صدمة “شرم الشيخ” داخل مصر
لم يسمع المصريون لفترة طويلة ماضية تعبير "الأمن القومي المصري" الذي جاء في الكلمة القصيرة التي ألقاها الرئيس حسني مبارك في أعقاب تفجيرات شرم الشيخ.
فقد كانت تلك التفجيرات من نوعية الحوادث الكبرى التي تصنّـف عادة على أنها تمثل تهديدا للأمن القومي إذ لا تتوقف أبعادها عند حدود الأمن بل تتجاوزها إلى تأثيرات اقتصادية وسياسية واسعة النطاق.
على الرغم من أن العقود الثلاثة الأخيرة التي أعقبت نهاية فترة الحروب مع إسرائيل عام 1973 قد شهدت عددا هائلا من أحداث العنف، إلا أن هناك أربعة وقائع عنف كبرى هي التي أصابت المصريين بصدمة حقيقية، أولها إغتيال الرئيس السادات في حادث المنصة عام 1981، وتمرّد قوات الأمن المركزي عام 1986، ومحاولة إغتيال الرئيس مبارك في أديس أبابا عام 1995، ثم حادث الأقصر الشهير عام 1997.
كانت تفجيرات شرم الشيخ من نفس تلك النوعية من الحوادث الكبرى التي تصنّـف عادة على أنها تمثل تهديدا للأمن القومي، إذ أن أبعادها لا تتوقف عند حدود كونها “مسألة أمنية”، وإنما تتجاوزها إلى تأثيرات إقتصادية وسياسية واسعة النطاق، تشكّـل في مُـجملها ما يعتبر من اللحظة الأولى “كارثة”، وهو ما لم يحدث عندما وقعت تفجيرات سيناء الثلاثة (أيضا) في طابا ونويبع وعسلة قبل تسعة شهور. فقد كانت تلك الواقعة مُـحاطة بملابسات أمل معها المصريون بأن تكون واقعة “منفصلة” ذات دلالات محصورة، غير إكتساحية، ورغم أنها لم تكن كذلك، إلا أن تداعياتها لم تكن بالفعل تتّـسم بالحدّة.
عاصفة ليلية
كان المصدر الأول للصدمة هو إدراك فوري من جانب الرأي العام بأن الإرهاب قد وصل إلى مصر التي توجد في مدخل أكبر مطاراتها الدولية آية قرآنية هي “إدخلوها بسلام آمنين”، إذ وضح أن الحادثة السابقة في طابا لم تكن منفصلة، وأن مصر ليست بعيدة عما يحدث في الدول الأخرى كتركيا وبريطانيا والسعودية، وأن الجماعات الإرهابية التي تم تسويق أفكار مَـرنة بشأنها في أوساط الرأي العام ليست “صديقة” أو متدينة أو حتى أخلاقية، خاصة وأنها هاجمت بعنف غير مسبوق مناطق يُـقيم بها مصريون في الأساس، وكانت إحدى العمليات تستهدف قتل أكبر عدد من الناس مع سَـبق الإصرار والترصّـد. فقد تمت في سوق شعبي في وقت الذّروة بعد منتصف الليل، بمعايير شرم الشيخ.
كان المصدر الثاني للصدمة هو أن تلك العمليات الإرهابية قد استهدفت شرم الشيخ ذاتها. فعلى الرغم من أن معظم المصريين لم يقم بزيارة تلك المدينة البعيدة عن الكتلة السكانية في الدولة، والمرتفعة الأسعار، والتي تبدو وكأنها مدينة أوروبية، إلا أنها كانت ترتبط بمشاعر من نوعية خاصة. فهي مدينة هامة تمثل مشروعا مستقبليا من نوع ما.
فنسبة كبيرة من التدفق السياحي تتجه إليها، ويقيم بها رئيس الدولة فترات طويلة، وتُـعقَـد فيها مؤتمرات عالمية هامة، كما بدأت تصنَّـف كواحدة من أجمل مُـدن العالم. لذا، كان تعرضها للعنف بتلك الصورة قاسيا على نحو تذكّـر الجميع معه على الفور ما وقع في مدينة أخرى من قبل هي الأقصر، التي تحتل موقعا مماثلا في مصر.
