عراق المالكي.. وذلك العراق الآخر
حاول رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي خلال زيارته الأخيرة لواشنطن إضفاء مسحة من التفاؤل على الوضع في بلاده، والتماشي مع أجندة الرئيس بوش التي تصوّر المغامرة العسكرية الأمريكية في العراق كسجّـل ناصع للإنجازات.
إلا أن خبراء أمريكيين رسموا صورة مختلفة تماما لواقع الحال في العراق اليوم.
رصد المحللون السياسيون نقاطا واضحة لعراق المالكي كما حاول تقديمه للشعب الأمريكي المتبرم من تكاليف المغامرة العسكرية في العراق، والتي زاد عدد القتلى الأمريكيين فيها عن ألفين وسبعمائة، وزادت تكاليفها عن ثلاثمائة ألف مليون دولار في أقل تقدير، دون أن يلوح في الأفق بروز العراق كنموذج للديمقراطية تحتذيه دول الشرق الأوسط، كما وعد بذلك الرئيس بوش أو كسر شوكة حركة التمرد التي يحلو للرئيس بوش وصفها بالإرهابيين.
فقد شدّد رئيس الوزراء العراقي خلال زيارتها الأخيرة لواشنطن على أن بلاده شريك وحليف في الحرب الأمريكية على الإرهاب، وأن العراق هو أرض المعركة الرئيسية التي سيتم فيها الانتصار على الإرهاب، وأن عراق اليوم هو عراق حرّ، وهذا ما لا يريده الإرهابيون الذين يستهدفون المدنيين. وأكّـد المالكي أن العراق سيصبح مقبَـرةً للإرهاب، ولن يتمكّـن الإرهابيون من تحويل العراق إلى نُـقطة انطلاق لتنظيم القاعدة!
امتـنان و.. منـاشدة
وحول الحالة السياسية في العراق، قال المالكي إنه أطلق مبادرة المصالحة الوطنية من أجل نجاح العملية السياسية، وأن العراقيين سوف يدافعون عن الحرية بكل قوة لأنهم ذاقوا طعمها بعد أن انتقل العراق من دولة الحزب الواحد إلى نظام متعدّد الأحزاب، وشكر الولايات المتحدة، التي قال “إن الفضل يعود إليها وإلى تضحيات الشعب العراقي في كون عراق اليوم عراقا ديمقراطيا”. وألمح المالكي إلى ارتفاع مستوى معيشة المواطن العراقي، وأشار إلى أن التوقعات تشير إلى استمرار تحسّـن الاقتصاد العراقي وتنميته.
كما أكّـد أن العراق لا يزال يحتاج إلى الدعم الأمريكي ومساندة المجتمع الدولي من أجل إعادة إعماره وتحسين ظروفه الاقتصادية. وفي هذا الصدد، ناشد المالكي الولايات المتحدة التحوّل من الاعتماد على الشركات الأمريكية، التي تسعى إلى تضخيم هوامش أرباحها من خلال عملها في العراق، إلى إشراك الشركات العراقية في برامج إعادة الإعمار بمساندة فنية من الشركات الأمريكية. وأقر بأن خطّـة إعادة إعمار العراق، يجب أن تبدأ فورا بالقضاء على مشكلة البطالة ومواصلة بناء الأجهزة الأمنية، لإضعاف شوكة الإرهاب داخل العراق.
وفيما حاول المالكي الإشارة إلى بداية نجاحِ ما وصفه بالخطّـة الأمنية، التي بدأ تنفيذها في بغداد قبل ستة أسابيع، أظهرت تصريحات الرئيس بوش والقادة العسكريين الأمريكيين إخفاق تلك الخطة والحاجة إلى تعديلها، بإضافة مزيد من قوات الشرطة العسكرية الأمريكية وقوات أمريكية أخرى تمّ سحبها من مناطق أخرى خارج بغداد لتساعد قوات الأمن العراقية في تقليص الهجمات التي يروح ضحيتها عشرات العراقيين يوميا.
العراق الآخر
وقد علّـقت النائبة الديمقراطية نانسي بيلوسي، زعيمة الأقلية الديمقراطية في مجلس النواب على عراق اليوم كما حاول المالكي تصويره، فقالت “إنه يحاول نفْـي ما يحدُث بالفعل على أرض الواقع، فالحقيقة المُـرّة تكمن في أنه من الصعوبة بمكان العثور على بريق من التفاؤل إزاء ما يشهده العراق اليوم، خاصة وأن العنف اليومي يرتكبه عراقيون ضد عراقيين”.
كما أقر الجنرال جون أبي زيد، قائد القيادة الأمريكية المركزية، بأن العنف الطائفي في بغداد وضواحيها بات يشكّـل أكبر تهديد للعراق اليوم، حيث تحوّلت العاصمة العراقية إلى ساحة القتال الرئيسية بين الجماعات الشيعية والسُـنية المتنازعة من أجل السيادة في الأمة العراقية، ومن المرجّـح أن يُـسهم ذلك بشكل كبير في عدم تحقيق الاستقرار في الوقت الحاضر.
واتفق معه المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية، برايان ويتمان، إذ قال “إن السيطرة على الوضع الأمني في بغداد أصبحت تشكّـل مِـفتاح السيطرة على الوضع الأمني في عموم البلاد”.
كما ذكر تقرير أصدرته مجموعة خبراء الأزمات الدولية في واشنطن، أن العنف الطائفي وتصاعُـد هجمات المتمردين وارتفاع أرقام الضحايا من المدنيين العراقيين يوميا في محاولة للإطاحة بحكومة المالكي الجديدة، بات يشكّـل خطرا يدفع بالعراق نحو حافة كارثة حرب أهلية.
وذكر التقرير أنه، رغم إجراء الانتخابات وصياغة دستور عراقي جديد وتدفق آلاف الملايين من الدولارات لإعادة بناء ما خربته الحرب في العراق، فإن الانهيار الأمني في البلاد وشيُـوع الفساد، سواء في أوساط المسؤولين الحكوميين أو في عقود وممارسات الشركات الأمريكية العاملة في العراق، قد أعاق بشكل هائل جهود إعادة الإعمار، كما أن الفساد وعدم كفاءة الشركات التي تديرها الدولة، حال دون أن يتمتّـع المواطن العراقي بالزيادات المتعاقبة في أسعار البترول، وإن كان تدهور الوضع الأمني سببا مباشرا في عدم التمكّـن من زيادة قُـدرة العراق على إنتاج المزيد من البترول.
ويتفق مع هذا التقييم السيد سنان الشبيبي، محافظ البنك المركزي العراقي الذي يرى أن تدهور الوضع الأمني وتدنّـي قُـدرة العراق على الإنتاج الاقتصادي، أدّى إلى وصول معدّل التضخّـم المالي في العراق إلى أعلى مستوياته، حيث بلغ في شهر يونيو الماضي 52%، مما دفع بأسعار الفائدة للارتفاع من 10% إلى 12% في الشهر الماضي، وأشار خبراء أمريكيون إلى أن ارتفاع معدّل البطالة بين العراقيين، ألقى بالكثيرين من العراقيين في أحضان الميليشيات المسلحة وحركة التمرد.
“الـمشكلة البغدادية”
هكذا يتّـضح أن القاسم المشترك الوحيد بين عراق السيد المالكي وذلك العراق الآخر، الذي يئِـنُّ من الجراح، هو الوضع الأمني المتدهور، وخاصة في العاصمة العراقية، مما حدا بالدكتور أنتوني كوردسمان، الخبير العسكري بمركز الدراسات الإستراتيجية في واشنطن، إلى إصدار دراسة بعنوان “المشكلة البغدادية”، نبّـه فيها إلى المكاسب والأخطار الكامنة في التعديل الذي أدخله الرئيس بوش على الخطة الأمنية في بغداد أثناء زيارة رئيس الوزراء العراقي لواشنطن، حيث قال:
“إن الإعلان عن إرسال المزيد من القوات الأمريكية إلى بغداد يشكّـل تنبيها مُـفزعا إلى خطورة ما وصل إليه الوضع الأمني في العراق، وسيعني تعزيز القوات الأمريكية والعراقية في بغداد إضعاف القدرات الأمريكية والعراقية في مناطق العراق الأخرى، لأنه رغم كل ما يُـقال عن أن حركة التمرّد تركِّـز جهودها على بغداد وأربع محافظات أخرى، فإن التوتر الطائفي يتّـسع بشكل منتظم في معظم أنحاء العراق”.
ويسجل الدكتور كوردسمان ملاحظات أخرى تزيد من قتامة الصورة فيما يتعلق بالوضع في العراق، منها عدم إحراز تقدّم سياسي يُـذكَـر في مجال المصالحة الوطنية على مستوى قادة القوى السياسية في العراق، فيما تتّـسع حدّة التطاحن الطائفي والعرقي على المستوى الشعبي، ويظهر عدم كفاءة حكومة المالكي في تنفيذ ما وصفه بالأولويات الصحيحة التي اختارها للعمل الداخلي في العراق.
ونبّـه الخبير الأمريكي في دراسته، إلى أنه لن يكون بوِسع القوات الأمريكية والعراقية الإضافية في بغداد أن تحقّـق شيئا إلا شراء المزيد من الوقت، اللّـهُـم إلا إذا أدّت مهامّـها الأمنية في بغداد وخارجها في إطار مناخ يتم فيه التوصل إلى مصالحات وحلول وسط، بين الفئات العراقية الرئيسية تقنع الشعب العراقي بأن المصالحة قد بدأت على مستوى القيادات السياسية على الأقل.
كما نبّـه إلى أن البطالة تتنامى بسرعة كبيرة في العراق، وحتى الذين تتوفّـر لهم فُـرص العمل، يجابهون مشكلة كيفية الوصول بأمان إلى مقار أعمالهم، ناهيك عن المشاكل الأمنية المتفاقمة في بغداد وضواحيها، والتي أدّت إلى انهيار الكثير من الأعمال الخاصة، فيما تراجعت خدمات التعليم والصحة بسبب التدهور الأمني.
وخلص الدكتور كوردسمان إلى القول: “ربما لا يكون هناك خيار أمام حكومة المالكي وإدارة بوش إلا محاولة إظهار العضلات في بغداد، ولكن مع تركيز المواطنين على أرقام القتلى من العراقيين يوميا واضطرار السكان إلى النزوح إلى مناطق أخرى، وظهور أشكال أخرى من التطاحن العرقي والطائفي، والضغوط الاقتصادية والاجتماعية يلوح خطر المشكلة البغدادية في التحول بوتيرة أسرع نحو الحرب الأهلية”.
لذلك، ينصح الخبير الأمريكي بضرورة أن يواكب تعزيز قدرات أجهزة الأمن العراقية وإصلاحها، بحيث تحظى بثقة المواطن العراقي إحراز تقدم محسوس، يوفّـر منافع سياسية واقتصادية واجتماعية للمواطنين في بغداد وضواحيها، والذين يقدَّر عددهم بسبعة ملايين مواطن، بحيث لا يتم استخدام القوة في فراغ سياسي واقتصادي، وإلا تحوّلت القوات الأمريكية الإضافية في بغداد إلى رمز مجسّـم للاحتلال الأمريكي، يسهّـل لحركة التمرد استخدامه كهدف لحملتها السياسية، وتستطيع الميليشيات المسلحة والقوات الطائفية تصوير القوات الأمريكية التي تستهدف المساعدة في تحسين الوضع الأمني، على أنها عدو يجب تعاون الجميع على اجتثاثه من بغداد.
محمد ماضي – واشنطن
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.