صيف الصحافة اليمنية .. ساخن!
تثير القضايا المرتبطة بالحريات الصحفية وبعض الإعتداءات التي طالت عددا من الصحفيين انشغال الأوساط اليمنية في الآونة الأخيرة.
وفيما شهدت الصحافة اليمنية تصعيداً متبادلاً بين الصحف المعارضة والرسمية، تخشى أوساط معارضة وحقوقية ومدنية من أن يؤدي ذلك إلى مزيد من التضييق على الحريات الإعلامية.
انفردت صحيفة يمن تايمز الناطقة بالإنجليزية في عددها الصادر يوم 21 يونيو الجاري بنشر خبر عن تعرض محمد علي سعد رئيس تحرير صحيفة الجمهورية إلى الإعتداء والتعنيف على أيدي مجهولين مساء الجمعة 18 يونيو أمام بيته في مدينة تعز.
هذا التطور الذي سبقه تصعيد متبادل غير مسبوق في وسائل الإعلام اليمنية بين صحف المعارضة والإعلام الرسمي، دفع أوساطا معارضة وحقوقية ومدنية إلى الإعراب عن خشيتها من أن ينعكس ذلك مزيدا من التضييق على الحريات الصحفية.
في المقابل، أعلنت السلطات اليمنية أنها عازمة على ضمان النهج الديمقراطي، وتوسيع مجال حريات الرأي والتعبير ليشمل تحرير الصحافة السمعية والبصرية لأول مرة، وكسر احتكار الدولة لهذا القطاع.
لقد ظلت الصحافة اليمنية منذ قيام الوحدة اليمنية عام 1990 وإعلان التوجه الديمقراطي الجانب الواضح والأبرز المعبّـر عن هذا النهج، نظرا لأنها بقيت الميدان المتاح لحضور المعارضة وصدى لأنشطتها ومواقفها، خاصة بعد تراجع حضورها في السلطتين التشريعية والتنفيذية على حد سواء خلال السنوات الأخيرة، وعلى وجه العموم من بعد حرب صيف 1994 واندحار الحزب الاشتراكي اليمني، ثم عقب الانتخابات النيابة لعام 1997 والانتخابات اللاحقة التي قادت إلى قطيعة كبيرة بين المؤتمر الشعبي العام “الحاكم” وحليفه التقليدي، حزب التجمع اليمني للإصلاح ذو التوجه الديني الذي خرج من السلطة والتحق بالمعارضة على خلفية انفصام علاقته وانضواءه في إطار مجلس التنسيق الأعلى لأحزاب المعارضة.
وأفرزت هذه التطورات تواجدا هامشيا لأحزاب المعارضة مقابل الهيمنة المطلقة على المؤسسات التشريعية والتنفيذية للمؤتمر الشعبي العام، وبالتالي، أضحت الصحافة اليمنية الرِّئة المهمة التي تتنفس بها قوى المعارضة اليمنية.
منغصات وتصعيد
دائما، وحسب وجهة النظر الرسمية، دفعت هذه الوضعية المعارضة إلى “تعويض إخفاقاتها في الانتخابات العامة بتصعيد خطابها الإعلامي التعبوي” وفقاً لما تذهب إليه الصحافة الرسمية ومسؤولون يمنيون كبار، وأن حرية الصحافة، حسب الرأي الرسمي، تستغل من جانب المعارضة لتصريف خطابها العقائدي والأيديولوجي بغية الكسب السياسي الآني، في المقابل، تذهب المعارضة إلى أن ما تنشره في صحافتها “يندرج في إطار انتقاد الممارسات الخاطئة المتراكمة للسلطة في البلاد”.
وطبقاً لما يراه مراقبون محايدون، فإن هذه الوضعية جعلت حرية الصحافة في اليمن عُـرضة للمنغّصات، ووسيلة للابتزاز من حين إلى آخر، والمحصلة أن طالت المحاكمات القضائية والملاحقات الإدارية عددا من الصحف والصحفيين على مدار السنوات العشر الماضية، وبلغت أوجها في الآونة الأخيرة باستدعاء وملاحقة عدد من الصحفيين خارج إطار القانون، كما حدث مع سعيد ثابت، مراسل وكالة قدس برس عقب نشره لخبر حول تعرض نجل الرئيس لمحاولة اغتيال، واستجواب رئيس تحرير صحيفة الشورى بجريرة إثارة ما يسمى بملف توريث الحكم، ثم فصل الصحفي الكاتب عبد الجبار سعد من عمله وإحالته للمحاكمة عقب نشره مقالا انتقد فيه بشدة ولي العهد السعودي، واعتبر فيه أعمال العنف التي يقوم بها المتشددون الإسلاميون في السعودية “أعمالا جهادية”، وتزامن مع كل ذلك صدور أحكام قاسية في حق صحفيين آخرين تراوحت بين الحبس والغرامة والمنع من الكتابة.
كل هذه التفاعلات أدّت إلى تصعيد متبادل بين صحافة المعارضة وأحزابها من جهة، وبين الصحافة الرسمية والسلطات من جهة أخرى، وانزلق ذلك التصعيد في بعض الأحيان إلى اتهامات مجانية وسجالات عقيمة، جعل صيف الصحافة اليمنية صيفا ساخنا على غرار سخونة هذا الصيف المفرطة، حسب رأي المراقبين.
أسباب ثلاثة
واقع حال الصحافة اليمنية، حسب ما يذهب إليه نقيب الصحفيين اليمنيين السابق عبد الباري طاهر في حديثه لسويس أنفو، “يرجع إلى ثلاثة أسباب: أولها، أن قانون الصحافة والمطبوعات لعام 1995، وإن كان قد ضمن حرية الصحافة، إلاّ أنه في المقابل فتح باباً واسعاً للمحظورات ومواده الـ 116، أغلبها لها علاقة بالمنع والحظر وتجرم وتعاقب الصحفي والصحيفة”.