جاءت تلك الهجمات أيضا في ظل أوضاع مربكة أثارت تساؤلات لا أول لها ولا آخر، حول هوية تلك الجماعات التي تستهدف الدولة بتلك الصورة، ولم يكن قد مضى على مقتل رئيس بعثة مصر في العراق إيهاب الشريف – الذى لم تكن صورته “معصوب العينين” قد تبدّدت من الأذهان – وقت طويل، وحول علاقة أعمال العنف الإرهابية بما أصبح يسمى حالة الاحتقان السياسي في الداخل، وما يثيره ذلك من مخاوف، ووصلت الهواجس إلى رصد تلك المفارقات الخاصة بوقوع حادث طابا مع احتفالات 6 أكتوبر 1973، ووقوع تفجيرات شرم الشيخ مع إحتفالات 23 يوليو 1952، وتزامن ذلك مع تفاعلات أمنية تُـجرى مع إسرائيل في سيناء في إطار ترتيبات مرحلة ما بعد الانسحاب من غزة.
من هم؟
لكن الأهم من كل ذلك هو أن مُـعظم التساؤلات قد ظلّـت بدون إجابة محدّدة، مع حالة تعادل مثيرة في الاحتمالات المرتبطة بكل نقطة، فقد نشطت في البداية نظرية المؤامرة في الصحف الشعبية وعلى شاشات القنوات الفضائية لتتهم “الموساد الإسرائيلى”، كما هي العادة، قبل أن تهدأ الأمور قليلا ليتم الحديث عن إحتمالين:
الأول، أن تكون تلك الهجمات قد جاءت من داخل مصر، مرتبطة بنفس المجموعة الإرهابية مجهولة الهوية التي ارتكبت تفجيرات سيناء الأولى. فقد كانت بعض عناصرها لاتزال هاربة، وجرت التفجيرات عشية محاكمة من ألقي القبض عليهم منها، وظهر أن خططهم الأصلية كانت تتضمن شرم الشيخ. كما أنه توجد حالة حنق واسعة بين كثير من مواطني سيناء بفعل الممارسات الأمنية التي جرت ضدهم عقب الوقائع الأولى، ولا توجد مشكلة متفجرة في منطقة حدودية كانت مسرحا لعدة حروب.
الثانى، أن تكون الهجمات قد شُـنّـت من الخارج من جانب عناصر القاعدة. فقد كانت مصر قد استقرّت على قائمة الدول الإسلامية المستهدفة من القاعدة، وأعلنت كتائب عبد الله عزام التي تنتمي إليها مسؤوليتها عن التفجيرات، وألحقتها بنفس العبارات التي تتحدث عن المرتدّين حلفاء اليهود والصليبيين الذين يدنّـسون أرض المسلمين. وكانت الهجمات تحمل أيضا نفس البصمات التقليدية التي تشير إلى تعدّد التفجيرات وتزامنها واستهدافها لمناطق كثيفة في التواجد البشري، وبدا هنا أن القاعدة تستعرض عضلاتها من جديد في عدة مناطق في العالم، بينها تلك المدينة “الدولية” فى مصر.
إن العلاقة بين الاحتمالين ظلت ملتبسة أيضا. فعلى الرغم من أن القاعدة قد نفّـذت أحيانا عمليات داخل دول عبر عناصر خارجية تماما متسللة عبر الحدود، إلا أن بعض العمليات الأخيرة تمت من جانب عناصر داخلية أو مقيمة. كما أن بعض التنظيمات الداخلية قد انتمت طوعا لـ “حالة القاعدة”، ولم يفيد ما ظهر من معلومات حول تنظيم تفجيرات طابا بما إذا كانت هناك علاقة خارجية أم لا. كما تقع مسألة الخلايا النائمة، التي أثيرت مرارا، احتمالات وجود بعضها في مصر على الخط الفاصل بين الخارج والداخل.
لكن القضية المحيِّـرة هنا هي أن ثبوت أيا من الاحتمالين سيمثل استمرارا للصّـدمة أيضا، فلن يستوعب كثيرون أن القاعدة – التي كان بعض المحللين ينفون وجودها أصلا حتى وقت قريب – قد فعلتها، ولن يستوعب ببساطة أحد أن عناصر مصرية قد وصلت إلى هذا الحدّ من “التكفير” أو الاستباحة، وسيكون على قطاعات كبيرة من الرأي العام وقادة الرأي والبيروقراطيات الحكومية أن تغيّـر بعض أفكارها.
