طــي صفحة الماضي
يريد المغرب أن يكون نموذجا لدول العالم الثالث في طي صفحة الماضي بأسلوب حضاري، تكون خطوته التالية تنظيم جلسات استماع للمنتهكة حقوقهم بين 1956 و1999.
وتنظم الجلسات هيئة الإنصاف والمصالحة، التي شكلها العاهل المغربي بداية العام الجاري لتتولى طي صفحة الماضي، وتبدأ أشغالها يوم الثلاثاء 21 ديسمبر.
جلسات الاستماع تنظمها هيئة الإنصاف والمصالحة، التي شكلها العاهل المغربي بداية العام الجاري، لتتولى طي صفحة الماضي والتعويض المادي والمعنوي لمن انتُـهكت حقوقهم، وجبر الأضرار التي تعرضوا إليها.
وستتم هذه الجلسات بحضور الصحفيين، والدبلوماسيين المعتمدين بالمغرب، وممثلي المنظمات الدولية، وخبراء في التاريخ وعلم النفس، وستُـنقل على شاشات التلفزيون وأمواج الإذاعة.
وتُـسجل السلطات المغربية بهذه الخطوة نُـقلة نوعية في ملف حقوق الإنسان، وطي صفحة الانتهاكات التي عاشتها البلاد على مدى ثلاثة وأربعين عاما، دون أن يعني ذلك أن الانتهاكات قد توقّـفت، والخروقات قد انتفت، وأن حقوق الإنسان باتت مُـصانة.
تسارع الخطوات.. ولكن؟
فالحقوقيون لا زالوا يتحدّثون عن خروقات يتعرّض لها نشطون أصوليين – ازدادت بعد هجمات 16 مايو 2003 التي استهدفت مؤسسات خدمية في الدار البيضاء، وذهب ضحيتها 45 قتيلا وعشرات من الجرحى – وإرباك في مسلسل الانفتاح والانطلاق نحو تصفية كل ما كان عالقا من المرحلة السابقة من الخروقات والانتهاكات.
بدأ المسلسل خَـجولا في منتصف 1990 بإعلان العاهل المغربي الراحل الملك الحسن الثاني تأسيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، إبان شن وسائل الإعلام الفرنسية حملة مكثفة، وتحدثت عن معتقلات سرية، كان أبرزها معتقل تزمامارت، ومعتقلي رأي كان أبرزهم اليساري أبرا هام السرفاتي.
المجلس الاستشاري الذي حدد إسمه مهمته كهيئة استشارية للملك، ضمّـت ممثلين عن الأحزاب والنقابات والمنظمات الحقوقية، ووزراء وشخصيات عامة، وكلف بدراسة ملفات كافة المعتقلين السياسيين والمغتربين، إلا أن الملفات ربطت بالحالة السياسية وتطورات انفتاح سياسي كانت البلاد مُـقبلة عليه، وتوج الانفراج الحقوقي بقرار العفو الشامل عن المعتقلين السياسيين والمغتربين الذي أصدره القصر الملكي في يوليو 1994، مع استثناءات بقيت مُـعلقة إلى حين تولّـى الملك محمد السادس العرش في يوليو 1999، حيث تسارعت الخطوات وأفرج عن بقية المعتقلين الذين لم يُـدنهم القضاء بجرائم قتل، وسمح للمعارض السرفاتي بالعودة من منفاه في فرنسا بعد أن أبعِـد عام 1991 كونه مواطنا “برازيليا”، ورُفعت الإقامة الإجبارية عن الشيخ عبد السلام ياسين، مرشد جماعة العدل والإحسان الأصولية المتشددة، وشُـكّـلت لجنة لتقديم التعويضات المالية لضحايا الانتهاكات والخروقات.
إنجارات واسعة
كانت المفاجأة المغربية في انسياب الكلام عن تجارب الاعتقال والأحاديث بالتفصيل عن التعذيب الذي تعرّضوا لها، وتسمية الجلادين الصغار والكبار، وصدرت الكتب وكان أبرزها “تذكرة إلى الجحيم” لمحمد الرايس، ثم كتاب عن تجربته ورفاقه الجنود والضباط في معتقل تزمامارت، وكتاب العريس للشاعر صلاح الوديع، ثم الأجهزة السرية بالمغرب، للعميل السابق للمخابرات السرية المغربية أحمد البخاري.
كانت الكتب ومن ثم الأحاديث الصحفية والندوات والتقارير، تتّـسم بجُـرأة لم يعرفها بلد عربي، ليس فقط في السرد، بل في التفاصيل والأسماء التي ترددت، ومنها ما زال يتولى مسؤوليات في أجهزة وإدارات الدولة، المدنية والعسكرية أو المخابرات.
