سويسرا بالكاد تحرز تقدّمًا… ما الذي يعيق تحرّرَ المساعدات الإنمائية من الطابع الاستعماري؟
يتفق المجتمع الدولي على وجوب تقديم المساعدات الإنمائية بشكل أكبر من قبل المؤسسات المحلية. ومع ذلك، فإن هذا التحوّل يتقدّم ببطء شديد، بما في ذلك في سويسرا . فلمَ ذلك؟
بعد غزو روسيا لأوكرانيا في عام 2022، تكرّر وضعٌ بات معروفا في مجال المساعدات الإنمائية: لم تكن العديد من المنظمات الدولية مستعدة، وواجه الكثير منها صعوبات في التعامل مع الوضع الطارئ والمأساوي. أمّا على على الجانب الآخر، فقد تحرّك المجتمع المدني بسرعة وبقوّة، حيث نجح في جمع التمويل، من خارج الهياكل الرسمية، ومن خلال المؤسسات الكنسية والمتبرعين.ات الخواص تحديدا.
وتستمر المنظمات الأوكرانية حتى الآن في تقديم جزء كبير من المساعدات، خاصة في المناطق النائية التي يصعب الوصول إليها. وفي منتصف نوفمبر 2023، سجّل مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (UNOCHA) 7 مليار دولار من المساعدات الانسانية المخصصة لأوكرانيا من قبل المؤسسات الدولية، وولكن لم يتجاوز ما كان موجّها منها إلى المنظمات الأهلية المحلية ما نسبته 0.8%رابط خارجي.
وتبقى هذه الأرقام بعيدة جدا عن الالتزامات المنصوص عليها في”التوافق الكبير” الذي تم التوصّل إليه في عام 2016. فخلال قمة الأمم المتحدة العالمية حول العمل الإنساني التي استضافتها اسطنبول حينها، اتفقت الدول المانحة ووكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية على ضرورة إشراك البلدان المستفيدة من المساعدات بشكل أكبر في التدابير الإنسانية تخطيطا وتنفيذا.
في تلك القمة، تمّ الاتفاق على تخصيص 25% من جميع الأموال المرصودة للمساعدات إلى المنظمات الوطنية المحلية. ولكن ذلك الهدف ظلّ حبرا على ورق حتى الآن.
وتصدر انتقادات بشكل متزايد من البلدان التي توجّه إليها المساعدات. فبعد ستة أشهر من الهجوم الروسي على أوكرانيا، توجهت العديد من منظمات المجتمع المدني في أوكرانيا برسالة مفتوحةرابط خارجي إلى المجموعة الدولية بعنوان “إلى جميع الذين واللواتي يرغبون.ن حقا في مساعدة أوكرانيا”.
تضمّنت الرسالة مجموعة من الاقتراحات لتحقيق ذلك، مثل التخفيف من البيروقراطية والتزام متطلبات الحياد، على سبيل المثال. ومما جاء في هذه الرسالة أيضا: “ليس لدينا الاستعداد لتحمّل ملء الطلبات والقيام بتقييمات التأثير حتى تاريخ معيّن” أو أيضا “يجب السماح للجهات الفاعلة المحلية بتحديد نهجها وأولوياتها الخاصة وعدم منعها من العمل فقط لأن الجهات المانحة الدولية ترى بأنها غير محايدة”.
سويسرا بالكاد تحرز تقدّما
في العام الماضي، لم يخصّص سوى 5% من ميزانية المساعدات الإنسانية السويسرية مباشرة إلى المنظمات المحلية. ووفقا لباسكال ريتشارد، مسؤول قسم الشؤون الإنسانية الدولية في الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون، فإن الأسباب الداعية لتعزيز ما يعرف بتفعيل التوطين كثيرة: “فهذه المنظمات تعرف الوضع الميداني بشكل أفضل، وغالبا ما يتيح لها الوصول بطرق أيسر إلى الأشخاص الذين واللواتي يحتاجون.ن المساعدة، وتظل حاضرة إلى جانبهم.ن لفترة طويلة بعض الكوارث التي تلمّ بهم.ن. كما أنّها تخفف من أعباء عملنا، لأن الموارد تكون غير كافية على المستوى الدولي لتلبية الاحتياجات في جميع أنحاء العالم”.
