مبدأ الولاية القضائية الدولية يولد من جديد… ماذا يعني هذا للعالم؟
يسعى مبدأ الولاية القضائية الدولية، إلى متابعة الجرائم الفادحة في جميع أنحاء العالم. لكنّ تأثيره قد بدأ يُلحظ للتوّ فقط في سويسرا، رغم أنّه قد نشأ بعد الحرب العالمية الثانية. فما الأسباب، وما هي تبعات ذلك؟
تم نشر هذا المحتوى على
13دقائق
Flavia von Gunten
English
en
What does the renaissance of universal jurisdiction mean for global justice?
تشترط سويسرا وجود ارتباط لملاحقة إحدى الجرائم وإحالتها على القضاء؛ فإما أن تقع الجريمة في سويسرا، أو تكون في علاقة بالجنسيّة السويسريّة، فاعلا أو مفعولا.
لكن يخالف مبدأ الولاية القضائية الدولية هذه القاعدة. فيخوّل الملاحقة القضائيّة لجميع الدول، عند وقوع جريمة خطيرة، حتى وإن لم يتوفر هذان الشرطان. فيسعى المجتمع الدوليّ برمّته إلى متابعة الجرائم بالغة الخطورة، وبالتالي تشمل الولاية القضائية الدولية جرائم الحرب، والإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، والتعذيب.
وازداد في الآونة الأخيرة، عدد القضايا المرفوعة أمام المحاكم وفق مبدأ الولاية القضائية الدولية، خاصةً في سويسرا. وفي ما يلي، إجابة عن أهم الأسئلة المتعلّقة بالموضوع.
كيف نشأ مبدأ الولاية القضائية الدولية؟
نشأ مبدأ الولاية القضائيّة الدوليّة، بعد الحرب العالمية الثانية، عام 1949. وقد نصَّت عليه في البداية، اتفاقية جنيف. ثمّ تضمّنته بعد ذلك، اتفاقيات القانون الدولي المبرمة لاحقاً، مثل اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب.
لكن لم تطبق الدول مبدأ الولاية القضائية الدولية، إلا منذ تسعينيات القرن الماضي. فتقول آنا بيتريج، أستاذة القانون الدولي، والقانون العام في جامعة بازل: “فقد القانون الدوليّ زخمه بعد محاكمات نورمبرغ، وطوكيو في الأربعينيات”. وقد أدت الحرب الباردة وانقسام العالم إلى معسكرين، إلى تطور القوانين الدولية، بما فيها القانون الجنائيّ، لكن عُرقِلت إلى درجة شلّ عمل المؤسسات الدولية.
ولم يحتدم النقاش الدوليّ حول تطوّر القانون، إلا بعد سقوط الستار الحديدي، بتفكّك الاتحاد السوفياتي، وانهيار حلف وارسو. وقد وُضعت من قبل مبادئ علميّة، وسياسيّة مختلفة، كما ازداد عدد الدول التي أدرجت في قانونها الجنائيّ، مبدأ الولاية القضائية الدولية باطّراد، ليُصبح ضروريا في تنفيذ الإجراءات أمام المحاكم المحلية.
ثمّ حانت اللحظة الفارقة، بعد الدعوى التي رفعتها إسبانيا ضد ديكتاتور تشيلي أوغستو بينوشيه عام 1998، وكانت أول قضية تُرفع، استناداً إلى مبدأ الولاية القضائية الدولية. ومثلت بذلك نموذجاً للدول الأخرى، كما تزايدت بموجبها الضغوط، لمحاسبة أي من الأطراف المتورِّطة في جرائم القانون الدولي، وفق المسؤولية الجنائية.
لماذا يتزايد عدد القضايا المرفوعة وفق مبدأ الولاية القضائية الدولية؟
وشهدت سويسرا بدورها، تطوراً مماثلاً. فتقول أنَّا بيتريج: “لم تشهد القوانين في هذا الصدد، نشاطا كافيا، لمدّة طويلة من الزمن. لكن تغير الوضع منذ عام 2021، عندما شهدت المحكمة الدستورية الفدرالية في بلينزونا لأوّل مرّة، إدانة وفق مبدأ الولاية القضائية الدولية. إذ أدانت المحكمة آنذاك، القائد الليبيري أليو كوسيا، بسبب ارتكابه جرائم ضدّ الإنسانية.”