كيف حدث؟
لكن هناك شيئا أكثر وضوحا من هوية الفاعلين ظهر منذ اللحظة الأولى، وهو أن هناك إختراقا كبيرا للأمن قد حدث في تلك المنطقة، وهنا توجد أيضا علاقة بفكرة الصّـدمة. فسيناء في الأساس لا يزال يُـنظر إليها على أنها منطقة استراتيجية، وبالتالي، تتواجد على أرضها كل أجهزة الأمن المتصورة في الدولة، وتنتشر الحواجز على طُـرقها بشكل مكثف غير قائم في أي منطقة مصرية، وكان من المتصور أن الإجراءات الأمنية قد تكثفت بصورة مضاعفة بعد هجمات سيناء الأولى، التي انتقلت إليها أعداد إضافية من عناصر الأمن.
لجانب الآخر هو أن شرم الشيخ من المدن المؤمنة جيدا في مصر، أو كان من المفترض أنها كذلك، على الأقل بفعل التواجد الرسمي المتواصل فيها، خاصة من جانب الرئيس مبارك، ووجود زائرين خارجيين فيها أيضا لمهام أو للزيارة، إضافة إلى أنها منطقة سياحية من الدرجة الأولى، وتعتمد سياحتها على الأفواج الأوروبية، مع وجود إنذارات أمنية متعدّدة وضّـحت مظاهرها في تشديد الحراسة بشكل غير مسبوق على المنشآت السياحية والمرافق العامة ومناطق التجمعات أو المراكز التجارية في كل مكان.
كانت كل الأوضاع المنطقية تشير إذن إلى أنه من الصعب تماما أن يتم ضرب شرم الشيخ تحديدا، لكنه حدث، على نحو مُـفزع عبر ثلاثة هجمات ضخمة أدّت إلى خسائر مادية وبشرية كبيرة، إضافة إلى وضع السياحة، وبدأت التفسيرات تتوالى بشفافية وعبر انتقادات غير مسبوقة في مصر.
فتعدُّد الأجهزة الأمنية يخلق مشكلة أحيانا بأكثر مما يمثل من ميزة، وهناك دروب صحراوية متعدّدة تحيط بالمكان، كما كانت هناك تقييمات خاطئة حول تقدير أولوية الأماكن التي يمكن أن تُـستَـهدف. وتشهد المدينة فترات من المدّ والجزر في الإجراءات الأمنية تَـبَـعـا لحالة التواجُـد الرسمى فيها، وآلية عمل تدفّـق السائحين ذاتها تُـعقد بعض الأمور. فهناك أشخاص جُـدد كل يوم، ولم تخلُ الأمور من إشارة إلى ممارسات بعض سكان سيناء.
لكن الأهم على هذا المستوى، أن العمليات ذاتها كانت مثيرة. فلم تتم الإشارة بتركيز كاف إلى أن العملية الأساسية التي تمّـت ضد فندق غزالة كانت “إنتحارية”. فقد حُـمّـلت السيارة بمواد شديدة الانفجار بكميات كبيرة، وإندفع سائقها إلى داخل الفندق الذي لم يكن مؤمَّـنا بحواجز خارجية أو عدد معقول من رجال الأمن، فقط شخص واحد، وتمّـت الثانية من خلال سيارة مفخخة، والثالثة من خلال حقيبة ناسفة، وبالتالي، ظلت القضية هي عدم اكتشاف مثل هذا المخطّـط الإرهابي قبل تنفيذه، وكيفية وصول تلك السيارات أو المتفجرات أصلا إلى داخل المدينة بدون إعتراض.
فى النهاية، سيكون أسوأ ما يمكن حدوثه هذه المرة، هي أن لا يتم ضبط كل الجُـناة أو إكتشاف كل المعلومات أو إعلان كل الحقائق، حتى لا تظل هناك علامات إستفهام معلّـقة. فقد رصدت تفجيرات شرم الشيخ على تلك القائمة القصيرة من الأحداث الكبرى التي هزّت مصر، وسوف تكون الصّـدمة الحقيقية هي أن لا يتم الكشف تماما عما جرى بكل أبعاده، خاصة وأن الدولة قد أعلنت حالة حرب حقيقية، لم يعد من الممكن تجنّـبها، ضد الإرهاب.
د. محمد عبد السلام – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.