ما يبدو للوهلة الأولى بسيطا، فإن التقدّم في إنجازه يكون بطيئا. ويعترف باسكال ريتشارد بأنه “أثناء الأزمات الإنسانية الحادة، عادة ما يكون أيسرَ اللجوءُ إلى التعاون مع المنظمات الدولية التي لها تجارب راسخة في الميدان”. ومع ذلك، فإن من واجب الوكالة السويسرة للتنمية والتعاون ضمان أخذ الجهات الفاعلة المحلية في الاعتبار أكثر كجهات شريكة تنفيذية. وحتى لو لم يكن ذلك ممكنا الآن، فإنه يجب وضع خطط عملية لتحقيق ذلك في المستقبل”.
وفي هذا السياق، يستشهد الخبير بمثال نموذجي من ميانمار، حيث تعاون القسم الإنساني من الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون لأوّل مرة في عام 2022 مع مزيد من الجهات الشريكة المحلية وكذلك الدولية. فضلا عن ذلك، تلتزم سويسرا، من خلال ممارسة نوع من التأثير الهادف، إلى دفع مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (UNOCHA) لضمان تخصيص 50% من ميزانيته في المستقبل للجهات الفاعلة المحلية العاملة في الميدان.
واجب الخضوع للمساءلة
لكنّ هذا المسعى يصطدم بمشكلة: ففي بعض الأحيان، يكون من الصعب تخفيف آليات المحاسبة والمراقبة في وقت تكون فيه “الجهات المانحة الكبيرة حريصة على تلقي تقارير حول استخدام أموالها”، كما يلاحظ بينوا ماير-بيش، من قسم السلام والحوكمة والمساواة التابع للوكالة السويسرية للتنمية والتعاون.
بالإضافة إلى ذلك، تعمل الوكالة السويسرية بشكل متزايد من أجل تعزيز قدرات الجهات الفاعلة المحلية: إذ ترافقها خلال تنمية هياكلها بشكل مستقلّ، وكذلك خلال إدارتها للمشاريع. ويقول بينوا ماير-بيش: “تسمح المهارات المكتسبة للمنظمات غير الحكومية المحلية بالوصول بسهولة أكبر إلى تمويلات من جهات مانحة أخرى”.
ويبدو تحقيق التمويل المحلّي في التعاون الإنمائي أيسر منه في مجال الإغاثة الإنسانية. وعند مراعاة الإجراءات التي تقوم بها الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون على الأرض في المجال الإنمائي، نجد أنها تخصّص 16% من الميزانية الإجمالية مباشرة للجهات الشريكة المحلية. ولكن على هذا المستوى أيضا، تظل هناك فرص كثيرة لفعل المزيد. ويمكن أن نقرأ في مشروع الاستراتيجية الجديدة للتعاون الدولي 2025- 2028، أن التنفيذ “يجب أن يتم قدر الإمكان عن طريق الجهات الفاعلة المحلية”… صياغة لا توحي بوجود تغيير جذري للنظام القائم في الأفق.
ووفقا لكل من بينوا ماير-بيش وباسكال ريتشارد، تُبدي الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون انشغالا منذ وقت طويل بتوطين المساعدات، ولكن “نحن نرغب، ولكن علينا أن نفعل ذلك بأكثر وضوح في المستقبل”. وفي هذا الإطار قامت الوكالة مؤخرا بإنشاء مجموعة عمل داخلية لتعزيز هذا التوجّه.
كيف يمكن توطين المساعدات؟
يشير حافظ دربال، منسّق برنامج “أرض البشر- سويسرا” (Terres des Hommes Suisse) في زيمبابوي وجنوب أفريقيا وموزنبيق، والمسؤول عن الصحة والحقوق الجنسية، إلى أن توطين المساعدات لا يعني العمل فقط مع الجهات المحلية. ويشرح بالقول إنه “إذا فكّرنا بشكل متناسق، فإنّ هذه العملية تقتضي تحدّي هياكل السلطة الحالية ونقل سلطة صنع القرار من شمال الكرة الأرضية إلى جنوبها”.
