لماذا تخشى السعودية من الملكية الدستورية؟
هل هو سؤال برئ؟ ليس تماماً. فالاستفسار، بما يستدعيه من أحكام وآليات رقابة، ليس قصراً على السعودية بل يحق طرحه أيضاً على كل دولة عربية، ملكية كانت أم جمهورية.
لكن، لأن ثلاثة من المعارضين السعوديين يقفون هذه الأيام في قفص الاتهام بتهم عدة، من بينها المطالبة بإقامة الملكية الدستورية، كان مشروعا طرح السؤال، والبحث عن إجابة له.
المملكة العربية السعودية هي الدولة الوحيدة في المعمورة التي تحمل اسم عائلة مؤسسها. أطلق عليها هذا الاسم الملك عبد العزيز بن سعود عند إعلانه قيام المملكة رسمياً عام 1932.
قبل ذلك، وبالتحديد بعد عام 1925 – وهو تاريخ سقوط الحجاز وهزيمة الشريف حسين وابنه علي واستسلام الإقليم لقوات ابن سعود بعد حصار لمدنه الرئيسية دام عاماً كاملاً – كانت تسمى “مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها”.
وفي االفترة السابقة لذلك، كانت تحمل اسم “سلطنة نجد وملحقاتها”. أما ملحقاتها تلك فقد ضمت فيما قبل ومن بعد، الإحساء والقطيف (1913) وإمارة عسير (وقعت على اتفاقية مع ابن عبد العزيز عام 1927، وضمها عسكرياً عام 1932).
هذا ولم يطلق عليها الملك المنتصر أسم عائلته إلا بعد أن كسر شوكة “جيش الأخوان” في عام 1929، وهم الذين كان لهم الفضل في تحقيق انتصاراته العسكرية.
وعندما فعل ذلك، كان ذلك تعبيراً عن تصميمٍ على إعلاء الطابع السلالي للمملكة وسيطرة العائلة فيها على مقادير الأمور في مقابل أساسها الديني وممثليها من العلماء. كما كان أيضاً مؤشراً على رغبة في إخفاء الهوية المناطقية لأجزاء المملكة، والتي كانت ولازالت مصدراً للحساسيات بين أبناء المملكة.
لكن الأهم من كل ذلك، كان تغيير أسمها يعكس قناعة راسخة لدى المؤسس الأول بأن المملكة وما فيها هي “ملكٌ” له.
“المملكة هي أنا”؟
هذه القناعة يمكن الجزم بها من خلال الإطلاع على ما ورد في التقارير السنوية لوزارة الخارجية البريطانية عن الأوضاع المالية في المملكة العربية السعودية خلال فترة حكم الملك عبد العزيز ابن سعود.
على سبيل المثال، يورد تقرير عام 1938 (يُراجع التقرير السنوي FO 371/24589) الفقرة التالية: “من الناحية المالية كان من المفروض أن يتحسن وضع الملك بعد الامتياز النفطي الجديد، وقرض المليون دولار الذي منحه إياه أصحاب الامتياز الأمريكيون. لكن تبذير العائلة لازال شديداً على نحو خاص إلى درجة أن الأوضاع المالية للبلاد، في الإطار الذي يمكن التحقق منه لاسيما في ظل الغياب الكامل لأي حسابات منشورة، تبقى في حالة فوضى” (انتهى الإقتباس).
بكلمات أخرى، وكما يشير الباحثان بيتر ويلسون ودوجلاس جراهام في كتابهما “المملكة السعودية: العاصفة المقبلة”، الذي صدر في نيويورك عام 1994، كانت الطريقة التي تصرف بها الملك عبد العزيز مع ميزانية المملكة، وإلى المدى الذي لم يكن هناك “أي تمييز بين ميزانية الدولة وميزانيته الشخصية”، تشير إلى إيمانه بأنها تدخل في حيازته الخاصة.
“انتقاد السلطة السياسية… تهمة”!
