إلى أي اتجاه يتطوّر الحياد السويسري؟

كثيرا ما يتعرض الحياد السويسري عند الأزمات لضغوط. وتواجه سويسرا حالياً، سؤالا محوريا ملحّا: هل الانفتاح أفضل أم الانعزال؟ ستحدد الإجابة عن هذا السؤال اتجاه البلاد في المستقبل. 

لقد أجّجت حرب أوكرانيا الجدل حول الحياد السويسري مجدداً. إذ اتُهِمَت سويسرا مراراً بالتخلي عن حيادها، لانضمامها لعقوبات الاتحاد الأوروبي المسلَّطة على روسيا. 

لكن لا يعدّ فرض عقوبات اقتصادية بحتة أمراً شائكاً في القانون الدولي. فتقول إليزابيث هوفبرغر بيبان، النمساوية المتخصصة في القانون الدولي: “لا يتعلق الأمر بمجرّد اتخاذ موقف في نزاع مسلح“. 

وتواجه سويسرا هذا الاتهام في الداخل أيضاً، خاصة من حزب الشعب السويسري اليميني المحافظ (SVP)، الذي يدعو إلى التمسك بالحياد الصارم، ويقود حملة لطرح مبادرة شعبية تعرّف الحياد بمفهومه الدستوري الضيق.  

ومن جهة أخرى، تضغط أصوات أكثر ليبرالية من أجل أن تحافظ البلاد على ما يُعرف بالحياد “النشط“. 

سويسرا خارج الحياد بمعناه التقليدي   

لقد حذت سويسرا حذو أغلب الدول المحايدة، ونأت بنفسها فعلا، عن الحياد بمعناه التقليدي. وتوجهت نحو المجتمع الدولي؛ فأصبح عليها تفهم العقوبات الأممية منذ انضمامها للأمم المتحدة عام 2020. وتعود مشاركتها في المهام السلمية إلى أبعد من ذلك. 

تنطلق سويسرا في ذلك من عدم سريان قانون الحياد على مهام الأمم المتحدة العسكرية، إذ يتولى مجلس الأمن في نهاية المطاف تحقيق السلام العالمي. لكن يقول الحقوقي النمساوي بيتر هيلبولد من جامعة إنسبروك: “إن الحياد بمعناه التقليدي، لا يكاد يتوافق مع عضوية الأمم المتحدة، بل هو أقل توافقاً مع عضوية الاتحاد الأوروبي”. 

وترى الخبيرة في القانون الدولي إليزابيت هوفبرغر بِبان من المعهد الألماني للسياسة الدولية والأمن ببرلين، عدم إدراك الشعب لقدر من تمييع الحياد، يتماشى مع عضوية الاتحاد الأوروبي، وكذلك عضوية الأمم المتحدة. 

 تقول شتيفاني فالتر، أستاذة العلاقات الدولية والاقتصاد السياسي بجامعة زيورخ: “لم يكن حياد سويسرا واضحا دائما، فقد وقف بلد جبال الألب خلال الحرب الباردة مثلا، إلى جانب الغرب ضمنيا، كما اتّخذ موقفا واضحا من حقوق الإنسان”.

وأدانت برن منذ بداية الحرب في أوكرانيا الهجوم الروسي على الفور، باعتباره مخالفاً للقانون الدولي.  

ما الذي يعنيه الحياد؟ 

يجب على سويسرا شرح مفهومها للحياد أمام الخارج، فكثيراً ما يُساء فهمه. إذ يميز بين قانون الحياد، وسياسته. فقد نصّت معاهدة مؤتمر فيينا، التي منحت فيها القوى المنتصرة سويسرا الحياد الدائم عام 1815، على عدم مشاركتها في النزاعات، أو إتاحتها جنود مرتزقة، وفي المقابل لن تنتقل الحروب إلى أراضيها مجدداً. 

لم يشهد هذا المبدأ سوى تغييرِ طفيفٍ؛ إذ تلتزم سويسرا إلى اليوم، بموجب قانون الحياد أوّلا، بعدم المشاركة في الحروب مباشرةً أو غير مباشرة. وتُعرِّفهرابط خارجي وزارة الخارجية الفدرالية بما يلي: تلتزم الدولة المحايدة بـ: 

• تجنب المشاركة في الحروب 

•  تأمين دفاعها عن نفسها 

•  معاملة جميع أطراف الحروب على قدم المساواة، فيما يخص تصدير معدات التسليح          

• عدم مد أي من أطراف الحروب بجند مرتزقة          

• عدم إتاحة أراضيها لأي طرف من أطراف النزاع 

وتلاقي هذه الالتزامات المحددة بدقة، قبولاً واسعاً في سويسرا. فقد منعت الدول الأعضاء بحلف الناتو مثلا، من عبور أجوائها أثناء الغزو الأمريكي للعراق، أو أثناء مد أوكرانيا بالسلاح مؤخّرا، رغم ارتباطها الواضح بالغرب. كما أحجمت عن موافقة كل من ألمانيا، وإسبانيا، والدانمارك، على إعادة تصدير الدبابات والذخيرة المشتراة منها إلى أوكرانيا. وتواجه ضغوطات خارجية متزايدة، من أجل العدول عن هذا الموقف المتشدد.  