وينبغي على البلدان المانحة طرح أسئلة حاسمة في مجالات عديدة: من السيادة المالية إلى تخطيط البرامج مرورًا بتطهير صفوفها من العنصرية. وفي السنوات الأخيرة، كثفت المنظمات غير الحكومية السويسرية النقاش حول التنفيذ الدقيق لهذه التدابير. وكان الشعار هو “إنهاء الطابع الاستعماري في المساعدات الإنمائية”. وبحسب حافظ دربال، فإن الأمر يتلخّص في النهاية في “التشكيك في أنماط الفكر الإستعماري التي لاتزال متجذّرة بعمق في هياكلنا أحيانا”.
المزيد
متى تتحرر المساعدة الإنسانية من الطابع الإستعماري؟
في شهر أبريل 2023، قطعت منظمة “أرض البشر- سويسرا” خطوة في هذا الاتجاه: فقد تم تعيين السيد تايسون موداريكيري، المنسق الوطني السابق لكل من زيمبابوي وجنوب أفريقيا، منسّقًا مشاركًا لبرنامج جنوب أفريقيا وزيمبابوي وموزنبيق، وهو الآن المسؤول عن وضع البرامج في هذه المناطق.
وأوضح حافظ دربال أن موداريكيري يقدّم للإدارة تغذية راجعة فقط عند الضرورة. وهذا التخفيف في الإجراءات مفيد للطرفيْن: “فحتى الآن، كمدير تنفيذي، كان عليّ أن أوافق على كل شيء، على الرغم من أنه كان يعرف الواقع الميداني أفضل منّي بكثير”.
واتخذت المنظمة أيضا خطوات أخرى لنقل صلاحيات اتخاذ القرار إلى الجهات الشريكة في بلدان أخرى. وهكذا أصبح هذه الأطراف المحلية هي التي تنظّم الاجتماع السنوي وتشارك في تحديد الأولويات المتعلقة بمحاور العمل في الاستراتيجية الجديدة . ومن خلال منصة “يوث سبيك” ( Youth Speak)، أي الكلمة للشباب، تمنح منظمة “أرض البشر- سويسرا”، للشباب، الفئة الرئيسية التي تتوجه إليها المنظمة، القدرةَ على التأثير، بما في ذلك على محتوى البرامج أيضا.
من جهته، يرحّب تايسون موداريكيري بمنصبه الجديد: “أشعر بالتقدير، ويسعدني أن أكون قادرًا على القيام بنفس العمل مثل المتعاونين والمتعاونات من الشمال العالمي». لكنّ منصبه كمدير مشارك ليس سوى جزء واحد من اللغز، كما يقول، “فمقرّ المنظمة في سويسرا، وما زلت ممثلاً لمواقفها واستراتيجيتها”.
ووفقًا له، فإنه من الضروري التصرف على مستوى الجهات المانحة، حيث إن “المال دائمًا ما يكون مرادفًا لاختلال توازن القوة. وما دامت الجهات المانحة لا تقدّم أموالاً إلا بشروط معينة، فإن هذا الخلل سيستمرّ”. ويقول إن منح الشركاء والشريكات مزيدًا من الحرية لتحديد مكان وكيفية استخدام الموارد سيكون إشارة إيجابية.
يشير حافظ دربال بدوره إلى نفس الإجراء، مبيّنا أن دوره في السنوات المقبلة سيشمل زيادة الوعي بين الجهات المانحة حول هذا الموضوع. وهذا يعني أيضًا الابتعاد عن اللغة البصرية الاستعمارية، حيث يؤكّج بالقول: “نحن نعمل مع فاعلين وفاعلات للتغيير، وليس مع ضحايا”»، يشدد.”.
تحرير: مارك لونتنيغر
ترجمة: عبد الحفيظ العبدلي
مراجعة: أمل المكي
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.