مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

مكافحة الجريمة.. بين خيارات أمنية وبدائل تنموية

أفراد من شرطة جنيف يعتقلون إثنيْن من رعايا المغرب العربي دخلوا سويسرا بطريقة غير شرعية واحتلوا بناية من دون أي وجه قانوني Didier Ruef

تعاني جنيف وبقية المدن السويسرية المحاذية للحدود، من الإنتشار الواسع لظاهرة الهجرة غير الشرعية، المقترنة عادة بارتفاع في معدلات الجريمة وانتهاك القوانين.

التقرير حول إحصائيات الشرطة بشان الجريمة في سويسرا لعام 2012 جاء ليؤكّد هذا التلازم الوثيق بين الظاهرتيْن إذ تشير الأرقام إلى أن 53% من هذه الجرائم قد ارتكبت من طرف أجانب وخاصة من طالبي اللجوء أو ممارسي لما يُسمّى “سياحة الإجرام”.

الملفت في هذا التقرير أيضا، إشارته إلى أن أغلبية المتهمين بارتكاب جرائم صغرى مثل السرقة والنشل وانتهاك قوانين الإقامة والإتجار في المخدّرات في الآونة الاخيرة، هم من التونسيين والجزائريين والمغاربة، فضلا عن الغجر من سكان أرمينيا خاصة.

فماذا تخفي هذه الأرقام؟ وما هي الأسباب الكامنة وراء تفشي هذه الظاهرة؟ وما هي الحلول الممكنة لإستتباب الأمن من جديد والحفاظ على التعايش بين جميع الفئات في مجتمع السويسري الذي أضحى يتسم بقدر لا بأس به من التعدد والتنوع؟

في ما يلي بعض الأرقام ذات الدلالة لعدد الإنتهاكات المرتكبة خلال عام 2012 بحسب الجنسيات العربية، وترتيبها مقارنة بالجاليات الأجنبية الأخرى المقيمة في الكنفدرالية:

انتهاكات قانون العقوبات

تونسيون: 2.209 (7)

جزائريون: 1.444 (10)

مغاربة: 1.120 (12)

عراقيون: 416 (20)

سوريون: 231 (32)

ليبيون: 206 (37)

مصريون: 116 (52)

انتهاكات قانون ترويج المخدرات

تونسيون: 786 (6)

جزائريون: 551 (11)

مغاربة: 349 (15)

عراقيون: 126 (27)

انتهاكات قوانين الهجرة واللجوء:

تونسيون: 1.220 (2)

جزائريون: 1026 (5)

مغاربة: 548 (11)

عراقيون: 189 (29)

سوريون: 185 (30)

مصريون: 156 (36)

ليبيون: 142 (40)

(المصدر: إحصائيات أجهزة الشرطة بشأن الجريمة في سويسرا لعام 2012)

في البدء كانت الأزمة!

خلال السنوات الأخيرة، تدفّق آلاف المهاجرين غير الشرعيين على الحدود الجنوبية للقارة الأوروبية، وتزامن ذلك مع اندلاع أزمة اقتصادية خانقة، في البلدان الواقعة جنوب البحر الأبيض المتوسّط وشماله.

وفي سياق شرحه لدوافع ركوبه مغامرة الهجرة غير الشرعية إلى سويسرا، يقول أنور (إسم مستعار لكنه معروف لدى التحرير)، وهو تقني سام تخرّج من أحد المعاهد العليا بتونس في عام 2010: “ركبت البحر بعد أن فقدت الثقة في القائمين على الأوضاع في بلادي، وتعرّضت إلى التهميش وانعدم لديّ الأمل في المستقبل”.

لكن هذه الرغبة الجامحة في العثور على عمل وتحسين الأوضاع المعيشية للمهاجر ولعائلته، سرعان ما تصطدم بحائط سميك من قوانين الهجرة واللجوء المتشدّدة، التي لم تترك منفذا للولوج إلى سوق الشغل، إلا عبر بوابة ضيقة تتمثل في “الحصول على إقامة شرعية”.

عن هذه الحقيقة، يقول رشاد (اسم مستعار أيضا)، وهو مهاجر سريّ (أو حارق) قدم من الجنوب التونسي، عمل بحارا قبل أن يتعلّق قلبه بالهجرة إلى الشمال: “منذ أن وصلت إلى إيطاليا ومنها انتقلت إلى سويسرا، وانا أرى أن كل شيء متوفّر هنا، ولكن في غياب الترخيص بالإقامة، لا يمكنك مباشرة أي عمل أو الفوز بأي مكسب”.

