صيف التغيير في لبنان؟
الوضع في لبنان هذه الأيام أشبه بحمام تركي انقطعت عنه المياه فجأة، فساد الهرج والمرج والفوضى بين رواده.
لا أحد في بلاد الأرز يعرف الآن من مع من، ولا أحد في وسعه التكهن بشكل ومضمون النظام السياسي الجديد الذي يُـفترض أن يولد من بين أنقاض الحقبة السورية التي دامت أكثر من 30 عاماً في البلاد.
صحيح أن لبنان مقبل في نهاية هذا الشهر على انتخابات مهمة سترسم بعض ملامح موازين القوى، وصحيح أن عودة الجنرال ميشال عون من منفاه الباريسي، الذي خاض منه أشرس المعارك ضد السوريين، كان مؤشراً على نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة، إلا أن الصحيح أيضاً أن الغموض الشديد لا يزال سيد الموقف.
لماذا؟ ليس فقط لأنه كان من الطبيعي أن يترك السوريون وراءهم فراغاً حتمياً، خاصة بعد أن أدمنت الطبقة السياسية اللبنانية الحالية (التي ساهمت دمشق في استيلادها) الاعتماد على القرارات السورية في كل شاردة وواردة تقريبا، بل أيضاً لأن “الورثة الحقيقيين” للمرحلة الجديدة لم يكشفوا عن كل أوراقهم بعد، والمقصود هنا بالتحديد دولتان كبيرتان، هما الولايات المتحدة وفرنسا، وطرف محلّـي هو حزب الله:
1- فهل سيُـدير حزب الله ظهره لارتباطاته الإقليمية الإيرانية، ويقبل الانغماس بالكامل في النظام اللبناني الجديد؟
2- وهل تنوي الولايات المتحدة وفرنسا تغيير النظام الطائفي الراهن، واستبداله بنظام سياسي جديد أكثر ديمقراطية؟
في الإجابة على هذين السؤالين، سيتّـضح مصير الوطن اللبناني. لنحاول أولاً مقاربة السؤال الأول.
سيناريوهان
حزب الله يجد نفسه الآن أمام سيناريوهين: في السيناريو الأول، يتوصل الحزب وواشنطن، عبر وسطاء وعلى رأسهم فرنسا، إلى اتفاق يتحوّل بموجبه الأول إلى قوة سياسية، ويتخلى ليس فقط عن صواريخه في الجنوب، التي يناهز عددها 13 ألفً بينها فجر-3 وفجر-5، بل أيضاً عن دوره الإقليمي في فلسطين والعراق وغيرهما.
وبالطبع، هذا يعني ضمناً أن يُـزيل الحزب عن جلده كل أثر من آثار “الأيرنة” (من إيران) السياسية المباشرة. في المقابل، توافق واشنطن على دور بارز للحزب والشيعة في الحياة السياسية اللبنانية.
ومؤخراً، نقلت “لوس أنجليس تايمز” وصحف أمريكية أخرى ولبنانية عن مسؤولين أمريكيين وأوروبيين النقاط الآتية:
– توافق أمريكا على سيطرة حزب الله على 20% من مقاعد البرلمان. كما لا تمانع في هيمنة الشيعة على الحكومة بصفتهم الطائفة الأكبر في البلاد (40% من السكان).
– تتعهد أمريكا عدم استخدام القوة أو التحريض على استخدامها ضد الحزب، وتترك الأمر للبنانيين أنفسهم بعد الانتخابات المقبلة، أما أعضاء الحزب، الذين تتهمهم واشنطن بتنفيذ “عمليات إرهابية” ضدها، وفي مقدمهم عماد مغنية، فيمكن تسوية هذه المسألة بما يحفظ ماء وجه الحزب.
هذه التوجهات الأمريكية، التي تشبه إلى حد كبير، موافقتها على وصول قوى سياسية عراقية شيعية مثل حزب “الدعوة” والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية” إلى السلطة، تحظى، على ما يبدو، بدعم كل المؤسسات الأمريكية، بما في ذلك الرئاسة الأمريكية.
ففي منتصف شهر مارس الماضي، ألمح الرئيس بوش مرّتين إلى أن الولايات المتحدة “لن تعترض إذا ما خرج حزب الله كقوة سياسية في لبنان حر وديمقراطي”، هذا برغم تشديده على أن سياسة إدارته إزاء الحزب بصفته قوة إرهابية، لم تتغير.
وبالطبع، إذا ما برز الحزب بصفته القوة السياسية الأقوى في البرلمان، حيث قد يحصد أكثر من 25 مقعداً، فسيكون من السهل على واشنطن حينذاك الإعلان بأنها ستقبل التعاطي معه انطلاقا من تبنيها مسألة الديمقراطية، بشرط أن يتجرد من سلاحه.
