سُنة العراق .. تهميش ذاتي أم مشاركة حذرة؟
تتواصل في العراق المفاوضات بين التحالفات السياسية المنتصرة في الانتخابات الأخيرة بشأن تشكيل الحكومة العراقية الجديدة.
من جهتهم، يطالب السُنّـة العرب بدور في لجان صياغة الدستور العراقي الدائم، ويضع البعض منهم شروطا للمشاركة.
بينما تجري التحالفات السياسية المنتصرة في الانتخابات العراقية مفاوضاتها بشأن تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، وتوزيع المناصب السيادية، يطالب السُنّـة العرب بدور في لجان صياغة الدستور العراقي الدائم، ويضع البعض منهم شروطا للمشاركة، فيما يُـعيد آخرون تقييم مستقبل السُنّـة العرب في مُـجمل الحياة العراقية.
وفي حين يؤكّـد قادة الشيعة والأكراد ترحيبهم بمشاركة السُنة فى الاستحقاقات السياسية المقبلة، فإن صور هذه المشاركة وأهدافها ليست واضحة بعد.
الحرص على تأمين أوسع مساحة لمشاركة العرب السُنة يعود إلى عدة اعتبارات متداخلة.
أولها، إدراك القوى المنتصرة في الانتخابات العراقية الشيعية والكردية بأن تهميش السُنة العرب، من شأنه أن يُـلقي بظلال من الشك وعدم الشرعية على مجمل نتائج العملية السياسية الجارية لبناء عراق جديد.
وثانيا، اعتبار قانوني، حيث يمكن لثلثي الناخبين في ثلاث محافظات عراقية، حسب نص المادة 61 من قانون إدارة العراق المؤقت الذى ينظم العملية السياسية في الوقت الراهن، أن يعطلوا تمرير الدستور الدائم إذا ما صوّتوا بالرفض. ومعروف أن العرب السُنة يرتكزون في عدة محافظات بوسط البلاد، وهي نينوى، والتأميم، وصلاح الدين، وديالى، والأنبار بالإضافة إلى بغداد.
وثالثا اعتبار أمني، إذ أن هذا التهميش سيقود بالضرورة إلى استمرار الكثير من الجماعات ذات التوجهات الإسلامية والقومية والبعثية، والمحسوبة جميعها على العرب السُنة في عمليات المقاومة العنيفة، وذلك بدلا من تحييدها أو دفعها للمشاركة في العملية السياسية، مما سيجعل الأمر مرشحا لمزيد من التدهور الأمني، وربما يتّـسع إلى مواجهات شعبية على خلفية طائفية.
مثل هذه الاعتبارات معا تضع العرب السُنة في قلب الحدث العراقي، وحتى وهم رافضون أو ممتنعون.
رقم صعب وحسابات خاطئة
هكذا يبدو السُنة العرب، رقما مهما في المعادلات السياسية العراقية، بالرغم من مقاطعة الغالبية منهم الانتخابات التي جرت في 30 يناير الماضي، والتي لم تُـسفر إلا عن فوز العرب السُنة الذين شاركوا فيها بـ 13 مقعد فقط من جملة 275 مقعدا تشكل الجمعية الوطنية العراقية، وهى نسبة ضئيلة لا تعبّـر عن حجم السُنة العرب فى البلاد، وهم الذين يقدرون أنفسهم بما لا يقل عن 42% من جملة السكان، ويُـفترض أن يمثلهم 125 نائبا على الأقل.
وبينما كان المقاطعون للانتخابات يرون أن مقاطعتهم هذه ستحول دون نجاح إجراء الانتخابات، ومن ثم تعثـر العملية السياسية برمتها، فإن نجاح الانتخابات بالفعل وتشكل معادلات سياسية جديدة بين القوى العراقية المشاركة وبعضها البعض من جانب، وبين المشاركين والمقاطعين من السُنة من جانب آخر، شكل ما يشبه الصدمة للسُنة العرب، نتيجة اكتشاف حجم الخطأ في الحسابات التي قادت إلى هذا الوضع من التهميش شبه الكلي.
وحتى الذين شاركوا منهم، والذين ينظر البعض لهم باعتبارهم من الزمرة المتعاونة مع الاحتلال يشعرون بصدمة خيبة الأمل، حيث لا يملكون إلا مقاعد محدودة جدا لا تشكل وزنا يُـذكر في الخريطة السياسية للجمعية الوطنية المقبلة.
