“الوساطة”.. أبرز مهمة اضطلعت بها البلديات الليبية المنتخبة
حمل رؤساء بلديات ونشطاء مدنيون ليبيون على الحكومات المتعاقبة على السلطة في البلاد منذ 2011، وأرجعوا إليها مسؤولية الصعوبات التي تواجهها المجالس البلدية وانعكاساتها على حياة المواطنين. جاء ذلك في إطار "منتدى ليبيا الدولي للسلام"، الذي أقامه مؤخرا في العاصمة التونسية، الإتحاد الأوروبي وبرنامج دعم الحكم المحلي والإستقرار في ليبيا، بمشاركة 120 شخصية ما بين رؤساء بلديات وأعضاء مجالس بلدية ونشطاء مدنيين من الجنسين.
في واقع الأمر، تُعتبر المجالس البلدية المنتخبة في عام 2014، الهيئات الوحيدة في ليبيا التي لا يُوجد نزاعٌ حول شرعيتها، والتي حاولت ملء الفراغ الذي تركه انهيار الدولة بعد سقوط النظام السابق في خريف عام 2011. وقال فرج عبان، عميد بلدية جنزور، الذي كان أول المتحدثين: “لم نلق من الحكومات المتوالية أي اهتمام ولم تمُدنا بأية موازنات لكي نُقدم الخدمات المطلوبة للمواطنين، ونرفع العبء عن كواهلهم”. وأوضح عبان أن البلديات كانت لها مساهمة فعالة في الإتفاق السياسي الذي تم التوصل إليه في منتجع الصخيرات المغربي في ديسمبر 2015، على الرغم من اتهام المجالس بتسييس البلديات، مؤكدا أن بلدية جنزور ساهمت في وقف القتال بين الأشقاء في وقت مبكر، ما جعلها جديرة بتسمية “مدينة السلام”، التي أطلقت عليها منذ سنتين.
وفي تصريحات خاصة لـ swissinfo.ch، كشف عبان أن المصالحة الأولى كانت مع الزنتان من خلال اللقاء بين العميدين، مما أنهى الحرب بين المدينتين، مشيرا إلى الدور الإيجابي لأعيان القبائل في هذا المضمار. وقال “كان لهم دورٌ كبيرٌ إذ كنا نعتقد أن المصالحة ستستغرق شهورا، لكن تم حل جميع المشاكل العالقة في ساعتين فقط حول مائدة العشاء”.
أعباء مُضاعفة
أكد عميد بلدية غريان (جبل نفوسة) يوسف البديري أن المجلس البلدي أقدم على اختيار فريد من نوعه، إذ قام بتفعيل المحلة، وهي أصغر وحدة في الحكم المحلي. وقال لـ swissinfo.ch: “شكلنا في هذا الإطار 58 محلة في غريان، وفوضنا لمخاتير المحلات حل المشاكل الداخلية لمناطقهم. ونجحت التجربة بشكل لم نتوقعهُ، إذ صارت المحلات تؤمّن كثيرا من الخدمات للمواطنين، حتى السيولة النقدية، إذ أن فقدها قد يؤدي إلى إقدام المواطنين على حرق الفروع المصرفية”. وأضاف “أكثر من ذلك، صارت المحلة تقوم بدور أمني، وهذا من شأنه مُضاعفة الأعباء التي تضطلع بها تلك المحلات الصغيرة، لكن المواطنين مازالوا مع ذلك ينحون باللائمة دوما على البلديات”. وأشار إلى أنه “للعام الرابع على التوالي ندلف إلى السنة الجديدة بلا موازنة، فالوزراء يتواصلون معنا في المصائب والمشاكل فقط، ولا يتحدثون معنا أبدا في الأمور الإيجابية”.
لجان أزمة..