وأدانت المحكمة الدستورية الفدرالية في مايو من العام الجاري، وزير داخلية غامبيا السابق عثمان سونكو، لارتكابه جرائم عديدة ضدّ الإنسانية، فأصدرت في حقه حكماً بالسجن مدة عشرين عاماً.
وقد ساهمت تلك الأحكام في “التطبيع” مع مبدأ الولاية القضائيّة الدوليّة، إذ تقول أنًّا بيتريج: “فكلما ازداد عدد الدول التي تجري مثل هذه المحاكمات، كلما أصبح هذا المبدأ أكثر قبولاً واعتياداً”. فقد استحدثت دول كثيرة وحدات متخصّصة، في تولّي القضايا المرتبطة بانتهاكات القانون الدولي، وإدانتها.
ما هو الدور الذي تقوم به منظمات المجتمع المدني؟
ترى أنّا بيتريج أنّ ازدياد عدد تلك الدعاوى، مرتبط بتبليغ منظّمات المجتمع المدنيّ، السلطات عن ارتكاب الجرائم. وتعدّ منظمة “ترايل إنترناشيونال” رابط خارجي(Trial International) غير الحكومية، إحدى هذه المنظمات الرائدة في هذا المجال عالميّا. وتأسست عام 2002 في جنيف، لتحول دون إفلات منتهكي القانون الدولي من العقاب.
يعتبر مبدأ الولاية القضائية الدولية، عنصراً محورياً في التزامات منظمة ترايل إنترناشيونال، التي رفعت استنادا إليه، دعاوى عديدة في كل من سويسرا، وفرنسا ودول أخرى في كل أنحاء العالم. وتمتلك قاعدة بيانات، تضم قضايا بُتَّ فيها، وأخرى ما تزال مرفوعة أمام المحاكم. كما تنشر هذه المنظمة تقريراً سنوياً، وترفع فضلاً عن ذلك دعاوى جنائية.فتعود قضية عثمان سونكو مثلا، إلى بلاغ تقدمت هي به.
ويصرّح بينوا ميستر، المستشار القانوني بمنّظمة ترايل إنترناشيونال، قائلا: “نبلّغ بفضل الشبكة، عمّا يدعو إلى الاشتباه في سويسرا، أو في غيرها. وتوجد على موقعنا أيضا،استمارةرابط خارجي تمكّن كلّا من الضحايا أو الشهود من الجنسين، من التواصل معنا مباشرةً. كما أننا نُجري بعض التحريات بأنفسنا”.
ويمكن للمنظّمة، أن تكتفي بتحرير بلاغ فقط، إذا ما كان موضوع الاتّهام من داخل سويسرا، إذ لا يمكن للسلطات فتح تحقيق إلّا في هذه الحال. لذلك يقرّ بينوا ميستر بتواتر تحرّي منظمات المجتمع المدني، عن وجود بعض المتّهمين أو المتّهمات داخل البلاد، من عدمه، من خلال مشاركة البعض في أحد المؤتمرات، أو حضور موعد في أحد البنوك مثلا، نظرا لاتّخاذ كثير من المنظمات الدولية سويسرا، مقراً لها.
ما هي أهمية الدعاوى القضائية سياسياً؟
ترى أنّا بيتريج أن فتح السلطات تحقيقا فعليا، ومدى جديتها في متابعته، “يتوقّف على موطن المتّهم أو المتّهمة الأصلي، خشيةً من حدوث تصدعات، أو توترات في العلاقات الدبلوماسية”.
فتتعمّد بعضُ الدول حمايةَ أخرى. فيسافر الرئيس الروسي فلاديمير بوتن مثلاً، إلى الخارج، رغم صدور مذكرة اعتقال بحقه، لما ارتكبه من جرائم الحرب. إلا أنه لا يسافر إلا إلى الدول حليفة روسيا، التي لا يتوقّع اعتقاله فيها.