هذا المهاجر، الذي اختار العودة الطوعية إلى تونس عقب استفادته من برنامج فدرالي لإعادة الإندماج، يضيف قائلا: “أعتقد أن الشخص الذي يسافر إلى بلد أجنبي، يكون في البداية في وضع صعب للغاية، ولكن عندما ينضاف إلى ذلك غلق جميع الأبواب أمامه، أبواب العمل أو تلقي المساعدة الضرورية، كل ذلك سوف يضطرّه إلى البحث عن مخرج، ولو كان ذلك من خلال السرقة أو الإجرام أو الإتجار في الممنوعات”.

من هنا، يُولد الإغراء بتجاوز القوانين وتتعزّز روح التمرّد، نتيجة الشعور بالحرمان في بلد الوفرة. وفي هذا الصدد، يقول أنور، الذي ينزّه نفسه عن ارتكاب أي مخالفات: “أأسف لأبناء بلدي الذين يسلكون طريق الإنحراف والإتجار في الممنوعات، بعد المغامرات الخطيرة التي مرّوا بها. هذا الأمر مؤلم، ولكن لما تسألهم يجيبون: نحن كنّا مهمّشين في بلدنا، وجئنا إلى أوروبا للعمل وللكسب الحلال، وليس أمامنا الآن سوى جمع ما أمكن من المال بأي طريقة كانت”. ثم يضيف بصوت متزن لشخص عركته التجارب واكسبته بعض الحكمة: “أنا أدعو هؤلاء إلى اليقظة والتعقّل، حتى لا يُفنوا أعمارهم بين الغربة والسجون”.

“أتفهّم الأمر ولا أبرّره”

في سياق متصل، لا تخطئ عين المراقب الإنتشار الواسع للشعور بانعدام الأمن بين صفوف السويسريين بسبب ما بات يعرف بالجرائم الصغرى. ويقول فتحي العثماني، وهو ناشط مدني مقيم في لوزان وعضو بالمكتب التنفيذي لجمعية الجالية التونسية بسويسرا: “من الخطإ نفيُ وجود المشكلة، لأنه بعد وصول أعداد كبيرة من المهاجرين، كثر الحديث عن ظواهر السرقة والنشل وتحطيم السيارات وانتشار عصابات الإتجار في المخدّرات”.

مقابل هذا الإنتشار الواسع للجريمة، تظلّ وسائل مكافحتها في سويسرا محدودة جدا. وبالنسبة للسيد العثماني، فإن “تساهل قانون العقوبات وإلتزام الشرطة السويسرية بمعايير حقوق الإنسان والأحكام المخففة التي يصدرها القضاء، كل ذلك يسيء المهاجرين استغلاله، فتزداد الجريمة وتصعب مكافحتها”.

من المعلوم أيضا أن العقوبات التي تصدرها المحاكم في القضايا المرفوعة إليها بشأن هذه الجرائم الصغرى، عادة ما تكون عقوبات مادية ولا تقيّد حرية الأشخاص، وباعتبار أن المهاجرين غير الشرعيين ليست لديهم عناوين إقامة ثابتة، فلا ينفّذون تلك العقوبات. ويقترح هذا الناشط المدني، الدائم الإتصال بالمهاجرين غير الشرعيين، على السلطات السويسرية مراجعة القوانين الخاصة بالهجرة واللجوء، لأنها “قوانين غير واقعية، والأفضل أن يمنحوا القادمين الجدد الحق في العمل، في انتظار البت في مطالب إقامتهم”، على حد رأي العثماني.

وفيما يتعلق بالنهج الذي اتبعته سويسرا في السنوات الأخيرة والقاضي بتشديد قوانين الهجرة واللجوء والتقليل من المساعدات الإجتماعية الممنوحة للمهاجرين، وتمديد فترات الإيقاف التي تسبق التثبت من الهوية من أجل الترحيل لاحقا، يرى رشاد أن “هذا ليس الحلّ الامثل لإقناع هؤلاء الشباب بعدم القدوم إلى سويسرا أو البقاء فيها، بل على العكس فنحن ننظر إلى هذه الإجراءات على أنها نوع من الإستفزاز ستتولّد عنه مخاطر أكبر. وبدلا من ذلك، أظنّ أن بإمكان سويسرا مساعدتنا بطريقة أفضل”.