تلك الوقفة مع الماضي كانت ضرورية للتمهيد إلى السؤال المطروح: “لم تخشى المملكة العربية السعودية من الملكية الدستورية؟”.
خرج هذا السؤال إلى العلن بعد أن تقدم أكثر من 116 شخصاً من المثقفين والأكاديميين بعريضة إلى القيادة السعودية في منتصف شهر ديسمبر من عام 2003، طالبوا فيها بـ”إصلاحات سياسية شاملة تنطلق من المطالبة بالدستور ومن إعلان الملكية الدستورية”.
وجاء رد القيادة، أو على الأقل شريحة من العائلة السعودية، في شهر مارس من عام 2004، عندما ألقي القبض على 13 شخصا من الموقعين على البيان، وأُدخلوا إلى المعتقل، وُجوبهوا بخيار وحيد: إما التعهد بعدم التوقيع على عرائض تطالب بالإصلاح وإعلانها على الملأ، أو المكوث في السجن.
وافق الجميع، وخرجوا من المعتقل، إلا ثلاثة هم الأديب عبد الله الحامد والدكتور متروك الفالح والشاعر علي الدميني. هؤلاء يقفون اليوم أمام المحكمة بتهمة تبدو غريبة لأي إنسان يعيش في مجتمع ديمقراطي حـر وهي تهمة “انتقاد السلطة السياسية”!
هذه هي الخلفية التي دفعت بالسؤال إلى الساحة وفرضته بقوة على النقاش، أما تحديد ملامح إجابة له فهي تدخل مباشرة في صميم علاقة العائلة المالكة السعودية بالدولة، تلك العلاقة التي تشكلت في إطار يعكس جوهراً قناعة مؤسسها، السابق ذكرها: المملكة وما فيها ملك للعائلة.
“شركة عائلية”؟
في عددها الصادر يوم 18 نوفمبر 1995، لم تجد مجلة ذي إيكونوميست The Economist البريطانية الرصينة عبارة تصف بها المملكة العربية السعودية سوى القول إنها “شركة عائلية”.
وصفتها هكذا لأن الوصف ينطبق على الواقع. فالعائلة المالكة السعودية تنفرد بوضعية متميزة في المجتمع السعودي، استطاعت من خلالها السيطرة على مقاليد الأمور السياسية والاقتصادية على حد سواء.
يكفي النظر إلى سيطرتها على الهيكل السياسي للدولة: الملك هو رئيس الوزراء؛ أبناء وأحفاد الملك عبد العزيز يتولون أهم الحقائب الوزارية في الحكومة ومناصب النيابة في تلك الوزارات؛ رئاسة المؤسسات الأمنية ونيابتها إضافة إلى إمارات المناطق ألثلاثة عشر حكر خاص عليهم.
لكن نطاق السيطرة يتعدى الجانب السياسي ليتحول إلى الحيز الاقتصادي، سواء في مجال الأعمال الذي أصبحوا ينافسون فيه العائلات التجارية الحجازية المعروفة، أو توزيع المناقصات والعمولات المتصلة بها، أو ملكية مناطق شاسعة من أراضي المملكة والمضاربة بها، أو أموال النفط التي يتم اقتطاع نسبة منها تزيد أو تنقص لتدخل مباشرة إلى ميزانية الملك والعائلة.
الماضي إذن لا يعيد نفسه، بل الماضي ممثلاً في الملك عبد العزيز لازال قائماً في الحاضر، بنفس تصوراته والقناعات التي تأسس عليها. حتى في مجال الإسراف والتبذير لم يتغير الكثير أيضا.
ففي حديث مع سويس إنفو (أقرأ نص الحديث كاملاً) لفتت الدكتورة مي يماني الأستاذة السعودية بالمعهد الملكي للعلاقات الدولية في لندن إلى ممارسات الإسراف والتبذير للأمراء قائلة: “هذا الصيف مع الأسف سافرت عدة مرات، وزرت فيها أماكن، شاهدت فيها البذخ والاستهلاك المنافي للذوق السليم، ويصرفون ويصرفون..”.