ويرى بينوا ميستر من ناحية أخرى، أنّ لطاقم العمل في إحدى السلطات، تأثير في مدى سرعة التحقيق وشموليّته؛ وفعلا، يمكن ملاحظة “التطوّر الإيجابيّ” منذ تولّي شتيفان بليتلر رئاسة النيابة الفدرالية، في يناير عام 2022. وقد صرّح أنه يعتبر القانون الدولي محورا أساسيا.
ما الذي يمكن لسويسرا تحسينه؟
رغم ذلك، يرى ميستر أن هناك فرصاً لتحسين الوضع في سويسرا، ويؤكّد أن الموارد القانونيّة المتعلّقة بالقانون الدولي في فرنسا، وألمانيا، وهولندا على سبيل المثال، أكثر منها بكثير. فيقول: ” تعتبر سويسرا متخلفة، مقارنة بهذه الدول”.
وترى أنَّا بيتريج، أنه لو توفر لسويسرا مزيداً من الإطارات البشرية المتخصصة، لاستغرقت التحقيقات وقتاً أقل، ولكانت أكثر كفاءة، فقد مضت على عدّة جرائم مُبلّغ عنها، عقود من الزمن. وقد يسبق الموتُ صدورَ الحكم القضائي فيها. من ذلك مثلا وزير الداخلية الجزائري السابق، خالد نزاررابط خارجي الذي وصلت الدعوى المرفوعة في حقه أمام المحاكم السويسرية، قبل إثني عشر عاما من بداية التحقيقات التي انطلقت تحديداً، في شهريْ يونيو، ويوليو من عام 2024، لكنّه تُوفّي في نهاية ديسمبر عام 2023، فأغلقت القضية.
واكتشف ميستر من جانبه، خللاً إضافياً في القضية المرفوعة ضد عثمان سونكو، بعد أن طالبت منظمة ترايل إنترناشيونال غير الحكومية، بترجمة إجراءات القضية برمتها إلى الإنجليزية، ولم تترجم المحكمة سوى الأجزاء الأساسية، فقال: “لم تكن الترجمة كافية، إلى درجة أنّه لم يفهم أي أحد من الأطراف ذات الصلة، ولا من الصحافيين [والصحفيات] شيئاً، في حين كانت كتابة تقارير صحافية حول القضية، هامّة جدّا”.
كيف سيتطور مبدأ الولاية القضائية الدولية مستقبلاً؟
تتوقع كل من أنَّا بيتريج وبينواه ميستر، تزايد تطبيق مبدأ العدالة الدولية مستقبلاً، ليشمل دعاوى ضد بعض الشركات، كما هو الحال في القضية المرفوعة ضد مُديرَيْن سابقَيْن بشركة لوندين النفطية مثلا، منذ عام 2023 في السويد. إذ اتُّهِمَ الرجلان بتمويل الجيش في الحرب الأهلية السودانية، في ما بين عامي 1997 و2003، لتهجير أهالي المناطق الغنية بالنفط، كي تتمكن شركة لوندين من القيام بأعمالها هناك. و مدير شركة لوندين التنفيذيّ السابق، أليكس شنايتر، هو مواطن سويسريّ.
ويتوقّع بينوا ميستر أن يشمل مبدأ الولاية القضائية الدولية، حماية البيئة تدريجياً. فهناك حالياً ثلاث قضايا مرفوعة من قِبَل منظمة ترايل إنترناشيونال في هذا المجال، تتعلّق بنهب الأخشاب، وغيرها من الموارد الطبيعية في مناطق الحروب.
إذن ينبئ تزايد الدعاوى، واتساع مجالات التطبيق، عن حيوية مبدأ الولاية القضائية الدولية، وملاحقة جرائمَ بموجب القانون الدولي، وترى بيتريج أنّها إشارة مهمّة، فتقول: “لا يمكن فتح صحيفة حاليا، دون القراءة عن الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي. ولكن سيحين أوان تحمّل مسؤوليّة هذه الانتهاكات، وإن بعد عقود”. فيمكن أن يمثّل مبدأ الولاية القضائيّة الدوليّة، نافذة على الأمل في تحقيق العدالة.