أما الناشطة نسرين بن عامر، الآتية من مصراتة، فطالبت بتفعيل قانون الحكم المحلي لتمكين المجالس البلدية من الوسائل المادية لتنفيذ برامجها. وأكدت أن البلديات اشتغلت باعتبارها لجان أزمة أكثر منها كمجالس بلدية، وأنها توفّقت في بعض الوساطات وأخفقت في أخرى طيلة السنوات الثلاث الأخيرة.
من جهته، اعتبر كاي براند جاكوبسون أن البلديات يُمكن أن تلعب دورا حاسما في وقف النزاعات المسلحة والوصول لاتفاقات تنطلق من الأسفل إلى الأعلى، وقد شاهدنا ذلك في العراق مثلا. وركّز على أن البلديات لعبت دورا بارزا في إعادة إدماج عناصر الميليشيات في المجتمع والإستفادة من كل القوى المتصارعة بإشراكها في مسار التعافي. وأشار إلى أن من دعاهم “أصحاب المصلحة في استمرار الحرب” يعملون على عرقلة جهود البلديات من أجل استمرار الحرب. ورأى أن هناك حاجة لدعم جهود الوساطة الداخلية من الخارج، مُعتبرا أن أحد أسباب الاخفاق الحالي يكمن في عدم فهم قيمة الدور المحلي للمجالس البلدية.
ومن المبادرات المهمة التي قامت بها البلديات في منطقة الجبل (الغرب) تكوين “تأسيسية الجبل”، وبعدها “تأسيسية سبها” (الجنوب)، ومن ثم تأسس اتحاد بلديات ليبيا، الذي كان على رأسه فرج عبان، عميد جنزور. كما ظهرت أيضا “روابط بلديات ليبيا”، ولفت عبان إلى أن “الجسميْن حاولا تنسيق جهودهما، لكنهما أخفقا”.
.. وحكومات فعلية
مع ذلك، مثلت البلديات على الصعيد العملي حكومات فعلية، بحسب عميد تاجوراء (الغرب) حسين محمد بن عطية. وكشف بن عطية أن البلديات قامت بمبادرات عديدة لإعادة المهجرين والمُبعدين إلى ديارهم ومناطقهم من أجل تكريس لم الشمل. وقال لـ swissinfo.ch: “إن المهمة الأولى التي اضطلعت بها البلديات تمثلت في الوساطة لفض النزاعات، سواء داخل المنطقة البلدية أم بين البلديات”. وعزا الإستقرار الأمني النسبي إلى دور الوساطة هذا، مع التأكيد على أنه تم بالتضافر مع مجالس الحكماء والأعيان.
أما مصطفى الباروني، عميد بلدية الزنتان (الغرب) فرأى أن البلديات تنقصها الصلاحيات والإمكانات، ومع ذلك حققت مصالحات كثيرة من رأس جدير في أقصى الغرب إلى طبرق في أقصى الشرق، واليوم لم يعد هناك أمل إذ أصبحت الآفاق مسدودة أمام الشباب. واعتبر الباروني، الذي كان عضوا في مجلس الشورى من 2011 إلى 2013، أن استكمال المصالحات هو بوابة الإستقرار في ليبيا، وأن مفتاح الحلول يكمُن في التنمية، لأن المسلحين سيتركون سلاحهم إذا ما وجدوا لهم مكانا في مشاريع تنموية حقيقية.
بعض المتحدثين في “منتدى ليبيا الدولي للسلام” كانوا أكثر صراحة وأبعد جرأة في توصيفهم للواقع الراهن، إذ اعتبروا أن الثقافة الليبية السائدة مختلفة عن غيرها “لأنها تعتمد على خطاب الكراهية والحقد والتخوين”. وضربوا أمثلة على ذلك من أعمال لجان المصالحة التي تجتهد على مدى أيام لفض خلاف، “ثم تُفاجأ في ليلة واحدة بأحدهم يهدم كل ما بنتهُ بتصريح على إحدى القنوات التليفزيونية، بدعوى حرية التعبير” كما قالوا.