وتُتناول سياسة الحياد بمرونة من جهة أخرى، فلا يقتصر الأمر على الإطار القانوني، بل يتعلّق وفق وزارة الخارجية السويسرية بـ “مجمل الإجراءات التي تتخذها الدولة المحايدة من تلقاء نفسها، لضمان توقعاتها من حيادها الدائم، ومصداقيته”. وتُطوّع هذه الإجراءات وفق السياق الـ(ـجيو)سياس. وتبقى التقاليد الإنسانية والمساعي الحميدة، أساسية في بديهية حياد سويسرا، تشكل مع سياستها التجارية مراكز ثقل سياستها الخارجية.  

في أوروبا الحياد يتعرّض لضغوط 

 لا تقتصر مثل هذه النقاشات على سويسرا وحدها، فقد انضمت كل من السويد وفنلندا، إلى حلف الناتو بعد تحول في سياستهما الأمنية، إثر تخليهما عن سنوات عديدة من الحياد وعدم الانحياز. كما تعيد الكثير من الدول المحايدة في أوروبا وخارجها، النظر في وضع حيادها داخل التكتل السياسي العالمي المتغير.

كما تثير علاقة سويسرا بحلف الناتو (Nato) نقاشات واسعة وجدلا انفعاليا. فقد أورد استطلاع للرأيرابط خارجيّ دوريّ، يُجريه المعهد التقني الفدرالي العالي بزيورخ، تصاعد التشاؤم أكثر من السابق في تقييم عدد متزايد من أفراد الشعب السويسري للوضع السياسي العالمي. لكن لم يؤثر ذلك في الشعور العام بالأمن داخل البلاد، بل ما زال الإحساس بالأمان طاغيا فيه. وتراجعت من جهة أخرى المخاوف من التقارب مع هذا الحلف، بل كشف استطلاع الرأي عن تأييده من أكثر من نصف المجموعة المستجوبة. لكن مازال الانضمام إليه يفتقر لدعم الأغلبية (ما لم يُطرح للنقاش سياسياً)، بينما يلقى التعاون الوثيق معه مؤسسيا وفنيا، ترحيباً واسعاً.  

ويبدو للعين المجرّدة إذا أمعنت النظر في الناحية الأمنية اعتبارٌ، قد يزداد أهمية؛ إذ تعدّ سويسرا نفسها “وادي السيليكون في صناعة الروبوتات”، كما أنها طرف هام في تكنولوجيا الطائرات دون طيار، التي كثيراً ما تسقط كاملة أو أجزاء منها في مناطق الحروب، ما قد يعد نوعاً من التعارض مع مبدأ الحياد. 

أي مستقبل لتعددية الأطراف؟ 

شغلت سويسرا مقعدا في مجلس الأمن لأوّل مرّة في عامي 2023 و2024، فانتُخبت لعامين كأحد الأعضاء العشرة غير الدائمين. ويتولى مجلس الأمن باعتباره أهم هيئة متعددة الأطراف، المسؤولية الأساسية في “حفظ السلام العالمي”، لكن يحول حق الفيتو للدول الخمس الأعضاء (الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وفرنسا، والصين، وروسيا)، دون أدائه الدور المنوط به في الملفات الهامة. 

وقد ترأست سويسرا المجلس مرتين في هذه الفترة. لكنها لم تتمكن من حمل الأطراف المتحاربة على الإقرار بمسؤوليتها إزاء الأزمات الكبرى، كالعدوان الروسي ضد أوكرانيا، أو الأزمة السودانية، أو الحرب الإسرائيلية الفلسطينية.  

لكنها سعت إلى تعزيز تعددية الأطراف في مسائل أقل وضوحاً للعيان، كما في الفعاليات المشتركة مع الأمم المتحدة ومع الاتحاد الأفريقي. إذ يؤدّي تعرّض النظام متعدد الأطراف إلى مزيد من الضغط، إلى معاناة الدول الأصغر مثل سويسرا بالدرجة الأولى؛ فيعمل النظام المستند إلى قواعد، على الحيلولة دون هيمنة الأقوى، بينما تُعلن عدة قوى الحرب على تعددية الأطراف، منذ عدة سنوات.  

لكن يمكن ملاحظة تطورات غير متوقعة أيضا؛ فتسعى المحكمة الجنائية الدولية مثلا، إلى أداء دور أكثر فعالية، وتتساءل عن مدى قدرتها على التأثير في السياسة الدولية. كما يتعزز مبدأ الولاية القضائية الدولية، الذي يتيح لجميع الدول الملاحقة، ورفع الدعاوى في الجرائم الفادحة، حتى وإن لم يحقق نجاحاً على مستوى العالم بعد. وتؤدي سويسرا دوراً هاماً هنا، خاصةً أن جنيف الدولية تشهد بعض التغيرات في هذا الاتجاه.  

لا شيء مؤكد غير عدم اختفاء الحياد السويسري قريبا، لكن سيظلّ الاتجاه الذي سيتخذه في المستقبل موضوع نقاش ساخن.

تحرير: مارك ليفينغستون

ترجمة: هالة فراج

مراجعة: عبد الحفيظ العبدلي

التدقيق اللغوي: لمياء الواد