هذه الإنجازات، وهذا الانفتاح لم يكن يُـشبع النشطين الحقوقيين، إن كانوا تعرّضوا للانتهاكات أو تابعوها، ودب الانقسام بينهم، بين مطالب بأن يذهب المسلسل إلى المسؤولين ومتابعتهم حتى لا تتكرر التجربة ويكونوا عبرة لغيرهم، فيما طالب آخرون بأن تكون التعويضات المادية والمعنوية جبرا للضرر الذي لحق بالضحايا وعائلاتهم كافية، حتى لا يؤدي الذهاب بعيدا إلى تعثر المسلسل، وبالتالي توقفه.
هذا النقاش الذي كان على شاشة التلفزيون وصفحات الصحف أو على المنابر، توقّـف قليلا بعيد هجمات 16 مايو، حيث انشغل الحقوقيون بمتابعة الانتهاكات الجديدة. وبعد هدوء نسبي، أعلن الملك محمد السادس عن تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة في يناير 2004، وكلّـف ادريس بن زكري، النشط اليساري والحقوقي والمعتقل السياسي السابق برئاستها، وتكون مهمتها فتح كل الملفات وتشجيع المتضررين من الحديث بصوت علني ومرفوع أمام وسائل الإعلام.
تعزيز ثقافة التربية
وفي الأسبوع الماضي، دشّـنت الهيئة سلسلة لقاءات في الجامعات المغربية لتقديم فلسفتها في عملية تسوية ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، والعمل على تشجيع الأبحاث والدراسات حول الجوانب المختلفة لهذا الملف، بما يعزز تكريس ثقافة وقيّـم حقوق الإنسان، والدفع بالجامعة المغربية لخلق ديناميكية أكاديمية جديدة تنخرط بموجبها في هذا المسار، وتواكبه بإحداث مجموعات دراسات وبحوث حول عدد من القضايا من قبيل العدالة الانتقالية، والتاريخ الراهن، وأدب الاعتقال وحقوق الإنسان.
واعتبرت الهيئة أنه من شأن انخراط الجامعة المغربية في هذا الورش الأكاديمي، تعزيز ثقافة التربية على حقوق الإنسان، وتطوير البحث الأكاديمي في هذا المجال، وجعل الجامعة تُـواكب بالدراسة والتحليل والبحث العلمي القضايا المرتبطة بهذا المسار، مما سيُـساهم في متابعتها له بشكل معمّـق، بعد انتهاء مدة ولاية الهيئة.
وتعتقد الهيئة أن التطورات الراهنة في مجال النهوض بثقافة حقوق الإنسان وتعزيز الديمقراطية، أفضت إلى ميلاد مجالات تخصُّـصية على المستوى العالمي، أبرزها الدراسات في مجال العدالة الانتقالية، والتي تتفرع عنها تخصصات تلامس قضايا “الحق في معرفة الحقيقة”، و”الحق في العدالة”، و”الحق في جبر الأضرار”، و”الضمانات القانونية والمؤسسات لعدم تكرار الانتهاكات”.
وخلال الشهور الماضية، ومن بين 22 ألف طلب تعويض لضحايا الانتهاكات، تلقت الهيئة أكثر من خمسة آلاف طلب يرغب أصحابها الاستماع إلى معاناتهم علنية. وقامت وحدة الاستقبال بالهيئة باختيار الأشخاص الذين سيُـستمع إليهم وفق معايير موضوعية على ضوء مُـعطيات جُـمعت حول البيانات التي تقدَّم بها هؤلاء، بدءا بتعريف الضحية، وتحديد والتحقق من هويته، والممارسات الدالة على التعذيب وأنواعها المختلفة، وتحديد نوع الضرر والتأكّـد من صحة البيانات المقدمة من خلال مقارنات بين المعطيات المتوفرة.
جرأة وثقة السلطة
التجربة المغربية الوليدة، التي تبدأ يوم الثلاثاء 21 ديسمبر ولمدة يومين، خطوتها الجديدة في الرباط قبل أن تنتقل إلى المدن الأخرى وفق جدول زمني، ليست مولودة من فراغ، إذ أمام المشرفين عليها والمعنيين بها، تجارب شعوب أخرى سارت على طريق المصالحة بفتح ملفات الانتهاكات والخروقات التي مسّـت حقوق الإنسان – أبرزها تجربة جنوب إفريقيا، والتشيلي، والسلفادور ، مع الاختلاف بين هذه التجارب ومدى نجاحها وفشلها – إلا أنها تعبّـر عن جُـرأة السلطة وثقتها بأن الانفتاح، وتصفية ترِكَـة الماضي وملفاته السلبية ممزوجا بالتسامح، يشكّـل أحد المعابر الأساسية نحو الاستقرار والتنمية.
محمود معروف – الرباط
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.