“السبب الثاني، يكمن في الممارسة في نظام الجمهورية اليمنية، وهو في الأصل محصلة لنظامين شموليين، وبالتالي، النظام يظل على علاقة بإرث الشمولية تلك، فضلاً عن أن الديمقراطية في البلاد ناشئة، وأجهزة ومؤسسات الدولة لم تستوعب مسألة حرية الصحافة وتبادر للتعامل مع قضايا النشر وحرية الرأي انطلاقاً من فهمها المنقوص، وهو ما يعمق أزمة العلاقة” على حد قوله.
السبب أوالخلل الثالث، حسب عبد الباري طاهر، آت من تخلف القضاء وضعفه. فهو على حد تعبيره، غير كفء ولا يتمتع باستقلالية كاملة، ويفتقد للدراية والخبرة في التعامل مع قضايا حرية التعبير، (ويتضح ذلك من خلال الأحكام التي يصدرها في قضايا النشر، تارة يحكم بالجلد وأخرى بالمنع من الكتابة، وكثيراً ما حكم بأكثر من عقوبة على مخالفة واحدة مما يجمع بين إيقاف الصحفية والغرامة والمنع من الكتابة)، وتجاوز هذا الواقع رهين بإعادة النظر بتلك الجوانب المذكورة.
وخلص نقيب الصحفيين السابق في هذا الشأن إلى تثمين الخطوة التي بادر إليها الرئيس اليمني علي عبد الله صالح عندما دعا إلى إلغاء عقوبة السجن للصحفيين، لكنه لم يخف خشيته من أن يؤدي إلغاء العقوبة تلك إلى استبدالها بعقوبات أشد لا تتلاءم مع قدرات وإمكانات الصحافة اليمنية، مشيراً في هذه الصدد إلى أن الحكم الأخير القاضي بإيقاف صحيفة وتغريم صحفي مبلغ 10 ألف دولار يُعزز من المخاوف بشأن رفع سقف الغرامات على المخالفات والجنح الصحفية.
المخرج الوحيد
وفي خضم سخونة صيف الصحافة، اعتبرت الحكومة اليمنية أن التصعيد الحاصل من قبل الصحافة المعارضة وإثارتها لمواضيع حساسة، مثل تناول المؤسسة العسكرية، وقضية توريث الحكم تندرج في إطار ارتباطات خارجية تستهدف الوحدة الوطنية للبلاد.
هذا الرأي لا يوافق عليه حمدي البكاري، رئيس لجنة التدريب وشؤون المهنة في نقابة الصحفيين اليمنيين حيث قال لسويس أنفو: “الكتابات الصحفية التي تناولت قضايا كانت إلى وقت قريب بمثابة خطوط حمراء هي كتابات تعبر عن حالة من التطور والتحول الصحفي في مجال النقد وارتفاع سقف الحريات، وهي ظاهرة صحية تشيع قيم الديمقراطية وكل ما هو مطلوب أن يسود نوع من النقد البناء والموضوعي والرد بحجج مقنعة، وليس النزول إلى مستوى الشتائم والتعارض مع آداب وأخلاق المهنة”.
ويستطرد البكاري قائلاً: “بطبيعة الحال، هناك دائما تبريرات تُـطرح، موضحاً أن الطرف الذي لا يستطيع أن يرد بحجج أقوى تتجاوز انتقاد وتجريح الأشخاص، يسوق مثل تلك التبريرات مع أنه من المؤكّـد لا توجد أي ارتباطات في الخارج، وبين ما يطرح بالصحف، والوسط الصحفي يعيش أسوأ حالاته من الفقر والجوع والمضايقات للحريات، وعلى من يقولون ذلك، عليهم إثبات طبيعة الارتباط المزعوم ونوعه”.
إجمالاً، يمكن القول أن الصحافة اليمنية، باعتبارها الجانب المشرق في التجربة الديمقراطية في اليمن وفي المنطقة عموما لا تحتمل أن تتصرف فيها قوى المعارضة بحساباتها السياسية، لأن ذلك قد ينزع منها في بعض الأحيان موضوعيتها ومصداقية رسالتها. وفي المقابل، لا ينبغي أن تضيق السلطات العامة ذرعاً بما تزخر به تلك الصحافة لأن المسؤولين عادة ما يكونون في ظل الأنظمة الديمقراطية ميادين مفتوحة للرماية.
وبين هذا وذاك، يكمن الخيار الأنسب، وهو تقنين الممارسة الصحفية والإعلامية بما يلبي التوجه الديمقراطي، ويحمي الحقوق والحريات العامة، وبالمقابل، احترام القوانين والتشريعات النافذة من قبل جميع أطراف الفاعلين في الدولة والمجتمع على حد سواء.
فهل سيتحقق ذلك مستقبلاً؟ ربما الخطوات المعلن عنها حتى الآن تصب في هذا الاتجاه، لكن يبقى المحك هو ما سيتمخّـض عن تلك الخطوات المعلن عنها من تجليات واقعية تنعكس على واقع وآفاق حرية الصحافة في هذا البلد الذي ما زال يتلمس طريقه الديمقراطي وسط تحديات داخلية اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية، ناهيك عن التحديات الإقليمية والدولية.
فكيف يمكن الموازنة بين كسب كل هذه الأبعاد، وبين كسب رهان الممارسة الديمقراطية واحترام الحريات العامة وحقوق الإنسان؟ دون شك، تبدو تلك الموازنة نقطة بالغة الحساسية، لكنها تظل المخرج الأساسي لتلطيف أجواء صيف الصحافة اليمنية.
عبد الكريم سلام – صنعاء
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.