من هنا، شدد كثير من المتحدثين على ضرورة تحلي وسائل الإعلام بالمسؤولية، مُتهمين إياها بالمساهمة في تأجيج العواطف وبث الأحقاد ونكء الجراح القديمة. على هذا الأساس، ركز عميد بلدية الزنتان مصطفى الباروني على أهمية التوعية ونشر ثقافة السلام، وخاصة بين أبناء الأجيال الجديدة. ولاحظ الباروني أن بلدية الزنتان “حققت عدة مصالحات أدت إلى تكريس الإستقرار، لكن العناد والثأرات القديمة قوضت تلك الجهود وأجّجت الصراعات مجددا” على ما قال. وحث الباروني على “إقناع الشباب بالتخلي عن الأحقاد والتنابز بالألقاب، بدل أن يجتهدوا في قتل بعضهم البعض”. وأفاد أن المجلس البلدي قام بمبادرة في هذا الإتجاه، إذ جمع عشرين شابا من الإعلاميين والشبان الناشطين على مواقع التواصل الإجتماعي، وتمنى على الإتحاد الأوروبي أن يدعم هذه المبادرة لمحاربة الفكر الهدام ونشر ثقافة الحوار والعيش المشترك.
انتخابات وشيكة؟
يتساءل الليبيون عن مصير الإنتخابات البلدية المقررة نظريا للعام المقبل، إذ ستنتهي شرعية المجالس الحالية مع أواخر السنة الجارية، لكن لم يتم قطع أية خطوة للتمهيد للإقتراع، وسط تركيز كامل على تعديل اتفاق الصخيرات، تمهيدا للتفاهم على فحواه، ومن ثم إجراء استفتاء على مشروع الدستور الجديد.
في الأثناء، طلبت أطراف عدة التمديد للمجالس البلدية الحالية سنة أخرى، باعتبارها الهيكل الشرعي الوحيد حاليا في ليبيا، إلا أن غالبية العُمداء وأعضاء المجالس البلدية يرفضون هذا الخيار، وبخاصة في ظل تداخل الإختصاصات بين الدولة والبلدية.
“اتركونا وشأننا”
من جهتها، انتقدت هناء خضورة، عضو المجلس البلدي بمصراتة (الغرب) صُناع القرار في ليبيا، متهمة إياهم بكونهم غير مقتنعين بدور الحكم المحلي. وقالت: “إن البلديات تُحاسب على النظافة وتوزيع الماء الصالح للشرب، بينما هما من صلاحيات شركتين تابعتين للحكومة، وحتى الحرس البلدي لا يتبع المجالس البلدية، وهذا دليل على الرغبة في قتل الحكم المحلي، متناسين أن تدمير السلطة المحلية يقضي على كل المكاسب”. وأضافت “يقولون لو يتركوننا لكنا قادرين على حل مشاكلنا بأنفسنا، لكن هذا غير صحيح”. ومضت شارحة “أذكر أن هناك جلسة حوار للبلديات الليبية في جينيف عام 2015، وكنا في ذلك الوقت لا نستطيع الجلوس وجها لوجه حول مائدة واحدة لنتحاور، وبفضل الوساطة السويسرية جلسنا وتحاورنا، وهذه أمور يتناساها كثيرون”.
فرج عبان تحدث في نفس الإتجاه حاثا المجتمع الدولي على “تقديم الدعم مباشرة للبلديات”. أما عميد بلدية نالوت (الغرب) خالد العزابي فرد على من يعزُون ظواهر العنف والقتل والثأر في ليبيا إلى كثرة الأسلحة، قائلا “انظروا إلى سويسرا حيث توجد كميات أكبر من الأسلحة، لكن المشاكل بدأت في ليبيا مع شروع مجلس الوزراء في دفع رواتب للمسلحين، وهكذا صاروا متعودين على كل الممارسات والعادات السيئة”.
في الأخير، ختم عبان بجملة بليغة تختزل الوضع الراهن في ليبيا بقوله: “نحن نصنع مجرمين من أبنائنا ولذلك نحتاج إلى خطط وبرامج لإنقاذهم”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.