تحرير: مارتن لويتينغر
ترجمة: هالة فرّاج
تدقيق لغوي: لمياء الواد
مراجعة: ماجدة بوعزّة/ أم
المزيد
المزيد
نشرتنا الإخبارية المتخصصة في الشؤون الخارجية
سويسرا في عالم متغير. راقب معنا السياسة الخارجية السويسرية وتطوراتها. نقدم لكم حزمة من المقالات الدسمة لتتكون لديكم خلفية جيّدة حول المواضيع المتداولة.
آمال متزايدة في إمكانية تقديم مجرمي الحرب إلى المحكمة
تم نشر هذا المحتوى على
مع توقع إجراء أول محاكمة دولية لجرائم الحرب في سويسرا أمام محكمة غير عسكرية في الأشهر المقبلة، تقول منظمة " ترايال إنترناشيونال " TRIAL International السويسرية غير الحكومية أن حالات "الولاية القضائية العالمية" هذه في تزايد في جميع أنحاء العالم. وتقول إن سويسرا لديها العديد من القضايا الأخرى قيد الدرس والتحقيق، لكنها ما زالت بحاجة إلى زيادة وتيرة عملها في هذا المضمار.
نظراً لتداعيات أزمة فيروس كورونا، أُجلت المحاكمة التي طال انتظارها لزعيم المتمردين الليبيريين السابقين إليو كوشيا، والتي كان من المقرر إجراؤها مبدئياً أمام المحكمة الجنائية الفدرالية السويسرية في أبريل الحالي، ولكن ما زال من المتوقع أن تتم هذه المحاكمة في وقت لاحق من العام. وتأمل فاليري بوليت، رئيسة تحرير مجلة "ترايال السنوية بشأن الولاية القضائية العالمية" المنشورة يوم الاثنين الماضي، في أن تفتح المحاكمة حقبة جديدة في وحدة الجرائم الدولية في سويسرا في مكتب المدعي العام (OAG).
تقول فاليري بوليت لـ swissinfo.ch: "آمل أن تكون المحاكمة علنية وأن تحظى بتغطية إعلامية كبيرة لهذه القضية، كما آمل أن يكون ذلك حافزاً لوحدة الجرائم الدولية للمضي قدماً في التحقيق وإرسال لوائح الاتهام". وتضيف: "نحن بحاجة إلى الإقرار بأهمية ما آلت إليه الأمور بأن كوشيا سيخضع أخيراً، وبعد ست سنوات من الانتظار، للمحاكمة؛ لقد حان الوقت لذلك".
كوشيا، القائد السابق لحركة التحرير المتحدة من أجل الديمقراطية في ليبيريا (ULIMO)، متهم بارتكاب جرائم حرب خلال الحرب الأهلية الليبيرية الأولى بين عامي (1989-1996)، بما في ذلك أعمال عنف جنسي وقتل وأكل لحوم البشر وتجنيد الأطفال للقتال، وإجبار المدنيين على العمل في ظروف قاسية. وقد تم اعتقاله في سويسرا في نوفمبر 2014، وهو قيد الاحتجاز على ذمة التحقيق منذ ذلك الحين بانتظار المحاكمة، حيث قامت السلطات السويسرية بإجراء تحقيقات، بشأن الجرائم المنسوبة إليه.
وقد رفعت القضية منظمة سويسرية أخرى غير حكومية، هي "سيفيتاس ماكسيما" Civitas Maxima وذلك بالنيابة عن الضحايا الليبيريين، بموجب مبدأ يعرف باسم الولاية القضائية العالمية، حيث يمكن لدول مثل سويسرا التي اعتمدت هذا المبدأ في القانون الوطني، استخدامه لمحاكمة غير مواطنيها على الجرائم الدولية الخطيرة (الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية) التي ترتكب في أي مكان في العالم.
ويخضع وزير الداخلية الغامبي السابق عثمان سونكو أيضاً، منذ يناير 2017، للاحتجاز، بانتظار محاكمته في سويسرا، حيث يتم التحقيق معه من قبل مكتب المدعي العام في جرائم مزعومة ضد الإنسانية، ومنها التعذيب.