وتكمل قائلة “الأمراء يؤجرون اليخوت والطائرات، والطائرات تسافر إلى البلد كي تنقل حليب الناقة للأمير سلطان، وهم لا يفعلون ذلك خفية، بل يفعلونه بصورة ظاهرة وبينة ومفرطة”.
“الملكية الدستورية” مشكلة!
لا غرابة والحال كذلك أن ترفض العائلة المالكة، بغض النظر عن توجهات تياراتها المتعددة، اقتراح إنشاء نظام “ملكي دستوري”. فذلك سقف لا يمكن تجاوزه. إذ به ستتعرى الوقائع، وتؤسس آليات، يصبح معها من الصعب استمرار الحال على ما هو عليه.
كتب الدكتور متروك الفالح، أحد المتهمين الإصلاحيين الماثلين أمام المحكمة في السعودية، في مقال له بعنوان “الملكية الدستورية: إقصاء أم إعادة تأسيس”، نشرته جريدة القدس العربي الندنية في 19 أغسطس 2004، بأن الدعوة إلى إنشاء هذا النظام “لا تعني البتة إقصاء آل سعود عن الحكم”.
فهي دعوة إلى إنشاء “عقد اجتماعي جديد، يقنن العلاقة الملزمة بين السلطة والمجتمع، الشعب، الأمة، بحيث تحدد الحقوق والواجبات والحريات، وكذلك يصبح المواطن جزءاً أصيلاً داخل العملية السياسية وليس خارجاً عنها” مثلما جاء في نص المقال.
ويكمل قائلاً إنه “لا عدل بكافة المجالات بدون شورى(،) ولا شورى ملزمة دون أن تكون منتخبة شعبياً ودورياً وبسلطات رقابية ومحاسبة على المال وسياسات الحكومة (..)، ولا سلطات رقابية ومحاسبية بدون دستور مصوت عليه شعبياً ومتضمناً لتلك العناصر(،) وتلتزم الدولة به باعتباره عقدا اجتماعياً لا يجوز ابداً الإخلال به”.
لعل الدكتور الفالح يؤمن فعلاً بأنه دعوته ليست مرادفة للدعوة إلى إقصاء العائلة السعودية المالكة. لكن المشكلة لا تتعلق بذلك في الجوهر بل تتصل في اللب والقالب بمسألة تقنين العلاقة بين العائلة والدولة، ووضع آليات رقابية على تصرفاتها. فمن أعتاد على السلطة مطلقة، بلا حسيب أو رقيب، يصعب عليه أن يضع عليها قيودا وضوابط .. وبمحض إرادته.
الحال من بعضه!
إذن، لماذا تخشى المملكة العربية السعودية من الملكية الدستورية؟ نطرح السؤال للمرة الأخيرة على الدكتورة مي يماني التي جاء ردها بسيطاً ومباشراً: “لأن العائلة المالكة لا تريد أن يشاركها أحدٌ في السلطة”.
جواب لا جدال حوله، تشهد عليه معطيات الواقع وحقائق ما يدور فيه. لكن للأمانة، فإن آل سعود لا ينفردون بتلك الرغبة. تشاركهم فيها الأغلبية الساحقة من النخب السياسية الحاكمة في البلدان العربية، التي تأخذ الكثير، ولا تعطي سوى القليل، وعندما تأخذ، تقتنع جازمة أن ما أخذته أصبح حقاً مكتسباً لها، لا مجال لأن يُنازعها فيه أحد.
وفقا للنظام الأساسي للحكم في المملكة السعودية:
– يكون الحكم في أبناء الملك المؤسس عبد العزيز
– يختار الملك ولي العهد، ويعفيه بأمر ملكي.
– تتكون السلطات في الدولة من: السلطة القضائية؛ السلطة التنفيذية؛ السلطة التنظيمية.
– تتعاون هذه السلطات في أداء وظائفها وفقاً لهذا النظام وغيره من الأنظمة، والملك هو مرجع هذه السلطات.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.