شباب يحلمون بقيادة سيارات ملغومة في .. بغداد!
تعددت الروايات وتقاطعت المعلومات، والنتيجة أن ظاهرة جديدة قد بدأت تفرض نفسها في تونس.
لقد عاشت عائلات تونسية في الفترة الأخيرة ولا تزال أرقا شديدا سرعان ما تحول إلى رعب وصدمة مؤلمة…
ربما تبدأ الحكاية عندما يفتقد أب أو أم ابنا لا يزال في ريعان الشباب. وبعد بحث في منازل الأقارب والمستشفيات المحلية، يرن الهاتف فإذا بصوت الابن المبحوث عنه يلقي التحية ويعلم الأهل بأنه في “دمشق” أو في عمان يستعد لدخول “العراق”.
وربما تغير جزء بسيط من السيناريو، حيث يترك المسافر رسالة إلى العائلة يودعها، ويشعرها بأن “واجب الجهاد” قد دعاه.
أما النهاية المدمرة التي تلقتها أكثر من أسرة تونسية، فتكون تفاصيلها غالبا شبيهة ببداية القصة، حيث يرن جرس الهاتف ويتحدث صوت غريب مهنئا الأسرة المكلومة بأن ابنها “استشهد في الفلوجة أو في مدينة عراقية أخرى”. إنها إعلان عن ولادة “جيل” جديد، جسمه في تونس وقلبه في عراق يحترق بلا أفق، كما سبق لتونسيين آخرين أن قرروا الاستشهاد في لبنان دفاعا عن فلسطين، وإن اختلفت القضايا والدوافع والمبررات.
من المغرب العربي إلى العراق
الأمريكيون أخذوا المسألة “بجد” أو هكذا يظنون. خصوصا بعد أن أثبتت “تحقيقات الطب الشرعي أن عشرين بالمائة من الذين فجروا أنفسهم بسيارات داخل العراق كانوا من الجزائريين وأن ما يقارب الخمسة بالمائة كانوا من المغرب الأقصى وتونس”، طبقا لما صرح به مسؤول عسكري أمريكي خلال أيام الأخيرة.
وبناء عليه قرر الأمريكيون حسبما ذكره نفس المسؤول المسارعة في “ضخ مزيد من الأموال والجنود في منطقة المغرب العربي وشمال غرب إفريقيا لتدريب وتجهيز الجيوش المحلية لتمكينها من محاربة الخطر المتصاعد للجماعات الإرهابية والمقاومة”. أي أن منطقة المغرب العربي أصبحت مرشحة أكثر من أي وقت مضى لتنخرط شيئا فشيئا في المأزق الأمريكي بالعراق.
فالجزائر، رغم تراجع ظاهرة العنف المسلح بسبب المرونة التي أبدتها القيادة السياسية حين عملت على إعادة إدماج مسلحي الأمس في المجتمع، إلا أن الفلول المتبقية لا تزال قادرة على توجيه ضربات موجعة في أماكن عديدة، بما في ذلك داخل التراب الموريتاني.
كما أن ما حدث في المغرب في 16 ماي 2004 كاد أن يقلب الأوضاع رأسا على عقب لو انقاد الملك محمد السادس وراء دعوات الاستئصاليين. أما عدد التونسيين الذين توالى ذكر أسمائهم ضمن مجموعات تنظيم القاعدة في أكثر من مكان قد بين أن تحولات هامة وصامتة قد حدثت منذ أواخر التسعينات. وكان آخر الأخبار المفاجئة اعتقال مجموعة من الشبان التونسيين في الجزائر، قيل بأنهم كانوا في انتظار ربطهم بالجماعة السلفية المقاتلة.
إيقافات ومحاكمات
أما على الصعيد المحلي التونسي، فقد استسهلت السلطة مرة أخرى “المعالجة الأمنية”، فشنت ولا تزال حملة اعتقالات واسعة في صفوف من تم الاشتباه فيهم انطلاقا من “مؤشرات” اعتبرها المحامون “غير جدية”.
كما تمت خلال الأسابيع الماضية إحالة مجموعات متفرقة من الشبان على التحقيق وفق مقتضيات قانون مكافحة الإرهاب الصادر يوم 10 ديسمبر 2003 والذي اعترضت عليه المنظمات الحقوقية التونسية والدولية، وصدرت ضد بعضهم أحكام مفاجئة بلغت الثلاثين عاما وأذهلت العائلات والمحامين، الذين سجلوا “حصول عديد التجاوزات الخطيرة المخلة بشروط المحاكمة العادلة”.