اللجوء إلى الولاية القضائية العالمية في ازدياد
يعتبر محامو حقوق الإنسان والمنظمات غير الحكومية مثل " ترايال" في طليعة الجهات التي دفعت الولاية القضائية العالمية إلى تحمل مسؤولياتها في المحاكمات، وإجراء المساءلة عن الجرائم الخطيرة، لا سيّما عندما لا تتوفر الأطر القانونية لذلك في البلد الذي ارتكبت فيه الجرائم. وعلى سبيل المثال، لم تقم ليبيريا، حتى اليوم، بمحاسبة أي شخص على الجرائم الدولية الخطيرة التي ارتكبت خلال حروبها الأهلية، علماً أن هناك بعض القضايا أيضاً في دول أوروبية تتبنّى هي الأخرى مبدأ الولاية القضائية العالمية.
ووفقا لتقرير "ترايال"، فلقد ازداد اللجوء إلى صلاحيات الولاية القضائية العالمية في البلدان حول العالم "أضعافاً مضاعفة"، مع وجود عدد غير مسبوق من القضايا. وبحسب التقرير المذكور، واستناداً إلى عام 2019، تخضع 16 دولة لملاحقات قضائية، وهناك حالياً 11 متهماً قيد المحاكمة، و "يمكن أن يضاف إليهم قريباً، أكثر من 200 مشتبه به"، بحسب التقرير. وقد ارتفع عدد المشتبه بهم في قضايا الولاية القضائية العالمية حول العالم (207) أي بنسبة 40% عن عام 2018.
وتقول بوليت إن الاتجاه بدأ في عام 2015 بتدفق اللاجئين إلى أوروبا "الذي رافقه قدوم العديد من الشهود والعديد من الضحايا والعديد من الجناة المشتبه بهم". وتقوم الدول الأوروبية الآن باكتساب خبرتها في هذا المجال، وهناك دول مثل فرنسا وألمانيا، تقوم بإنشاء وحدات تعاون مشتركة للتحقيق في القضايا.
وتضيف بوليت: "لدى سويسرا بعض القضايا، التي رُفع الكثير منها من قبل "ترايال إنترناشيونا". "لدينا ست قضايا كبيرة قيد التحقيق، لكن أخشى ألا يتم إجراء التحقيقات اللازمة. لذا فمن الواضح أنه لا يمكن اعتبار سويسرا مثالاً"، على حد قولها.
الموارد والإرادة السياسية
لطالما اتهمت المنظمات غير الحكومية وغيرها، مكتب المدعي العام بالتباطؤ في قضايا الجرائم الدولية. ويُعزى ذلك إلى المعاناة من النقص في الموارد، والخشية من التدخلات والضغوط السياسية الممكنة. في شهر أبريل من عام 2018، كتب المقررون الخاصون للأمم المتحدة، المعنيون بقضايا التعذيب واستقلالية القضاة والمحامين، إلى الحكومة السويسرية، معربين عن قلقهم إزاء مزاعم بأن مكتب المدعي العام قد تعرض للضغط السياسي، لا سيما في القضايا المرفوعة ضد وزير الدفاع الجزائري السابق خالد نزار، ورفعت الأسد عم الرئيس السوري الحالي.
وفي ردّ مكتوب، رفض وزير الخارجية إينياتسيو كاسيس هذه الادعاءات وأكد أن "سويسرا تعلق أهمية كبيرة على مكافحة الإفلات من العقاب، لا سيما بالنسبة للجرائم التي تقع تحت طائلة القانون الدولي". ولكن، ورغم مرور عامين على رفع هذه القضايا إلى المختصين، لم يتم فيها إحراز أي تقدم يذكر، حيث لم يتم الاستماع سوى لشاهد واحد في قضية نزار، بحسب ما تدّعي بوليت. أما في قضية سونكو، التي رفعتها "ترايال" أيضاً للجهات المختصة، فإن العاملين فيها "ليس لديهم أدنى فكرة" عن متى يمكن تقديمه للمحاكمة، على حد قولها.