مثل هذه الوضعية من التهميش السياسي يمكن وصفها بالتهميش الذاتي نتيجة الحسابات السياسية الخاطئة، رغم كونها استندت إلى مبادئ مشروعة في حد ذاتها، كحق المقاومة وحق مناهضة الاحتلال الأجنبي، وحق مقاطعة مؤسسات الاحتلال وغير ذلك من التبريرات التى استخدمها رموز العرب السُنة، لاسيما هيئة علماء المسلمين، لعدم المشاركة في الانتخابات.
والآن، تبدو المهمة صعبة بعض الشيء، إذ يُـدرك أقطاب كثُـر من السُنة العرب، منهم السياسيين الحزبيين والعلماء وزعماء العشائر السنية، وناشطون قوميون وليبراليون، أن استحقاق الدستور الدائم يتطلّـب إستراتيجية عمل تختلف عن تلك التي اسُتند إليها في الانتخابات.
فالمقاطعة ليست هي الأسلوب الأمثل لمثل هذا الاستحقاق الكبير الذي سيشكل مستقبل العراق لمدة طويلة مقبلة. وإذا كان يمكن تحمل مقاطعة الانتخابات، فلا يمكن تحمل مقاطعة الدستور الدائم للبلاد وترك الآخرين وحدهم يصيغونه حسب مصالحهم الخاصة وحسب.
اجتهادات وتحولات
مثل هذا التحول من نزعة المقاطعة إلى نزعة المشاركة لا يعني بالضرورة في عرف بعض ممثلي السُنة العرب الاعتراف بالاحتلال أو التعاون معه، ولكنه نوع من النزوع البراغماتى المحكوم بعدّة شروط وأهداف، تختلف من طرف إلى آخر.
فالسُنة العرب ليسوا جسما سياسيا واحدا، وليست لديهم مرجعية واحدة أو مؤثرة سواء دينيا ـ كما هو حال آية الله السيستاني بالنسبة للشيعة العراقيين ـ أو سياسيا، وهم خليط من السلفيين والاتجاهات الدينية المعتدلة الوسطية والاتجاهات السياسية العلمانية والديمقراطية والقومية والبعثية والناصرية والشيوعية، ولكل من هؤلاء رؤيته الخاصة إزاء ما يجرى.
ففي حين يتجه الحزب الإسلامى السُـني بزعامة محسن عبد الحميد إلى التعامل الايجابي مع أي حكومة عراقية سيتم تشكيلها وفقا لنتائج وتحالفات ما بعد الانتخابات، دون أن يعني ذلك المشاركة المباشرة في هذه الحكومة، فإن هيئة علماء المسلمين (سُنة) وضعت في منتصف فبراير الماضي سبعة شروط للمشاركة في العملية السياسية، من بينها إعلان جدول زمني لانسحاب قوات الاحتلال، وإلغاء المحاصصة الطائفية والعرقية والعقائدية، واعتماد مبدأ المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات، والاعتراف بالمقاومة العراقية كحق مشروع، ورفض الإرهاب الذي يستهدف الأبرياء والمنشآت والمؤسسات ذات النفع العام، وإطلاق المعتقلين في سجون العراق، واعتماد الديمقراطية كخيار وحيد لتداول سلمي للسلطة.
وحتى في داخل الهيئة، فهناك الاجتهادات البارزة لعلماء مثل عبد الحميد السامرائي، يرون أن الوضع ما بعد الانتخابات يتطلب رؤية جديدة لتنظيم السُنة لتُـصبح كتلة مؤثرة من جانب، والتعامل مع الاستحقاق الدستوري بإيجابية عبر المشاركة في لجان صياغته من جانب آخر.
ويوافق الشيخ عدنان سلمان، رئيس الوقف السُني على هذا التوجه باعتبار أن كتابة الدستور قضية مهمة، لأنه سيرسم مستقبل العراق ويجب أن يكون السُنة أعضاء أصليين فى اللجنة.
وهناك أيضا دعوات كالتي أطلقها وميض نظمي، أحد الشخصيات السياسية ذات التوجه القومي، بعقد مؤتمر عام للسُـنة على أن يضم أعضاء من حركات المقاتلين المناهضين للاحتلال بهدف تجاوز الخلافات والتناقضات، وتكوين جبهة واحدة قوية ومؤثرة.