كما هو واضح، الإغراءات الأمريكية لحسن نصر الله كبيرة، لكن، وكما أن الجزرة مغرية، إلا أن العصا غليظة أيضا، وهذا يدخلنا إلى السيناريو الثاني: الحرب.
ففي حال رفَـض حزب الله التحوّل إلى حزب سياسي ، مغلّباً بذلك ارتباطاته الإقليمية الإيرانية الماضية على مصيره اللبناني المستقبلي، فإن أبواب جهنم برُمّـتها ستنفتح عليه، وهذا ليس على يد واشنطن وحدها، بل أيضاً باريس ولندن وبرلين، وربما كذلك العديد من القوى الإقليمية العربية الرئيسية.
أول هذه الأبواب سيطلق في وجه الحزب قوى الطوائف اللبنانية الأخرى، التي ستضغط بشدّة من الآن فصاعداً، إما لتجريد هذا الأخير من السلاح، أو لحمل السلاح معه على قدم المساواة.
ثاني الأبواب، سيعمل على تفكيك قاعدته الشيعية الواسعة، التي لن تقبل بأي حال أن تبقى خارج “لبنان المستقبل”، أو تكون مطية لأية قوة إقليمية، أو أن تدفع الأثمان الباهظة التي سبقت أن دفعت فواتيرها طيلة 30 عاماً، عدّاً ونقدا، ثمناً لحسابات خارجية.
ثالث الأبواب، هو احتمال دخول إسرائيل على الخط بدعم دولي لإلحاق أفدح الخسائر بشيعة لبنان على وجه الخصوص، عبر عمليات عسكرية مدّمرة، وصولاً إلى الهدف السابق، أي تفكيك القاعدة الشيعية للحزب.
أيُّ مقارنة بين هذين السيناريوهين، يكشف عن خلل فادح في موازين القوى بينهما. ففي الأول، يربح حزب الله كل شيء. وفي الثاني، يخسر كل شيء. في الأول، سيكون الشيعة في موقع يمكّـنهم من حصد الحقوق المتساوقة مع قوتهم العددية. وفي الثاني، سيخسر هؤلاء كل ما أنجزوه طيلة العقود الماضية لصالح تحالفات طائفية جديدة ضدهم.
ماذا سيختار حزب الله: الجنة أم النار؟ كل الدلائل حتى الآن تؤكّـد أن قادة الحزب يتحلّـون بما فيه الكفاية من الحِـكمة، بحيث يغلبون “اللبننة” على “الأيرنة” بلا تردد. ومع ذلك، ينبغي الانتظار قليلاً. انتظار ماذا؟ مرحلة ما بعد الانتخابات اللبنانية.
تغيير النظام
هذا عن حزب الله. ماذا الآن عن الولايات المتحدة وفرنسا؟ الطرفان أوحيا أخيراً بأنهما قد يكونا مستعدين لتغيير النظام الطائفي اللبناني. فقد نقل عن مسؤولين أمريكيين قولهم أن الدولتين لا تمانعان بوضع دستور جديد للبنان، غير اتفاق الطائف، لأنهما تدركان أنه لا يمكن حكم لبنان وفق دستور 1943 الذي وضع عام 1926. وإذا ما تعذّر ذلك، فيمكن الدفع باتجاه كسر احتكار الطوائف للمناصب الرئيسة (الرئاسات الثلاث)، واعتماد مبدأ المداورة فيها.
والمثير هنا أن الجنرال ميشال عون كرّر الموقف نفسه تقريبا إثر عودته إلى بيروت، إذ أعلن أن “التغيير آت لا محالة. فلبنان لن يحكم بعد الآن بذهنية القرن التاسع عشر. لا نريد بعد اليوم عصبيات طائفية تتناحر وتتقاتل وتهدم ذاتها”.
هل نسّق عون مواقفه هذه مع الفرنسيين والأمريكيين؟ سنعرف بعد قليل، حين يعلن الجنرال برنامجه لـ “إعادة تأسيس لبنان على قواعد جديدة”، كما قال، وحين تحدد باريس وواشنطن موقفهما الضمني أو العلني من هذا البرنامج.
وعلى أي حال، يجب ألا نُـسقط من الاعتبار أن مشروع عون، الديمقراطي واللا طائفي، يتقاطع في أكثر من نقطة مع الصفقة الأمريكية – الفرنسية المعروضة على حزب الله، والتي تتضمّـن هي الأخرى تعديل الدستور الطائفي اللبناني.
وفي حال لم يكن ذلك مجرد صدفة، ستتوقّـف سريعاً الفوضى الراهنة في بلاد الأرز، وستعود المياه إلى الحمام اللبناني، ولكن بعد انتهاء المهندسين الفرنسيين والأمريكيين من إعادة بناء هذا الحمام على أسس جديدة!
سعد محيو- بيروت
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.