ورفض مكتب المدعي العام مقابلة swissinfo.ch بشأن هذه الادعاءات، وصرّح في رد مكتوب أن التحقيقات المتعلّقة بهذه القضايا "جارية". وفيما يتعلق بقضية الوزير الغامبي السابق سونكو، ذكر أن "المشتبه به ما زال رهن الاحتجاز وأن الإجراءات الجنائية السويسرية مستمرة بحقه"، كما أن مكتب المدعي العام يتابع عن كثب ما يحدث في غامبيا بهذا الشأن وفي ولايات قضائية أخرى ذات صلة. ووفقاً لـ ترايال، ذكرت لجنة الحقيقة والمصالحة والتعويضات TRRC أن هناك جلسات استماع إلى شهود وضحايا أحياء تجري في غامبيا، وأن اسم سونكو تردد على لسان هؤلاء بشكل متكرر. كما تم نقل "مواد وأدلة متعلقة بالقضية، بما في ذلك شهادات أمام لجنة الحقيقة والمصالحة والتعويضات TRRC، وتسليمها إلى المدعي العام السويسري".
ورفض مكتب المدعي العام إعطاء تفاصيل عن موارده المخصصة لمتابعة قضايا الجرائم الدولية، وعن مدى ملاءمتها إنجاز المهام المطروحة.
الجرائم الدولية والإرهاب
ويعرب تقرير "ترايال" أيضاً عن القلق بشأن ما يسميه منحى متزايداً للمدعين العامين حول العالم، لاتهام المشتبه بهم بالإرهاب، وهي تهمة يسهل إثباتها أكثر من تهمة ارتكاب الجرائم الدولية. وهذا أمر يثير القلق، لا سيّما مع انتفاء وجود تعريف دولي للإرهاب، ولأن من عواقبه تهميش الضحايا، لأن الإرهاب جريمة ضد الدولة وليس ضد الأفراد. وتعتبر "ترايال" أن عواقب هذا المنحى، تشكل "حقيقة من الصعب تقبّلها بالنسبة للعديد من الناجين الذين يعتبرون اتباع هذا المنحى للوصول إلى تحقيق العدالة التي ينشدونها بمثابة خطوة نحو إغلاق ملفات قضاياهم".
ويشير التقرير إلى ما حصل في قضية الجهاديين الفرنسيين منير ديوارا ورودريغ كوينوم، اللذين حكمت عليهما محكمة فرنسية في ديسمبر من عام 2019 بالسجن لمدة 10 سنوات بتهمة الإرهاب. وكان المتهمان قد ظهرا في صوَر في سوريا وهما يرتديان ملابس قتالية ويحملان بنادق كلاشينكوف، وكان أحدهما يلوح بإحدى يديه برأس مقطوع.
وتعتبر "ترايال" أن المشتبه بهما "كان يمكن أن يتهما، بالإضافة إلى التهم المتعلّقة بالإرهاب الموجهة ضدهما، بالاعتداء على الكرامة الشخصية لضحاياهما، وهي جريمة حرب محددة بوضوح في اتفاقيات جنيف".
وترى بوليت إن المشكلة لا تكمن في سويسرا بقدر ما تكمن في واقع أن وحدة الجرائم الدولية التي، وبنتيجة افتقارها إلى الموظفين، قد تم دمجها مع وحدة جرائم الإرهاب. هذا الدمج لا يُعتبر مشكلة في حد ذاته، فقد حصل أيضاً في فرنسا. وتقول لموقع swissinfo.ch: "قد يكون من الجيد الاعتقاد بأن لديك وحدة معنية بجرائم الإرهاب تعمل أيضاً في قضايا جرائم الحرب، لأن هذه الجرائم مرتبطة ببعضها أحياناً. لكن المشكلة تكمن في الافتقار للموارد البشرية والمالية والتعرّض للضغوط السياسية التي تمارسها دولة ما. ونتيجة لضغوط الرأي العام، تجنح الدول إلى مقاضاة المشتبه بهم في قضايا الإرهاب. ثم يصبح من الصعب الدمج بين الإرهاب وجرائم الحرب، لأن جرائم الإرهاب هي التي ستُولى الأهمية ".
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.