جهود التنظيم الجماعي
التنوع الشديد في الجسم العربي السُـني والخوف من التهميش الكامل، دفعا الكثيرين إلى البحث عن صيغة تنظيمية تجمع العرب السُنة، لكن حجم التجاوب لم يكن مناسبا لحجم التحديات.
بدأت أولى ملامح الاهتمام بتجميع جهود السُنة العرب بالدعوة التي أطلقها الشيخ أحمد عبد الغفور السامرائي بعقد مؤتمر عام لأهل السُنة، يشارك فيه ممثلون عن كافة الجمعيات والمؤسسات والعشائر والنقابات والأحزاب والمحافظات، لكن دون أن يكون هذا المؤتمر بديلا عن أي منها، بل هو صيغة تنظم أهل جهود السُنة من أجل السعي إلى تحرير العراق عن طريق العمل السياسي.
وفيما بدا أن هذه الدعوة ليست محل توافق عام بين كل قيادات هيئة علماء السُنة، فقد جرى تنظيم بعض لجان تحضيرية، على أن تصُـب في لجنة تحضيرية عامة لاحقا. ويشارك في هذه اللجان هيئة علماء السُنة، والحركة السلفية، والحزب الإسلامي العراقي، والحركة الملكية الدستورية، والهدف منها، حسب احمد السامرائي، تجنيب القوى السنية الانقسام والعمل وفق أسس صحيحة والتحضير لاستحقاقات المرحلة المقبلة.
وإذا كان الطابع الغالب على هذه الهيئات أنها ذات طابع دينى، فإن شخصيات عربية سنية ذات حضور سياسي كعدنان الباجه جي، ومهدي الحافظ، وزير التخطيط السابق، ونصير الجادرجي، العضو السابق فى مجلس الحكم، إضافة إلى ممثلين عن 23 حزبا وجمعية، تسعى من جانبها إلى بلورة لجنة لدراسة كيفية المشاركة في صياغة الدستور الدائم.
وقد سبق هذا المسعى، انعقاد مؤتمر في 20 فبراير الماضي، شارك فيه نحو 200 شخصية عربية مثلت زعماء العشائر السُنية بالدرجة الأولى، جنبا إلى جنب ببعض ممثلي أحزاب وشخصيات عسكرية سابقة، تحت عنوان “المشاركة في الحياة السياسية حق لكل العراقيين”، حيث ظهر توافق الحاضرين على ضرورة المشاركة في العملية السياسية المقبلة، لاسيما صياغة الدستور، والتعامل الايجابي مع الحكومة التي سيتم تشكيلها، وكذلك مع الجمعية الوطنية المنتخبة.
في حين طالب آخرون بالاستعداد للانتخابات المقبلة عام 2006، وبعقد مؤتمر وطني عراقي شامل يضم كل أطياف الشعب العراقي، وبضرورة مشاركة عناصر سُنية في الجمعية الوطنية المنتخبة، ولو من خلال التعيين، والتأكيد على أن الأميركيين أعداء وقتالهم واجب.
إشكاليات وتحديات
وتشير كل التحركات على صعيد العرب السُنة إلى أن خبرة مقاطعة الانتخابات لم تكن إيجابية، وأن التحدي الحقيقي الآن هو، كيف يمكن تشكيل نواة تنظيمية للسُنة العرب، أو بالأحرى لغالبيتهم، بحيث تشكل قوة ضغط وعامل توازن في الحياة السياسية العراقي.
هذا التحدّي لا يخلو من إشكاليات كبرى، أبرزها إشكالية تحديد موقف عام للعرب السُنة من قضية الدستور الدائم، والموقف من مطالب الفئات العراقية الأخرى، لاسيما الأكراد، وبلورة موقف إزاء عمليات العنف التي تقوم بها جماعات المقاومة أو غيرها ضد المؤسسات الجديدة الأمنية أو السياسية، بما فى ذلك الشخصيات التي تمثل رموزا للمرحلة الجارية.
إذ سيكون من المفارقات الكبرى أن تكون هناك مشاركة في عملية سياسية تستهدف بناء مؤسسات وآليات عمل جديدة تخص مستقبل العراق ككل، في الوقت نفسه تصدر فتاوى أو بيانات تُـشجع على عمليات عنف وإهدار دماء العراقيين باسم مقاومة ليست واضحة المعالم في كثير من عناصرها.
د. حسن أبوطالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.