المزيد

المزيد

جولة ميدانية رفقة الدوريّــــة

تم نشر هذا المحتوى على انضم المصور السويسري إلى فرق أمنية وشارك في دورياتها الصباحية والليلية. وقد لقي قبولا حسنا من طرف الأعوان وتمكن من متابعة مجمل الأنشطة البوليسية وتوثيقها بدون أي احتراز أو تضييق. الصور الملتقطة تمنح فرصة للغوص في ثنايا المدينة من خلال ما تقوم به الشرطة التي تجد نفسها مُرغمة على التعاطي مع عدد هائل من الوضعيات…

طالع المزيدجولة ميدانية رفقة الدوريّــــة

العصا أم الجزرة؟

هذا الإتفاق في توصيف الواقع، وهذه الأرقام التي تكشف بالواضح تفاقم الجريمة المرتبطة بالهجرة غير الشرعية في سويسرا، لا يقابلها من ناحية أخرى اتفاق بشأن الحلول المفترضة لمعالجة الظاهرة حيث تتراوح السياسات المقترحة بين “سياسة العصا” أو “أسلوب الجزرة”.

آلان بيطار، صاحب مكتبة الزيتونة بجنيف، يعتقد أن معالجة هذه المشكلة تبدأ بـ “الحديث صراحة وبدون لفّ ولا دوران حول هذا الموضوع”، الذي لا يمكن برأيه أن “يُعالج من منظور ثقافي (سويسري/ أجنبي)، بل من منظور أمني صرف. فالمجرم مجرم وليست له جنسية، وأي علاقة تضامنية مع هؤلاء العرب المخالفين للقوانين، سوف تخرّب علاقة العرب المقيمين والمندمجين مع المجتمع السويسري”، على حد قوله.

من جهة أخرى، يعتقد هذا الناشط والمثقف اللبناني المقيم بسويسرا منذ 52 عاما أن “تفاقم هذا الوضع هو الذي يغذي بطريقة مباشرة دعوات أحزاب اليمين إلى التضييق على المهاجرين والتمييز ضدهم، ومن ذلك تصويت الناخبين بكثافة لصالح ما سمي بقانون “طرد المجرمين الأجانب”.

ومن أجل تبديد المخاوف، وسدّ الطريق بوجه النزعات اليمينة الشعبوية، يدعو بيطار العرب المقيمين في سويسرا إلى “التعاون مع السلطات الأمنية ومع المجتمع المدني المحلّي، لكي نبيّن لهم أن الأمر لا يتعلّق بأجانب مجرمين وسويسريين طيبين. وكما أن هناك ضحايا من السويسريين، هناك ضحايا من الأجانب أيضا، ويكفي أن نشير إلى أن 15% من السياح الزائرين إلى جنيف يتعرّضون للسرقة والنشل، وأنه خلال صيف واحد، طلب 49 كويتيا من سفارتهم بسويسرا جوازات سفر بعد أن سُرقت منهم جوازاتهم الأولى”.

مقابل هذا الطرح الأمني، الذي أثبت فشله في بلدان عديدة، بحسب عضو جمعية الجالية التونسية بسويسرا، اختارت الجمعية، وبمبادرة من النائب البرلماني أولي لوينبرغر عن حزب الخضر، وبالتعاون مع مدينة جنيف وبلدية لوزان، إطلاق برنامج مشترك يهدف إلى تشجيع الشباب “الحارق” على العودة إلى تونس بطريقة طوعية.

عودة طوعية وحلول عملية

في مرحلة أولى، يتمثّل هذا البرنامج الذي يُراد له أن يكون نموذجيا في تكوين 15 شابا من المهاجرين غير الشرعيين في ميدان تكنولوجيا إعادة التدوير (recyclage) من شهر أبريل إلى شهر يوليو 2013 (تكوين نظري وتطبيقي)، ثم عودتهم لاحقا إلى تونس للعمل مع شركات تونسية ناشطة في مجال التنمية المستدامة.

إضافة إلى ذلك، يُمكن للشبان الذين يرغبون في العودة الطوعية، الإستفادة من مشروع ثان أطلقه منذ فترة المكتب الفدرالي للهجرة (بالتعاون مع منظمة العمل الدولية والسلطات التونسية)، يتلخّص في تمكين المستفيد من الحصول على 1000 فرنك سويسري كمصروف جيب، بالإضافة إلى تذكرة عودة. وعند وصوله إلى تونس يتمّ تمكينه من 3.000 فرنك سويسري في صورة معدّات أو مساعدة لإطلاق مشروع استثماري شخصي، وبالإمكان الترفيع في هذا المبلغ، إذا ما تأكدت جدوى المشروع اقتنعت بها الجهات المشرفة على برنامج التعاون السويسري بتونس.

أخيرا يرى رشاد أن الحلّ أيسر من ذلك بكثير حيث أنه “بإمكان سويسرا مساعدتنا والبلد الذي جئنا منه من خلال إرجاع الأرصدة التونسية المسروقة المُودعة في بنوكها، فهي كفيلة بزرع الأمل في نفوسنا وخلق فرص شغل لأيدينا العاطلة”، على حد قوله. 

الأكثر قراءة
السويسريون في الخارج

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية