عالم “مبني على الرشوة”؟
أصدرت منظمة الشفافية الدولية تقريرها السنوي الرابع حول انتشار الرشوة، والذي ركز هذا العام على الفساد في قطاع الإنشاءات وإعادة البناء والتشييد.
وقد اختص التقرير العراق بأحد فصوله، كمثال على انتشار الرشوة في مشاريع إعادة الإعمار في مجتمعات ما بعد الحرب.
سلط التقرير السنوي لمنظمة الشفافية الدولية، ومقرها برلين، الضوء على الفساد في قطاع الإنشاءات، الذي رأى بأنه أكبر مما هو عليه الحال في العديد من القطاعات الإقتصادية الأخرى.
وقال التقرير الصادر في 16 مارس الجاري، إن البيانات المستخلصة من دراسته حول الفساد في قطاع الإنشاءات والتعمير، تشير إلى انعكاساتها السلبية على الثروة المالية للشعوب والبيئة، وتساعد على انتشار الرشوة. وتضمن التقرير 24 دراسة واستطلاع رأي، ودليلا حول مستوى الرشوة في 40 دولة.
وأضاف التقرير “لقد كشفت عمليات المسح وبشكل متكرر على أن حجم الفساد في مجال الإنشاءات هو أكبر مما عليه الحال في باقي القطاعات الإقتصادية الأخرى، ويمكن التعرف على مستوى الفساد في هذا القطاع من خلال حجمه وتنوعه”، حيث ينوه التقرير إلى أن حجم الأموال المستثمرة في قطاعات الإنشاء المختلفة يبلغ حوالي 3.2 مليار دولار سنويا، تدخل في مجالات أعمال البنى التحتية بما فيها محطات توليد الطاقة وبناء المساكن.
أما دخول الفساد في عمليات الإنشاء والتعمير فيبدأ، حسب التقرير، من مراحل التخطيط للمشروعات ومن خلال اجراءات منح عقود التشييد والتشغيل والصيانة أيضا، حيث يقول التقرير إن جميع مراحل عمليات الإنشاء والتشييد عرضة لعمليات الفساد الدولي التي وصفها التقرير بـ”الفساد العابر للقارات” من خلال أذرع الدول المتطورة الموجودة في الدول النامية، والتي قد تحاول التأثير على قرارات الدول النامية في اجراءات منح العقود لإختيار الشركات الموجودة في الدول المتطورة، بالرغم من أن تلك الشركات لم تقدم أفضل وأقل الأسعار.
المثال العراقي
وشدد التقرير على اعتبار الحاجة لوضع معايير ضد الفساد في السنوات الأولى بعد الحرب في غاية الأهمية، واضاف “إن احد أخطر أشكال الفساد، هو عندما يتم تصميم مشاريع البنية التحتية لتناسب مصالح واحتياجات الشخصيات الرسمية المتنفذة ومؤسسات صاحبة نفوذ لدى السلطة، بدلا من أن تناسب احتياجات الشعب المحتاج”.
وقد اعتبر التقرير الحالة العراقية مثالا واضحا على الفشل الأخلاقي الذي مني به المجتمع الدولي في مكافحة الرشوة والفساد، تارة بسبب فضيحة برنامج النفط مقابل الغذاء، وتارة أخرى بسبب عدم الالتزام بأدنى مقومات الشفافية في مشاريع إعادة إعمار العراق بعد الحرب.
ففي الحالة الأولى، رأى التقرير أن مصداقية المجتمع الدولي من أجل لعب دور أكبر في كبح جماح الفساد تعتبر مصداقية مجروحة بعد ما شهده العالم من فضيحة النفط مقابل الغذاء.
أما في الحالة الثانية، فرأي بأن تصميم المشاريع تم بطريقة لا تمكن الشركات الصغيرة من الدخول في دائرة المنافسة، واستيلاء شركات مقربة من أشخاص لهم صلة بدوائر الحكومة الأمريكية على أكثر العقود واهمها.
وقال التقرير إن عدم الإلتزام بمقومات الشفافية في عملية إعادة اعمار العراق أدى إلى انتشار الفساد على مستوى ضخم، وعزى ذلك إلى تدفق الأموال بشكل مفرط بدون اجراءات صرف وفق الأصول، وعدم وجود نظام بسيط لحصر ما تم العثور عليه في الوزارات والمصالح الحكومية بعد انهيار نظام صدام حسين، إضافة إلى ميراث الشعب العراقي من الفساد بسبب سيطرة الحكومة السابقة على الإقتصاد.
كما رأى التقرير أن ما يفرضه نادي باريس من ضرورة تخصيص الشركات الحكومية العراقية بسرعة كبيرة كشرط لإعادة جدولة ديون العراق “قد يفسح مجالا أوسع لفرص ممارسة عمليات فساد”.
توصيات سويسرية لتلافي الأخطاء
وعلى الرغم من أن التقرير لم يتناول سويسرا، التي تقف ضمن أول 10 دول الأكثر ابتعادا عن الرشوة في مجال الإنشاء والمعمار، إلا أن الفرع السويسري للمنظمة فضل أن تكون النسخة الموزعة في الكنفدرالية مشفوعة بنتيجة دراسة كان أعدها حول الفساد في قطاع الإنشاءات على الصعيد المحلي، هي خلاصة ما دار في جلسات نقاش وتبادل أفكار مع كل من المهتمين بمجال البناء، سواء من الشركات المنفذة أو الهيئات الحكومية المراقبة لعمليات الإنشاء والتشييد، وفي حضور خبراء قانونيين من جامعة بازل.
الصورة في سويسرا ليست على نفس الدرجة من السوء مقارنة مع بلدان أخرى، إلا أن التوصيات التي خرجت بها تلك الدراسة طالبت بضرورة الإلتزام بالشفافية في التعاقدات المبرمة، سواء لصالح المباني الحكومية أو في القطاع الخاص.
وتطالب التوصية، التي ركزت الدراسة على اعتبارها “رغبات واجبة التنفيذ”، بالتزام طرفي التعاقد، باتخاذ كافة التدابير اللازمة للحيلولة دون حصول أية جهة على امتيازات معينة، تقلل من الشفافية في التعامل، أو يمكن النظر إليها على أنها قادت إلى هذا التعاقد على حساب المصلحة العامة.
ومن بين تلك “الرغبات واجبة التنفيذ” طالبت الدراسة السويسرية بضرورة توثيق جميع خطوات المشروع التي تسبق التعاقد، وتوعية المشتغلين في مجالات الإنشاء والتعمير بخطورة الإنزلاق إلى رفع المصلحة الخاصة على القانون العام، واثر ذلك على المجتمع، والاحترام المتبادل بين جميع المتعاملين في تلك المجالات، بما يضمن تكافؤ الفرص.
دور التمويل الدولي
ينوه التقرير إلى انفاق 250 مليار دولار على مشاريع البنية التحتية في الدول النامية وحدها، من المفترض أن تكون محددة المسارات، إلا أن التقرير وجد أن للعديد من الجهات الممولة والمانحة دورا كبيرا في تفشي الفساد، مع التركيز على البنوك المتعددة الجنسيات، على اعتبار أن تلك المؤسسات المالية هي أحد المحفزين على جلب استثمارات القطاع الخاص.
ويرى التقرير أنه على الرغم من أن البنوك المتعددة الجنسيات تقوم بدور هام في مشاريع إعادة الإعمار والبنى التحتية، وقامت بوضع لائحة سوداء بأسماء الشركات المتهمة بممارسة الفساد، إلا أنها لا تقدم أية ضمانات للحيلولة دون ظهور الفساد في المشاريع المستقبلية، من خلال تلافي الأساليب المعروفة في مثل تلك الأحوال.
كما انتقد التقرير تقاعس الوكالات الدولية المانحة للقروض لعدم اتخاذها خطوات أكثر حزما في مكافحة الفساد، في الوقت الذي من المفترض أن تكون هي الأحرص على ذلك، نظرا لأن تلك الأموال ما هي في النهاية سوى ديون تثقل كاهل الدول المستفيدة.
رشوة التغطيات الإخبارية الإعلامية
وقد خصص التقرير فصلا في الدراسة، اهتم بالرشوة في التغطيات الإخبارية الإعلامية وارفقه بدليل، رتب فيه 67 دولة حسب مصداقيتها في عدم تقديم الرشاوى في هذا المجال، احتلت سويسرا المرتبة الرابعة فيه بعد فنلندا والدنمارك ونيوزيلاند، كافضل الدول حرصا على التكوين المهني وأخلاقيات المهنة وحرية الصحافة والمنافسة، بينما احتلت دولة الإمارات العربية المتحدة المرتبة 53 “كأفضل دولة عربية”، تليها الكويت بأربعة نقاط ثم البحرين والأردن ومصر في المرتبة 60 و 61 و 62 على التوالي، وتأتي المملكة العربية السعودية في المرتبة قبل الأخيرة، التي تحتلها الصين.
وخلص التقرير في هذا الفصل إلى أن العلاقة بين الثقة والفساد عكسية بشكل دائم؛ فالدول ذات المصداقيات ومعدلات الثقة العالية، يقل فيها الفساد بشكل كبير، والعكس بالعكس، كما نوه إلى أن الثقة والأمانة أهم من وجود مؤشرات تركيبية مثل مستوى الديموقراطية أو الاستقرار السياسي.
لقد تطرق تقرير منظمة الشفافية الدولية بتناوله الفساد في قطاع الإنشاء والتعمير، إلى ملف بالغ الأهمية ومتداخل بصورة معقدة، حيث تجتمع مصالح الشركات الدولية الكبرى والمؤسسات المالية الدولية، مع اهتمامات كبار رجال الأعمال والممسكين بزمام الأمر.
أما استفادة المواطن العادي من إعادة الإعمار أو الانشاء والتشييد والتجديد، في رفع مستوى معيشته وتحسين استفادته من البنى التحتية والخدمات، فمن الواضح أنها تأتي في ذيل قائمة الإهتمامات.
تامر أبو العينين – سويس انفو
أبرز أمثلة الفساد في مجال البناء حسب التقرير السنوي لمنظمة الشفافية الدولية لعام 2005:
مشروع مياه مرتفعات ليسوتو.
مشروع كولونيا الألمانية لحرق النفايات.
مشروع ياكيريتا لبناء محطة لتوليد الكهرباء في الأرجنتين وباراغواي.
خزان مياه سد باكون الماليزي.
مشروع بناء محطة باتان للطاقة النووية في تايوان.
مشروع بناء سد بيغالي في أوغندا.
اهتم التقرير السنوي لمنظمة الشفافية الدولية بالفساد في مجال الإنشاء والتعمير.
من بين التوصيات التي نصح بها التقرير: تشجيع الشركات التي لها ميثاق واضح للحد من الفساد ومحاربته، التحول إلى اسلوب فتح المظاريف العلني في المناقصات الدولية، التعاون مع شركات مراقبة دولية مستقلة وذات نزاهة كبيرة، رفع رواتب موظفي المشتريات وذوي المناصب الرفيعة.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.