فبالنسبة للمجموعة التي تم مثلت يوم الاربعاء الماضي 22 جوان أمام محكمة الاستئناف وتم تأجيل قضيتها إلى يوم 29 من الشهر الجاري، حاولت الشرطة حسبما ذكره المحامي (أنور القوصري) الناشط في صفوف الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان لسويس أنفو، ربط الموقوفين بمصعب الزرقاوي، بواسطة شخص تونسي هويته غامضة يوجد بحالة فرار يحمل اسم (عبد اللطيف الرحالي) المعروف في سوريا بـ “التونسي”.
لكن ملف القضية حسبما ذكر الأستاذ القوصري خال من أي أدلة يمكن أن تؤكد هذا الربط، “خاصة وأن الاعترافات المسجلة قد أخذت من المعتقلين بالقوة، إلى جانب أن إحالتهم على حاكم التحقيق تمت بدون حضور المحامين”.
لا تستبعد الأوساط الحقوقية أن يكون العشرات من الذين تم إيقافهم و”تعذيبهم” حسبما ورد في شهادات بعضهم هم أبرياء، حيث أن بعضهم اعتقل لمجرد أنه قرأ نص رسالة لشخص يوجد في سوريا وجهها لشقيقه يذكره فيها بأن لا ينسى فريضة الجهاد. وآخرون لم يتجاوز تعليمهم المرحلة الابتدائية، ومع ذلك ورد في حيثيات القضية بأنهم كانوا ينوون صناعة قنبلة من سكر أو طائرة بدون طيار.
إن هذه الحالات قد تكون مرشحة للتفاقم خلال الأشهر القادمة، نظرا لاستمرار حالة الغموض، وإصرار السلطات على إخفاء المعلومات الدقيقة، وربما ستصبح هذه الانتهاكات تحتل أولوية متقدمة في اهتمامات منظمات حقوق الإنسان.
المطلوب .. حوار وطني
لكن في المقابل، وإلى جانب التهويل وتلفيق التهم لأبرياء، لا يجوز نفي وجود بوادر ظاهرة قد تكون أشبه في بعض جوانبها بظاهرة “السلفية الجهادية” التي عرفها المغرب الأقصى.
شباب تتراوح أعمارهم بين 17 عاما وثلاثين سنة، “سحبوا ثقتهم” من كامل الطبقة السياسية والثقافية المحلية، بمن في ذلك الإسلاميون من حركة النهضة أو من غيرها، ويرفضون الحديث أو الاستماع لأية وجهة نظر بما في ذلك صوت العائلات. يستقون معلوماتهم الدينية من مراجع يستمدونها مباشرة من الأنترنيت، ويبدو لهم أفق المنطقة مسدودا، لا يمكن زحزحته إلا بالعنف الذي يتخذ عندهم مقومات الجهاد.
وفي هذا السياق أصبح العراق عند عدد من الشباب غير المؤطر يختزل كل مشاكل المسلمين ويمثل نقطة الجذب الرئيسية، وأصبح الاعتقاد عندهم بأن إلحاق هزيمة بالأمريكان في بلاد الرافدين قد يشكل “بداية تغيير جميع المعادلات ويمهد لعودة الإسـلام المهزوم”.
يقول علماء الفيزياء على لسان لافوازييه أن “لا شيء يضيع ولا شيء يُخلق، وإنما كل شيء يتحول”، وهي قاعدة يمكن تطبيقها على المجتمع من زاوية سوسيولوجية بحتة.
لقد ظن بعض السياسيين بأنه يمكن عن طريق المواجهة الأمنية إقصاء الإسلاميين من المجتمع. لكن الذي حصل فيما بعد أن السلطة نجحت فعلا في شل الجسم الرئيسي لظاهرة الإسلام السياسي في البلاد، ولكنها عجزت في المقابل عن منع ظهور أفكار وأجسام أخرى مرشحة لإنجاز سيناريوهات قد تكون وطأتها على البلاد والنظام أشد بكثير من حركة عملت أكثر من ثلاثين عاما من أجل الحصول على تأشيرة الاعتراف القانوني.
بناء عليه يعتقد البعض بأن التونسيين في حاجة هم أيضا إلى حوار وطني حول هذا الملف.
صلاح الدين الجورشي – تونس
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.