُـر القانونية الجديدة.
أما ما يتعلّـق بحق الإصلاح أو بمعنى آخر معالجة الخلَـل، فإنه لا يقتصِـر على منح التعويضات المالية أو استرداد المُـمتلكات التي فُـقدت، بل يشمَـل أيضا إعادة الاعتبار للضحايا وإعادة تأهيلهم، كأن تقدّم لهم الاعتذارات العَـلنية وتُـقام لهم النّـصب التذكارية، على سبيل المثال. وسنكون في نهاية المطاف بحاجة إلى إصلاح المؤسسات، لمنع تِـكرار حدوث انتهاكات لحقوق الإنسان ولمنع نشُـوب صِـراعات جديدة.
مصداقية دولية
في معرض الإشادة بالجُـهود السويسرية التي قامت على مبدإ فحص الماضي والتي آتت أكلَـها في كثير من البلدان، قالت نافانيثيم بيلاي: “كثيرا ما كُـنا نرى – وحتى زمن قريب – أنه إذا حصل صِـراع، فإن تحقيقَ السلام عندئذ لا يجتمِـع مع تحقيق العدالة، وأن السلام لا يكون مُـمكنا إلا إذا ضمن المسؤولون عن الجرائم الإفلات من العدالة. أما اليوم، فإن لدينا مُـعطيات جديدة، بدءً من المحاكِـم الجنائية الدولية، التي يسّـرت الجمع بين تحقيق السلام وتحقيق العدالة، ليس فحسب، بل جعلت هذا الجمْـع أمرا واقعا لا غِـنىً عنه من أجْـل منع تجدّد العنف”.
ولا شك أن هذا الدّور الذي تقوم به سويسرا ليس غريبا عليها، بل هو تقليد يعبِّـر عن “المساعي الحميدة” التي تتميز بها الدبلوماسية السويسرية، كما أنه جُـهد تقوم به سويسرا منذ أكثر من عقد من الزمان لمراجعة ماضيها، ويظهر ذلك بجَـلاء من خلال لجنة بيرجيي المكلّـفة بالكشف عن الدور السويسري في الحرب العالمية الثانية وقضية تقصِّـي الحقائق بشأن علاقة سويسرا مع نظام الفصل العُـنصري الذي كان قائما في جنوب إفريقيا.
وهذا ما عبّـرت عنه وزيرة الخارجية السويسرية ميشلين كالمي – ري بكل فخْـر، حيث قالت: “يبدو أن ما قُـمنا به في سويسرا من تمحيصٍ لماضينا قد عزّز من مِـصداقيتنا في نظر العديد من شركائِـنا، الذين باتوا ينظُـرون إلينا كبلدٍ يحترم نفسه ولا يستَـعلي على الآخرين”.
أرماندو موبيلّـي – swissinfo.ch
التعايُـش السِّـلمي بين الشعوب، هو أحد الأهداف الرئيسية للسياسة الخارجية السويسرية.
لتحقيق هذا الهدف، فإن الحكومة السويسرية تلتزِم بشكل مُـتبادل (ثُـنائي ومتعدّد الأطراف)، من أجل منْـع العُـنف المسلح وإنهاء الصِّـراعات وإرساء دعائم السلام.
يتمّ رصد مبلغ 50 مليون فرنك سنويا، دعما لسياسة السلام التي تنتهِـجها الحكومة السويسرية وتقوم بتنفيذها بواسطة العديد من المشاريع والبرامج، التي تدعمها وزارة الخارجية، ومنها:
– البرامج الأهلية لإدارة الصِّـراعات الدائرة في مناطق مختلفة من العالم (كالبلقان والشرق الأوسط ومنطقة البحيرات الكبرى وكولومبيا ونيبال وسري لانكا والسودان).
– إرسال مُـراقبين يُـشرفون على سيْـر الانتخابات وضمان نزاهتها، وكذلك إرسال الخبراء الذين يُـساهمون في إرساء دعائِـم المجتمع المدني.
– القيام بالمُـبادرات الدبلوماسية والشراكات الإستراتيجية، التي تدعم تسوية النزاعات.
– القيام بالوساطة بين الدول أو بين الأطراف المتنازعة، في حال نشوب نزاع أو صِـراع.
تُعنى الدائرة السياسية الرابعة في وزارة الخارجية بمشاريع لدعم “الأمن الإنساني”.
يدخل من ضمن الأمن الإنساني، جهود تعزيز السِّـلم والسلام في أرجاء العالم، بالإضافة إلى حقوق الإنسان، فضلا عن السياسة الإنسانية وشؤون الهجرة.
منذ عام 2003، أصبحت الوسائل المُـستخدمة لتعزيز السلام، تشمل أيضا المهامّ المتعلّـقة بتحليل الماضي، فيما يخُـص الدول التي خرجت لتوِّها من الصراع.
تهدف عملية البحث في سجِـلات الماضي، إلى الاعتراف بحقوق الضحايا، وفي الوقت نفسه، الحيْـلولة دون تِـكرار نُـشوب الصراع، بالإضافة إلى تحقيق مجموعة من القِـيم، من توضيح للحقائق إلى تطبيق للعدالة إلى معالجة للخلَـل إلى إصلاح للمؤسسات.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.